منال لاشين تكتب: رسائل السياسة من العراق

مقالات الرأي




يمكن أن نتعاون مع اختلاف العرق والدين

أكبر تجمع للأضداد والخصوم القدامى فى بغداد

السيسى يترجم أقواله عمليا بلقائى رئيس إيران وأمير قطر

التنافس على لعب دور فى المنطقة أدى إلى توتر العلاقات بين الأشقاء

من رحم الدم والأمل فى عودة الأمن والثراء للعراق، ومن وحى مكافحة الإرهاب ومراجعة الأخطاء والخطايا.. من هذا وذاك احتضن العراق مؤتمرا مهما على أكثر من مستوى وأثمر أيضا عن تغييرات فى المشهد السياسى والاقتصادى فى أكثر من محور.

مؤتمر بغداد لم يكن قمة عربية للشجب واستعراض القوى ولا قمة إسلامية لتبرئة الذمة واستغلال الدين للوصول للزعامة أو الخلافة.. مؤتمر بغداد اختار عنوانا معبرا ونهجا فى ترجمة هذا العنوان على أرض الواقع، مؤتمر للتعاون والشراكة.

ولعل أول نجاح للمؤتمر أن جمع الأضداد بتعبير الخبراء تحت إطار إمكانية التعاون لتحقيق المصالح المشتركة، سياسة جديدة فى المنطقة تسمح بتنحية بعض الخلافات التاريخية والعرقية والسياسية وتبحث فقط عن العوامل المشتركة سواء فى التاريخ أو المصالح، مؤتمر اتخذ توجهه من حكمة رئيس الوزراء البريطانى الأشهر تشرشل (ليس هناك عداوات دائمة أو صداقات دائمة ولكن هناك مصالح دائما).

ولاشك أن نجاح قادة العراق فى جمع من لم يجتمعوا فى قاعة واحدة منذ سنوات طويلة يمثل أملا فى عودة الدور العراقى فى الوطن العربى وفى المنطقة كلاعب رئيسى يمكن أن يكون سندا وجسرا للعبور من خريطة سياسية إلى أخرى تحمل تنوعا واختلافا فى الفكر عكسته لقاءات بدت مفاجئة للبعض وموجعة لفئة أخرى، فإذا كانت الصور أفضل طريقة لتلخيص وتكثيف الأحداث، فإن صور لقاءات الرئيس السيسى مع كل من الرئيس الإيرانى وأمير قطر تعكس هذا التوجه الجديد، صورة رؤساء زعماء وقادة عرب وأوروبيين توحى برغبة فى تغيير نمط السياسة التقليدى فى المنطقة، وأمل فى تقارب وتعاون ينهى حالة الاحتقان والاضطراب والقلق الذى غرقت فيه المنطقة ودفعت خلالها فواتير خطايا وأطماع سياسات لدول أخرى.

بالطبع كانت هناك محددات للحضور فإما أن تكون من دول الجوار أو من الدول والمؤسسات المؤثرة فى المنطقة وذات المصالح المشتركة والراغبة فى تعاون وشراكة وليس احتلالًا واحتكارا وسيطرة.

من هنا يمكن تفهم أن وجود كل من مصر وفرنسا كان ضروريا لأن الرئيسين السيسى وماكرون يقودان بحق تيارا سياسيا معتدلا يحترم سيادة الدول ويهدف إلى تعزيز مبدأى التعاون والشراكة، والحرب على الإرهاب.

مكاسب عراقية

بعد انتهاء المؤتمر أصدر المركز المصرى للفكر والدراسات الاستراتيجية ما أسماه بقراءة أولية لنتائج المؤتمر بالنسبة للعراق، ويلخص عنوان التقرير توجهه (مكاسب عراقية)، خاصة أن المؤتمر انطلق وسط مناخ محمل بحدثين حاسمين، وهما الانتخابات المبكرة فى العراق ١٠ أكتوبر، والانسحاب المتوقع للقوات الأمريكية القتالية من العراق، ولاشك أن المؤتمر رسخ وضع العراق كلاعب رئيسى وفاعل فى المنطقة، كما عكس المؤتمر سياسة العراق أو بالأحرى رئيس الوزارء الكاظمى للانفتاح على كل القوى وإنهاء وقوع بغداد فى هوة الاستقطاب الإقليمى والدولى، فقد عانى العراق من كونه ساحة مفتوحة لكل اللاعبين الإقليميين أو الدوليين، ودفعت ثمن ذلك من أمنها ودماء أبنائها، كما أن المؤتمر عزز توجهه العراق الديمقراطى من خلال توجهات وكلمات الرؤساء وكبار المشاركين على حتمية إجراء الانتخابات العراقية فى موعدها، ولا يقتصر المكسب على السياسة فقط، فهناك مكاسب اقتصادية من خلال فعاليات المؤتمر مع كل دول الجوار بعيدا عن الخلافات والاختلافات، فالعراق يحصل على الكهرباء من إيران ويبلغ حجم التبادل التجارى بينه وبين تركيا ٢٠ مليار دولار، وله مشروعات اقتصادية فى إطار إعادة الإعمار مع مصر والأردن، وقد ضمن بالتواجد الخليجى الكبير فى المؤتمر على تحريك المياه الراكدة فى المشاركة الخليجية فى إعادة إعمار العراق فلا شك أن حضور كل من السعودية والكويت والإمارات وقطر فى المؤتمر وبتمثيل رفيع المستوى يعزز العلاقات بين دول الخليج والعراق، وقد أكدت كلمات القادة الخليجيين والأمين العام لمجلس التعاون الخليجى هذا التوجه حيث تعهد الأخير بالإسراع فى إطلاق مؤتمر إعادة إعمار العراق قريبا وبدعم خليجى.

