صراع الأثرياء.. السياحة الفضائية تشهد منافسة شرسة بحثا عن أرباح طائلة

الاقتصاد

بوابة الفجر

 

لم تكن رحلة ريتشارد برانسون الملياردير البريطاني إلى حافة الفضاء أخيرا، أول رحلة سياحية من نوعها في هذا المضمار. ففي 2001 دفع دينس تيتو رجل الأعمال الأمريكي 20 مليون دولار لوكالة الفضاء الروسية، لتتيح له فرصة مرافقة اثنين من رواد الفضاء الروس على متن مركبة الفضاء سيوز، التي التحمت بمحطة الفضاء الدولية، حيث قضى هناك ثمانية أيام.


على الرغم من ذلك فإن رحلة الملياردير البريطاني ربما ستدخل كتب التاريخ، باعتبارها رحلة رائدة في السياحة الفضائية، مقارنة بتجربة دينس تيتو رجل الأعمال الأمريكي، والسبب باختصار أن ريتشارد برانسون أول رجل يخوض رحلة للفضاء مع شركة رحلات فضائية تجارية خاصة.


ورغم أن برانسون هو مالك شركة فيرجين جالاكتيك التي قامت بتلك الرحلة، إلا أن الخطوة ذاتها تمثل قفزة عملاقة في صناعة السياحة الفضائية، التي يقودها حاليا بعض من أشهر المليارديرات في العالم.


بعد رحلة برانسون بأيام معدودات حقق جيف بيزوس الملياردير الأمريكي حلمه بالصعود إلى الفضاء على متن أول رحلة مأهولة لشركة بلو أوريجين، ليمنح دفعة جديدة وقوية لقطاع السياحة الفضائية الناشئ، وكنظيره برانسون فإن الشركة التي نظمت تلك الرحلة تعود أيضا ملكيتها إليه.


بغض النظر عن طبيعة الخلاف التقني بين الرحلتين، إلا أنهما بدأتا وكأنهما منازلة بين اثنين من أثرى الأثرياء في سباق محموم نحو الفضاء، وبقدر ما يتضمن الإبحار في الفضاء من قدر كبير من المتعة، فإنه يتضمن أيضا منافسة تجارية، بين مالكين لشركتين تسعيان إلى ترسيخ أقدامهما في السوق الجديدة للسياحة الفضائية.


المؤكد حاليا أنه إذا لم تكن لديك قدرة لأن تدفع رقما مؤلفا من ستة أصفار أو خمسة أصفار كحد أدنى لثلاثة أو أربع دقائق في الفضاء، تنظر خلالها إلى كوكب الأرض، فتنح جانبا وأفسح المجال لمن هم أكثر ثراء منك، فدورك لم يأت بعد، فالرحلات السياحية التي تكلف عشرات الآلاف من الدولارات الأمريكية لن تكون متاحة في الأفق القريب.


ومن غير المرجح أن تنخفض الأسعار قريبا بحيث تكون هناك رحلات فضائية بأسعار جماهيرية، فصناعة الفضاء ربما تحتاج إلى عدة عقود لتحقيق ذلك.


أحد أكبر التحديات التي تواجه السياحة الفضائية حاليا يتمثل في صعوبة الحصول على عدد كاف من رواد الفضاء الهواة الراغبين في السفر الفضائي، بحيث يمكن توزيع تكاليف السفر المرتفعة على عدد كبير من الأشخاص، وبما يخفض تكلفة الإبحار في الفضاء، فشركة فيرجين جالاكتيك لم تبع حتى الآن غير 600 تذكرة لرحلات مستقبلية بسعر يصل إلى 250 ألف دولار للتذكرة، فتقنية السفر إلى الفضاء لم تتطور بعد إلى الحد الذي نتمكن فيه من نقل عدد كبير من الأشخاص في رحلة واحدة، فهذا الأمر يتطلب كميات هائلة من الوقود والطاقة للتحليق في الفضاء.


لكن تلك الرحلات أثارت جدلا لا ينفك يختفي ليعود بين الاقتصاديين، يتعلق بحدود النمو الاقتصادي، بمعنى آخر هل يمكن أن يتوسع النشاط الاقتصادي إلى الأبد؟ ففريق من علماء الاقتصاد كانت لديهم قناعة قوية بأن هناك حدودا للتوسع الاقتصادي العالمي، فنحن نحيا على كوكب محدود الموارد، ومن ثم ستكون هناك دائما حدود للنمو.


لكن وجهة النظر تلك باتت في الأعوام الأخيرة محل شك لدى عدد متزايد من الخبراء، والفضل في ذلك يعود إلى التقدم التكنولوجي المتسارع.


يقول البروفيسور إل. دي ريتشارد أستاذ أساليب التنمية المستدامة في جامعة مانشستر، "هذا التوسع نحو الفضاء كسوق اقتصادية يبرهن في جزء منه على قناعة قسم فاعل بين رجال الأعمال الدوليين بمحدودية كوكب الأرض للحفاظ على تنمية اقتصادية مستدامة، لهذا علينا التغلب على محدودية الموارد بتوسيع المساحة عبر التوسع في الفضاء، وبفضل التكنولوجيا فإن الديناميكيات الرأسمالية خاصة السعي الدؤوب لتحقيق مزيد من نمو الإنتاجية، تدفع المجتمع إلى تحقيق مزيد من الأهداف المادية، وتوفر الإمكانية لذلك، ومن ثم توسع آفاق النمو وتمنح الحياة الاقتصادية مزيدا من الحرفية والإبداع".


