كيف سيخرج السودان من المأزق الاقتصادي الراهن؟
عانى السودان في مدة حكم البشير التي استمرت منذ ١٩٨٩ وحتى الإطاحة به في ثورة شعبية ٢٠١٩ من فساد كبير عصف بمؤشراته الإقتصادية الكلية وانعكس على أداء الحكومة المركزية التي بين الفينة والأخرى تواجه انقلابًا أو مشاكل كمشكلة شرق السودان التي تعاني من التهميش منذ حكم النظام السابق وانفجرت منذ يوليو الماضي مسببة كوارث بحق الإقتصاد، في ضوء ذلك يوضح خبراء "للفجر" أزمة الاقتصاد السوداني من منظور عالمي والسياسة التي من خلالها تتم مواجهة هذه الأزمة
أعلنت الخرطوم مساء أمس، الأحد، عن استئناف صادرات النفط من جنوب السودان عبر ميناء بشاير
وجاء هذا بعد ساعات من إرسال الخرطوم وفدًا وزاريًا للتفاوض مع المحتجين الذين كانوا يغلقون الميناء، وترأس هذا الوفد الفريق أول ركن شمس الدين كباشي عضو مجلس السيادة السوداني، وحضر الاجتماع الوفد الحكومي الاتحادي ووفد مجلس نظارات البجا ولجنة أمن ولاية البحر الأحمر، واتفق في الاجتماع على إعادة فتح ميناء بشاير لعوده البترول لجنوب السودان.
وكانت شركة خطوط نقل خام النفط التابعة لوزارة الطاقة والنفط السودانية أعلنت صباح أمس عن تعرض ميناء بشاير لخسائر بنحو مائة ألف برميل يوميًا من إنتاج نفط دولة جنوب السودان وهو ما يعادل خسارة مليون دولار يوميًا نظير تكرير ونقل النفط الخام وذلك نتيجة إغلاق المحتجون للميناء بشاير.
في هذا الصدد يقول الدكتور محمد البنا، أستاذ الإقتصاد والمالية العامة بجامعة المنوفية، يعاني السودان من اختلالات هيكلية مزمنة في الإقتصاد الوطني، فهو اقتصاد ريعي يعتمد على تصدير المواد الخام بالدرجة الأولى ومن المؤسف أنه كلما حاول السير في الإتجاه الصحيح خلال فترات الحكم الديمقراطي، يصاب بخيبة أمل كبيرة من دون إكمال دورة خماسية واحدة.
وأضاف البنا في تصريحات خاصة " للفجر"، وتعد الفترة الانتقالية صعبة للغاية خاصةً في معالجة الوضع الاقتصادي، بالنظر إلى التركة الثقيلة التي خلّفها النظام السابق، ولا سيما خلو خزينة الدولة من العملات الأجنبية، وبلوغ ديون البلاد نحو ٦٠ مليار دولار، ولكي يتم وضع الإقتصاد في مسار التنمية لا بد من الإعتماد على برنامج اقتصادي يعتمد بشكل أساسي على الموارد الذاتية حتى يكون هناك إصلاح حقيقي ولا يكتفي بالقروض التي قدمتها بعض الدول والمؤسسات الدولية للسودان خلال الفترة الماضية
وأوضح استشاري المالية، يبلغ تعداد سكان السودان قرابة ٤٤ مليون نسمة عام ٢٠٢٠، وبحسب خط الفقر الوطني يعيش نحو ٤٧٪ من سكان السودان تحت خط الفقر، كما يبلغ متوسط دخل الفرد حوالي ٦٥٠ دولار في المتوسط سنويًا، مما يضعها ضمن أفقر بلدان العالم، وفق تصنيف البنك الدولي.