من ناحية أخرى يسعى العراق إلى لعب دور الوسيط بين السعودية وإيران بعد قطع العلاقات بينهما لسنوات عديدة، وإلى الحفاظ على شعرة معاوية بينها وبين الجميع وأن تقف على مسافة واحدة من الجيران والقوى الفاعلة أو اللاعبة فى المنطقة.

كوكتيل الإرهاب

ولا يمكن التغافل عن سقوط أفغاستان فى يد طالبان عند تناول المؤتمر، فلاشك أن هذا الزلزال ألقى بظلاله الكثيفة على المؤتمر مثلما هز العالم كله، فنجاح طالبان فى أفغاستان قد يحفز داعش على الهجمات سواء فى العراق أو الدول العربية، فكيف تتعامل دول المنطقة مع كوكتيل الإرهاب الذى قد يطال كل الدول العربية دون تعاون وشراكة حقيقية ومخلصة.

ومن هنا تأتى أهمية التعاون الأمنى بين الجميع للحرب على الإرهاب بكل أنواعه وأشكاله ومواقعه، ولاشك أن تفجيرات مطار كابول قد أوصلت رسائل الإرهابيين إلى الجميع وأجبرتهم على إعادة حساباتهم، فالانتهازية السياسية فى ظل هذا المناخ شديد الحساسية والتعقيد سيدفع ثمنها الجميع فيد الإرهاب ستطال الجميع، والتجارب الدموية لا تزال محفورة فى ذاكرة كل الدول.

احتواء أم استقطاب؟

ولاشك أن اجتماع كل الأضداد فى المنطقة وصور لقاءات بعض الرؤساء والأمراء التى خرجت من المؤتمر قد صدمت البعض ممن غرقوا فى مناخ الاستقطاب والصراع بين دول المنطقة إما الخلافات الثنائية أو الجماعية، فبين إيران ودول الخليج شكوك كبرى وتاريخ من الصراعات، والعرب لا ينظرون إلى الدور الإيرانى فى لبنان بعين الرضا أو القبول، وحتى داخل الوطن العربى فإن الخلافات قد أفسدت العلاقات بين بعض الدول العربية، وبالنسبة للعراق فلا يزال عودة العلاقات الدافئة بينه وبين الكويت تحتاج إلى جهود متواصلة وصبر لرأب الشرخ العميق الذى أحدثه غزو العراق للكويت.

ومن ناحية أخرى فإن التنافس على لعب دور أكبر فى المنطقة أدى إلى توتر العلاقات بين بعض الأشقاء وإن لم يظهر على السطح أو يتحول لحرب كلامية وتراشق بالاتهامات.

وأمام الجميع اختيار من اثنين إما احتواء الخلافات إلى الحد الأدنى وتفعيل عوامل التعاون أو استمرار الاستقطاب والصراع ومحاولات الانفراد بالقمة، وهذا الصراع لا يضعف إلا الدول العربية نفسها خاصة بعدما غيبت الصراعات الداخلية دولا عربية مثل ليبيا وسوريا واليمن.