مقابل وجهة النظر تلك ترى لورين جورج الباحثة في مجال اقتصادات المستقبل أن هذا السباق المحموم بين أكثر الأثرياء ثراء في العالم نحو الفضاء، يتعلق أكثر من أي شيء آخر بطابع تنافسي وتفاخري في الوقت ذاته، وأن الأمر لا يتعدى كونه حملة دعائية لشركتهم القادمة.


وتؤكد الباحثة أن "هذا السباق الفضائي المحموم ليس أكثر من صراع بين حفنة من الرجال الأثرياء بشكل أسطوري لا يصدق، وقد أسهم وباء كورونا في تضخم ثرواتهم بشكل كبير للغاية، ويسعون لإقناعنا بأن المستقبل هناك بين النجوم في الفضاء وليس في الأرض".


بالطبع تجد وجهة النظر تلك أرضية قوية لدى كثير من الاقتصاديين الكلاسيكيين الذين يرون أن تلك المنافسة الفضائية تعكس التفاوت الهائل في توزيع الثروة والقدرات المالية التي يتمتع بها البعض، وأن السعي لتحقيق مزيد من الأرباح المالية يظل المحرك الأساس لاقتصاد الفضاء.


لكن بغض النظر عن دوافع السباق الفضائي، فإن الوقائع على الأرض تشير إلى أن اقتصاد الفضاء وعبر رحلات ريتشارد برانسون الملياردير البريطاني، وجيف بيزوس أغنى رجل في العالم، نجحت في وضع اللبنات الأولى لهذا الاقتصاد الجديد.


واذا أضفنا إلى هذا الثنائي إيلون ماسك مؤسس شركة تسلا للسيارات الكهربائية وشركته الشهيرة لتكنولوجيا اكتشاف الفضاء اسبيس إكس، فإننا سنجد أنفسنا أمام مخطط طموح لإقامة مستعمرات فضائية يمكن لملايين الأشخاص العمل والعيش فيها معا مستفيدين من الأخطاء التي ارتكبت في تجربتهم الحياتية على كوكب الأرض، وهو ما يتجلى بشكل واضح في محاولة إيلون ماسك تمرير أوراق اعتماد مشروعه الفضائي، عبر التركيز على أن سفنه الفضائية ستكون قابلة لإعادة الاستخدام، إلى الحد الذي دفعه خلال الأشهر الأربعة الأولى من هذا العام إلى تجريب أربعة نماذج أولية من المركبات الفضائية القابلة لإعادة الاستخدام.


وعلى الرغم من أن تجاربه منيت بالإخفاق حتى الآن، إلا أنه لم يتوقف عن المحاولة، خاصة بعد أن حظي بدعم واضح من وكالة الفضاء الامريكية "ناسا" عبر منحه عقدا بقيمة تقارب ثلاثة مليارات دولار أمريكي.


مع هذا يرى بطرح بعض الخبراء ما يمكن اعتباره حلا وسطا في مجال السياحة الفضائية، على أمل أن يشجع ذلك على اكتساب اقتصاد الفضاء مزيدا من الشعبية، وبما يؤدي إلى تغير الشعور السائد بأنها سياحة الأثرياء، وأن عالم الفضاء بأكمله وما يروج له من مستعمرات فضائية مستقبلية لن تكون إلا للنخبة الأرضية من الأثرياء والموهوبين، بينما ستترك جموع البشر للعيش على كوكب الأرض بكل مشكلاته وتحدياته، تلك القناعات توجد على الأمد الطويل رأيا عاما ضاغطا على الحكومات لتقليص دعمها للقطاع الخاص للمضي قدما والاستثمار في هذا المجال.


من جهته، يقول لـ"الاقتصادية" الدكتور ستيورت هاموند أستاذ التكنولوجيا الحديثة في كلية الهندسة في جامعة شفيلد، "هناك جهود تبذل حاليا لما يعرف برحلات الفضاء من نقطة إلى نقطة في جميع أنحاء العالم، أي الانطلاق من نيويورك إلى لندن من خلال الخروج من الغلاف الجوي إلى الفضاء الخارجي ثم العودة إلى الأرض، هذا النوع من الرحلات يخفض ساعات الطيران كثيرا، وبعض الدراسات قدرت سوق هذا النوع من الرحلات بنحو 20 مليار دولار، ويمكن أن تكون تذاكر السفر أقل تكلفة من تذاكر السفر الراهنة، هذا يكسب الرحلات الفضائية كثيرا من الشعبية والدعم، لكن لا تزال هناك حاجة إلى ضخ استثمارات كثيفة للغاية لجعل ذلك حقيقة واقعية".


على أي حال لا تزال أعمال السياحة الفضائية في بداية الطريق، لكن تجربة التاريخ تنبئنا بأن سوق السفر الجوي بدأت صغيرة، مستهدفة مجموعة محدودة من الأثرياء أيضا، لكنها نمت الآن لتصبح سوقا جماعية وشعبية إلى حد كبير.


وبفضل التطور التكنولوجي والاستثمارات الضخمة والمنافسة المتواصلة والمثمرة بين شركات الطيران تطور هذا القطاع ليصبح أحد أكثر القطاعات الاقتصادية حيوية وديناميكية، كما ساعد على انتعاش قطاعات اقتصادية أخرى تجاوزت حدود صناعة الطيران ذاتها.


فهل يكون مسار السفر الفضائي خلال العقود المقبلة مشابها للمسار التاريخي للطائرات، وهل سيكتسب شعبية مع انخفاض التكاليف وتقدم التكنولوجيا ومزيد من تدابير الأمن والسلامة؟ في الأغلب هذا ما سيحدث، لكن علينا الانتظار.