ويعاني السودان حاليًا من تراجع معدل النمو الاقتصادي بمعدل ١،٦٪ كما عانى من معدل تضخم جامح بلغ ١١٢ دولار عام ٢٠٢٠
الفيضانات وجائحة كورونا من عوامل التضخم الاقتصادي:
وتابع الخبير المالي، وبرغم ما سجله السودان من انكماش اقتصادي للسنة الثالثة على التوالي في عام ٢٠٢٠ (-٣،٦٪)، فقد ظل الاقتصاد أكثر تماسكًا من اقتصاد منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ككل الذي تأثر بسبب تدابير التخفيف من آثار كوفيد-١٩ وتعرض البلاد لفيضانات بمستويات قياسية.
وقد ارتفع التضخم إلى ٣٩٧٪ في مايو ٢٠٢١ على أساس التغير السنوي بسبب التوسع الكبير في تسييل عجز المالية العامة، وزاد تفاقمًا بسبب نقص الغذاء والوقود وكان من المتوقع أن ينتعش النمو في ٢٠٢١ إزاء تراجع التضخم تحت تأثير انخفاض عجز المالية العامة وتَقَلص الحاجة إلى التسييل مع زيادة التمويل بالمنح.
إلا أن جائحة كوفيد-١٩ أدت إلى تَعَقُّد التحديات التي تواجه الحكومة الانتقالية. ويبلغ العدد الرسمي المؤكد للإصابات بالفيروس ٣٤٨٨٩ إصابة بالإضافة إلى ٢٦٠٠ وفاة اعتبارا من ٢٤ مايو.
الأزمات تدرج السودان تحت مبادرة (هيبيك):
واستطرد دكتور محمد البنا: أسس صندوق النقد الدولي مبادرة الدول الفقيرة المثقلة بالديون، هيبيك، في العام ١٩٩٦م لتخفيف أعباء الدول الفقيرة من الديون الخارجية من خلال إلغاء متفق عليه مع الدائنين الخارجيين، وفي ٣٠ يونيو، قرّر صندوق النقد الدولي منح السودان الحصول على مبادرة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون، هيبيك، بغرض تخفيف وإلغاء الديون للدول المشاركة مع دائنيها الخارجيين، الاحتمال الذي أصبح متاحًا للسودان كشرط مسبق لدخوله في المبادرة، أُلزم السودان بسداد متأخرات ديونه لمؤسسات التمويل الدولية، وهي المهمة التي أُنجزت بصورة كبيرة، بفضل المساعدات والقروض التجسيرية من الدول الخارجية
وتواجه الحكومة الانتقالية ظروفًا اقتصادية صعبة، بجانب تركة ثقيلة من العقوبات المفروضة في ظل النظام السابق، وظل السودان يرزح في متأخرات الديون المستحقة لدى صندوق النقد الدولي والدائنين الدوليين الآخرين منذ العام ١٩٨٤
وبالإضافة إلى الإصلاحات المحلية، الشرط الأساسي لدخول السودان في مبادرة (الهيبيك)، كان تسوية متأخراته لدى صندوق النقد الدولي ودائنيه الرسميين الآخرين، مثل بنك التنمية الإفريقي. هذا الشرط كان مطلوبًا لإظهار كفاءة السودان الائتمانية، وبسبب أن الدائنين الرسميين متعددي الأطراف في مرتبة أعلى من الديون الثنائية والدائنين الخاصين في سداد الديون السيادية.
واستدرك أستاذ الاقتصاد، لكن سودان العام ٢٠٢١ ليس في موقع يمكّنه من سداد ديون ظلت تتراكم لقرابة الأربعة عقود وجاء الحل من الدول المانحة من ضمن شركاء السودان الدوليين خلال انتقاله السياسي هذه البلدان أصدرت مِنحًا وقروضًا تجسيريه لسداد المتأخرات لدى صندوق النقد الدولي وبنك التنمية الإفريقي
الأمر الذي بموجبه اجتمع المجلس التنفيذي لكل من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في ٢٣، ٢٦ مارس الماضي، على التوالي، للنظر في أهلية السودان للحصول على تخفيف لأعباء الديون من خلال المبادرة المعززة المعنية بالبلدان الفقيرة المثقلة بالديون وأثنى المجلسان التنفيذيان على مواصلة السلطات التزامها بالإصلاحات الاقتصادية والمؤسسية في ظل ظروف صعبة واتفقا على أن السودان سيكون مؤهلًا للحصول على المساعدة من خلال مبادرة هيبيك المعززة بناء على التقييم المبدئي ويمثل هذا التقييم خطوة مهمة نحو قيام كل الدائنين بإعفاء السودان من جانب كبير من مجموع ديونه الخارجية، والتي قُدِرت في نهاية ٢٠١٩ بمبلغ ٤٩،٨ مليار دولار أمريكي.
