بطرس دانيال يكتب: إنما الأممُ الأخلاقُ ما بقيت
يلخّص لنا السيد المسيح القاعدة الذهبية فى معاملاتنا قائلاً: «كل ما تريدون أن يفعله الناس بكم، فافعلوه أنتم بهم. هذه هى الشريعة والأنبياء» (متى ١٢:٧) مما لا شك فيه أن كل شخص منّا يتقابل مع أشخاصٍ طوال حياته، يسعون لتشويه صورته زوراً، وهناك من يوجّهون لنا الإهانات ويسيئون لسمعتنا، ومن المحتمل أن يكونوا من الأقارب أو الأصدقاء. وتتعدد الأسباب لهذه الأفعال: كالحقد والغيرة والكراهية والشجار وانتهاء المصالح وغير ذلك. هؤلاء جميعاً لا يدركون خطورة ما يقومون به، لأنه من المستحيل إصلاح وعلاج ما تم إفساده، كما أنه سيترك أثراً وجرحاً وتشويهاً مدى الحياة. عندما كنّا صغاراً، كانوا يحكون لنا عن فتى سريع الغضب وحاد الانفعالات وعنيد، لا يستطيع السيطرة على أعصابه، وفى غضبه كان يتفوّه بكلمات جارحة. فأعطاه والده كيساً مليئاً بالمسامير، وأوصاه قائلاً: «قُم بِطَرْق مسمار واحد فى سور الحديقة، وذلك فى كل مرة تفقد فيها أعصابك أو تهين أى شخص». ففى اليوم الأول قام الفتى بِطَرْق عدد كبير من المسامير فى سور الحديقة، ولكن مع مرور الوقت، كان عدد المسامير التى يتم طرقها يقل، وفى الأسبوع التالى، تعلّم الفتى كيف يتحكم فى نفسه، واكتشف أن السيطرة على انفعالاته أسهل بكثير من الطرق على سور الحديقة. كما أنه بدأ يفكر جيداً قبل أن يخطئ، حيث ربط بين هذا الموضوع وذاك، وفى النهاية استطاع الفتى أن يصل إلى اليوم الذى لم يطرق فيه مسماراً واحداً فى سور الحديقة. وسرعان ما أخبر والده بهذا الأمر، فما كان من الأب إلا أن اقترح عليه عملاً آخر، وهو أن يقوم بخلع مسمار واحد من المسامير التى طرقها فى كل مرة ينجح فيها بالسيطرة على أعصابه ولا يغضب. وبالفعل مرّت عدّة أيام وأخيراً تمكّن الابن من إبلاغ والده بأنه قد قام بخلع كل المسامير من السور، فقال له: «حقاً يا بنى، أنت قمت بعملٍ عظيمٍ يستحق التقدير، ولكن انظر إلى السور جيداً، وإلى كل هذه الثقوب التى تركتها فيه، لأنها لن تعود أبداً كما كانت. فعندما تغضب وتتفوّه بكلماتٍ مهينة، فإنك تترك جرحاً فى نفوس الآخرين، تماماً مثل مَنْ يدق مسماراً فى السور، ربما تعتذر لهم، لكنك ستترك جرحاً فى نفوسهم». كثيرة هى الدروس المستفادة من هذه الأمثولة، خاصة لتساعد الأشخاص على التفكير جيداً، قبل أن يغضبوا أو يقوموا بإهانة الغير، خاصة من هم أكبر منهم سناً، سواء بالكتابة أو الكلام عن طريق وسائل الإعلام المختلفة والتواصل الاجتماعى والتكنولوجيا الحديثة. إن الأدب فى معاملة جميع الناس، هو دليل التهذيب الرفيع والعقل الراجح والعلم النافع. لأن قيمة الشخص فى ميزان الإنسانية، ليست فى شهادات يحملها، ولا فى وظيفة يشغلها، ولا فى ثروة يمتلكها؛ بل هى فى تهذيبه وأدبه وتواضعه. فالأدب يربح القلوب، ويجذب الغير إلى محبتنا، ومبادلتنا الاحترام وحسن المعاملة. كما يجب علينا ألا ننسى أن الأخلاق الحسنة والسيرة الفاضلة، هما نتاج التربية الصالحة التى تبدأ فى البيت بواسطة الوالدين، فتكون عندئذٍ أعلق بالنفس، وأكثر تأصلاً، وأبعد أثراً، لا سيما إذا استطاع الأهل أن يقرنوا الأقوال بالأعمال، ثم يأتى دور المدرسة التى تتابع وتكمّل تربية الأهل. لكن يخطئ الأهل عندما يعتقدون بأن المدرسة هى المسئولة الوحيدة عن تربية وتهذيب أبنائهم، فيهملون العناية بهم صغاراً، ويتشكّون من سلوكهم فى سن المراهقة والبلوغ. إذاً، لا ننكر أن البيت هو التربة الأولى التى يمتص منها الأبناء كل عناصر طباعهم وأخلاقهم وتصرفاتهم، ويكاد يكون من العبث والفشل، كل محاولة تقوم بها المدرسة لتقويم ما فسد واِعوج من طباع الأبناء، أو إصلاح ما أفسده الجو العائلى. وكما يقول الشاعر العربى: «وإنما الأممُ الأخلاقُ ما بقيت.. فإذا هُمُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا». فحديث الإنسان دليل واضح على خُلقه، فنكتشف أن كلام الجاهل يختلف عن كلام المثقف العاقل، وحديث الإنسان الغير مهذّب لا يُقارن بذلك المهذّب الذى يتقبّل نصائح مَنْ يكبرونه سناً سواء الوالدين أو المربيين. فالإنسان الذى يرفض اكتساب الفضيلة والأخلاق الحسنة، لديه سلاحٌ واحدٌ وهو ذم أهل الفضل والسخرية منهم، وتوجيه الاتهامات لهم لتشويه سمعتهم، كما أنه يدعو الناس إلى فقدان الثقة فيهم، على أمل أن يتراجعوا عن كل ما هو حسن ويصيروا مثله. ونختم بالمثل الفرنسى: «الأدب لا يكلّف شيئاً، ولكنه يشترى كل شىء».