الاختيار العاقل

بالنسبة لى فإن الاختيار العاقل هو احتواء المشاكل والسيطرة على الخلافات خاصة بين الدول العربية، ولذلك لم أشارك فى حفلات ذبح وتشويه بعض الدول العربية رغم أخطاء صدرت من هذه الدول تجاه مصر، كما أنى لم أتورط فى اعتبار أن إسرائيل أقرب من بعض الدول العربية، وقد تعلمت من أستاذنا الكبير الراحل أحمد بهاء الدين ألا أتسرع أو أهرول للهجوم على تصرفات وسياسات بعض الدول العربية الموجهة ضد مصر، فقد كان محامى القومية العربية يرى أن قدر مصر أنها الشقيقة الكبرى وعليها أن تتحمل بعض التصرفات من الأشقاء الأصغر بالكثير من ضبط النفس، ومن ناحية أخرى كان الأستاذ بهاء يعى أن أيادى غربية تلعب الدور الأكبر فى إزكاء الصراعات بين الدول العربية سواء بشكل علنى أو سرى، وأن المستفيد الأكبر من أى خلافات عربية لم ولن يكون أى دولة عربية، فمهما بدت المكاسب السياسية أو الاقتصادية قصيرة الأمد لأى دولة عربية مهمة، فإن الخسائر على المدى البعيد تنتظر هذه الدولة أو تلك، لأن الحقيقة الحاسمة التى لا تقبل القسمة على اثنين أن أى دولة عربية بمفردها لن تكون مؤثرة لا بالمال ولا بالجغرافيا ولا التاريخ.

وعلى المنوال نفسه فلو تواجدت فرصة للتعاون العربى أو حتى تقليل حدة الصراع بين القوى الأخرى الفاعلة فى المنطقة إيران وتركيا فعلينا استغلالها، وذلك دون تفريط فى الثوابت والمصالح والأمن القومى المصرى أو العربى.

مصر القوية

ومن هنا لابد أن أثمن الخطوة السياسية والاستراتيجية المهمة للرئيس عبد الفتاح السيسى فى الموافقة على عقد لقاء مع كل من أمير قطر والرئيس الإيرانى، أن مثل هذه الخطوة تترجم سياسة مصر فى مد يد التعاون مع كل القوى وانفتاحها على القوى الإقليمية والاشقاء العرب، ومن غير المتصور أن يفكر أحد فى أن ثمة لقاء أو عشرة ستؤدى إلى علاقات دافئة وقوية مع إيران، ولكن أخطر ما يميز التوجه العربى هو ثنائية إما كل شىء أو لا شىء، إما أن نكون أصدقاء وأخوة أو أعداء، فى الغالب لا تعرف السياسة العربية المنطقة المتوسطة الكبيرة بين حدى الأخوة والعداء، وكل مراقب للسياسة المصرية فى السنوات الأخرى سيدرك أن الرئيس السيسى يسعى دوما إلى رأب الصدع بدلا من توسيع هوة الخلاف، ومد يد مصر القوية إلى كل من يريد التعاون والشراكة متجاوزا الاخطاء التى حدثت من البعض، وهذه السياسة تعكس أن مصر عادت دولة قوية ذات ثقل عربى وإقليمى ودولى لا ينكره أحد، لأن القوى لا يتعلق بالخلافات فى الماضى ولا يتصور أن يمكن أن يعيش منفردا أو مغردا خارج سربه التاريخى أو القومى.

وكل دولة عربية فعلت ذلك جرت عليها الخراب، لقد دفع العراق الشقيق ثمنا فادحا للخطوة المنفردة للرئيس الراحل صدام حسين فى غزو الكويت، فقد تحكمت أوهام القوة فى الرئيس السابق، ومن المؤسف والمقلق أن بعض الدول العربية أو بالأحرى قادتها لم يعلموا من درس صدام، وأخذهم الغرور إلى اللعب ضد اشقائهم، وتصور أو بالأحرى وهم القوة الكافية للتغريد بعيدا عن السرب العربى.

وإذا كانت دول أوروبا قد استطاعت الاتحاد رغم حربين عالميتين خربت بعض دولها على يد دول أوروبية أخرى، وأسقطت ملايين الضحايا، فإن الدول العربية قادرة على تجاوز خلافاتها واختلافاتها، وأن تقود وتقرر مصيرها بنفسها ويديها وليس بيد الآخرين من اللاعبين العالميين، وحين تتوحد الدول العربية عن الحد الأدنى من الأهداف فلم تتكمن القوى الإقليمية الأخرى الانفراد بالمنطقة، ومن ثم سنقطع الطريق على القوى الكبرى فى اللعب بالدول العربية وضربها بنيران صديقة أو شقيقة.

مؤتمر العراق خطوة مهمة تحتاج إلى أن نبنى عليها وعقد سياسى واستراتيجى جديد نطلب من جميع الأطراف دراسته بعمق بعيدا عن المصالح الضيقة والمكاسب قصيرة الأمد.

مؤتمر العراق ينقل لنا رسالة مهمة: أن القمة تتسع للجميع، وأن الصراعات التى مزقت المنطقة أصابت الجميع حتى أولئك الذين لم تنزف دماء شعوبهم أو تتقسم أوصال وطنهم.