وسيؤدي تخفيف أعباء الديون بموجب مبادرة هيبيك إلى خفض كبير في أعباء الدين الخارجي السوداني. فمع افتراض تنفيذه بالكامل ومشاركة الدائنين فيه، ويُتوقع انخفاض دين السودان من حوالي ٥٦ مليار دولار في ظل الافتراضات الحالية إلى ٢٨ مليار دولار بالقيمة الحالية عند نقطة اتخاذ القرار. ومن المقدر أن يزداد انخفاض الدين عند نقطة الإنجاز إلى نحو ٦ مليارات دولار.
وللحصول على القيمة الكاملة لتخفيف أعباء الديون، سيكون على السودان بلوغ نقطة الإنجاز وفقا لمبادرة هيبيك، ويمكن تحقيق ذلك بمجرد استيفاء السودان لمسوِّغات الوصول إلى نقطة الإنجاز غير محددة التوقيت (بما في ذلك استكمال تنفيذ الاستراتيجية الكاملة للحد من الفقر لمدة عام واحد على الأقل) والحفاظ على سجل مُرْضٍ للأداء الاقتصادي الكلي بموجب اتفاق ECF، التسهيل الائتماني الممدد، المعقود معه.
لماذا يحتاج السودان للدعم المالي الخارجي:
واختتم الخبير الإقتصادي تصريحاته قائلًا، ديون السودان كبيرة ويتألف معظمها من مدفوعات متأخرة السداد منذ فترة طويلة تراكمت بمرور الوقت. وقد بلغت ديون السودان مستوى يتعذر الاستمرار في تحمله إذ تجاوزت ١٥٠٪ من إجمالي الناتج المحلي وأكثر من عشرة أضعاف الصادرات. ويهدف إطار مبادرة هيبيك إلى تخفيض أعباء ديون البلدان المؤهلة إلى ١٥٠٪ من صادراتها حتى تتماشى مع قدرتها على السداد.
ويزيد من حجم المديونية مكونات المديونية نفسها، فالسودان مدين لدائنين متعددي الطراف ١١٪، ودائنين ثنائيين من أعضاء نادي باريس ومن غير أعضائه ٧٨٪ موزعة على أساس ٤٢٪ و٣٦٪ على الترتيب ودائنين تجاريين ١١٪
وبموجب مبادرة هيبيك من المتوقع أن يشارك الدائنون في تخفيف أعباء الديون على أساس مبدأ المساواة في المعاملة، تعني المساواة في المعاملة أن السودان لا ينبغي أن يقبل من أي دائن شروطا أقل إيجابية من شروط الدائنين الآخرين، فعلى كل الدائنين تطبيق معامل التخفيض المشترك بالتساوي على رصيد ديونهم القائمة عند تقديم التخفيف.
وستركز الإصلاحات على ما يلي، استقرار المالية العامة من خلال زيادة تعبئة الإيرادات المحلية وتخفيض دعم الطاقة، وتدابير لتدعيم شبكة الأمان الاجتماعي، ودعم مرونة سعر الصرف، واعتماد نظام لاستهداف الاحتياطي النقدي، وتقوية القطاع المالي عن طريق تنفيذ نظام مصرفي مزدوج وإصلاح نظام تسوية أوضاع البنوك المتعثرة وتعزيز الحوكمة والشفافية وخاصة قطاع المؤسسات المملوكة للدولة.