د. نصار عبدالله يكتب: من خريجى كلية الاقتصاد.. ٤ـ أحمد راشد «الضبع راشد»

مقالات الرأي




أحمد محمد راشد أو «الضبع راشد» كما كان يعرف فى مسقط رأسه وهو قرية العوامية مركز ساقلته محافظة سوهاج هو واحد من أغرب الشخصيات التى تخرجت فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية ـ ربماعلى مدى تاريخها كله ـ، فقد كان قارئا واسع الثقافة بشكل مذهل، لكنه فى الوقت ذاته كان ميالا إلى استعراض تلك الثقافة ومولعا بالمناكفة الفكرية مع زملائه، بل مع أساتذته أيضا الذين كانت آراؤهم موضع انتقاد من جانبه بشكل بالغ الاستفزاز فى معظم الأحيان!، غير أن الأساتذة ـ وهذه شهادة حق وإنصاف ينبغى أن تذكر لهم ـ كانوا يقابلون مناكفاته المستمرة بهدوء وصبر فقد كانوا جيلا من العلماء العمالقة الذين يتسمون بالسماحة والتواضع والتقدير العميق للعلم والثقافة ،.. ولعل من أغرب المواقف المشهودة لأحمد راشد أثناء دراسته هوما حدث من جانبه عندما عقدالمؤتمر العام للاتحاد الاشتراكى بكلية الاقتصاد، ففى بداية المؤتمر اقترح الأمين العام وقد كان هو الطالب: «على الدين هلال» فيما أذكر ..اقترح إرسال برقية تأييد إلى الرئيس جمال عبدالناصر، وهنا رفع أحمد راشد يده قائلا إنه يعترض على التأييد!!، فأجابه على الدين هلال: من حقك أن تعترض ولكننا سنلتزم فى النهاية برأى الأغلبية، وطرح الأمر على المؤتمر الذى وافق بالإجماع على إرسال البرقية وهو ما اعتبره أحمد راشد دليلا على السوقية!، وطلب الكلمة فأعطيت له حيث انتهز الفرصة فشن هجوما عنيفا على الاشتراكية معتبرا إياها نظاما شموليا يصادر الحريات، وفى مقدمتها حرية الرأى.. ومختتما حديثه بمطالبة المؤتمر الاشتراكى بأن يصدر توصية بالأخذ بنظام التعددية الحزبية ونظام السوق!!، وتبادل الجميع النظرات التى لم يكن فيها غير معنى واحد: هذا شخص يسعى بقدميه إلى الاعتقال..بل إنه يلح فى طلبه إلحاحا غريبا.. ومع هذا فلم يعتقل أحمد راشد.. ولم يمسسه أحد بسوء!. وهو ما كان مثارا للعديد من الأقاويل والتأويلات والاجتهادات، ومع هذا فإن الحقيقة شبه المؤكدة فى رأيى أن جمال عبدالناصر لم يعتقل قط شخصا أبدى رأيا من خلال قناة مشروعة سمح بها هو مهما كان هذا الرأى مخالفا لسياسته، والواقع أن ما حدث مع أحمد راشد كان بشكل أو بآخر تكرارا لما حدث مع خالد محمد خالد فى الواقعة الشهيرة التى اعترض فيها الأستاذ خالد على غياب الحرية، وعندما تخرج أحمد راشد عام ١٩٦٦، لم تنقطع صلته بالكلية..فقد كان دائم الحضور مع طلاب الدراسات العليا دون أن يسجل نفسه رسميا بها.. كان يحضر بعد أن يستأذن من الأساتذة المحاضرين، وحين يأذنون له، كان يدخل معهم فى مناقشات عنيفة تجعلهم فى أغلب الحالات يندمون على سماحهم له بالحضور!!. وفجأة سمعنا أنه قد حصل على منحة من جامعة السوربون للحصول على درجة الدكتوراه..وقيل وقتها إن الدكتور بطرس غالى هو الذى سعى بنفسه لكى يحصل أحمد راشد على هذه المنحة.. فقد كان أحمد راشد يستأذن من الدكتور بطرس لحضور محاضراته فى العلوم السياسية رغم أن أحمد راشد كان من خريجى شعبة الاقتصاد الذين لا يحق لهم الحضور لمحاضرات شعبة العلوم السياسية، رغم ذاك فقد كان بطرس غالى مهذبا إلى الحد الذى لا يستطيع معه أن يرفض السماح لأحمد راشد بحضور محاضراته، وفى نفس الوقت كان بطرس غالى مهذبا أيضا إلى الحد الذى لا يستطيع معه أن يتحمل الأسلوب العنيف فى المناقشة الذى كان يتسم به أحمد راشد والذى كان يتوجه به إلى الدكتور بطرس نفسه، وهكذا لم يجد الدكتور بطرس حلا للخلاص منه سوى أن يسعى بنفسه للحصول على منحة له من السوربون وهو ما تحقق فعلا!!، ثم انقطعت عنى أخبار أحمد راشد زهاء خمسة عشر عاما وعلى وجه التحديد حتى عام ١٩٨٢حين جاءنى فى مكتبى بالجامعة بسوهاج أحد أبناء قرية العوامية فى أمر يخص أحد أقاربه من الطلاب، وانتهزت الفرصة وسألته عن اخبار أحمد راشد..فقال لى إنه قد حصل على الدكتوراه من السوربون وعمل محاضرا بها، ثم تزوج من فتاة فرنسية وأنجب منها طفلين، وطابت له الحياة فى فرنسا فاستقر فيها،.. ومنذ أسابيع فقط خطر له أن يجىء فى زيارة إلى مسقط رأسه فجاءها بطريقته المجنونة مصطحبا زوجته وطفليه مستقلا سيارته التى قطع بها آلاف الأميال..وعلى بعد نصف كيلومتر فقط من قريته حاول أن يتفادى سيارة نقل مسرعة فاختلت منه عجلة القيادة وسقطت به السيارة فى الترعة القريبة..وغرق هو وزوجته بينما تمكن الأهالى من إنقاذ الطفلين، وفوجئ محدثى بدموعى وهى تنساب بغزارة.. ولم يدرك، وما كان بوسعه أن يدرك، أننى لا أبكى أحمد راشد فحسب.. ولكننى أبكى إلى جانبه زمنا جميلا!