عادل حمودة يكتب: حكام مصر من محمد على إلى السادات قدموها هدايا بقرار منهم
هل نبيع النسخ المتكررة من آثارنا ونساهم فى سداد ديون مصر؟
صدق أو لا تصدق: عبد الناصر قدم خمسة معابد كاملة والسادات جامل بها الرؤساء والملوك فى مناسبات خاصة
عصابات الآثار لن تتوقف عن التنقيب والتهريب فالمكاسب فاحشة
يكاد لا يوجد متحف شهير فى الكون لا يحتفى بآثار مصرية.
بل ينفرد كل متحف منها بقطعة مميزة ليس لدينا نسخة منها.
يفخر المتحف البريطانى بوجود «حجر رشيد» الذى عثر عليه أحد جنود حملة نابليون على مصر عام ١٧٩٩ واستخدمه العالم الفرنسى جيان فرانسوا شامبليون فى فك طلاسم اللغة الهيروغريفية.
ويخصص متحف برلين حجرة خاصة لتمثال نفرتيتى «زوجة إخناتون» رغم أن طوله لايصل إلى نصف متر ووزن لا يزيد على عشرين كيلو جرامًا.
ويضع متحف اللوفر «باريس» حراسة مشددة على تمثال الكاتب المصرى الجالس القرفصاء الذى يسجل تسلل نسل الفرعون لترتيب وراثة العرش.
ويثبت متحف متروبوليتان «نيويورك» معبد ديندور «من الحقبة الرومانية» فى مكان لاتتجاهله العين ويشد الانتباه إليه الإضاءة الدرامية التى صممت ونفذت فى عشر سنوات.
وتكسب تلك المتاحف مئات الملايين من الدولارات من بيع نسخ مقلدة من آثارنا التى تحتفظ بها وصورها على الكروت السياحية «اشتريت نسخة من تمثال نفرتيتى بخمسين يورو ونسخة من حجر رشيد بمائة جنيه إسترلينى ونسخة من الكاتب الجالس القرفصاء بمائتى يورو».
وفى أهم عواصم الدنيا تخرق المسلات المصرية سمواتها بارتفاعها الذى يصل إلى أربعين مترا وتقف ثابتة بوزنها الذى يصل إلى ١٢٠٠ طنا أحيانا.
ثمانى مسلات فى روما «منها واحدة فى الفاتيكان» وواحدة فى نيويورك «حديقة نيوبارك» واثنتان فى لندن «على ضفاف نهر التايمز» وأربعة فى باريس «فى ميادين الكونكورد والونتبلو وفسان وأرل» وواحدة فى إستنبول «ميدان السلطان أحمد».
ولا تكف أشهر مزادات العالم عن بيع آثارنا من حضارات من الفرعونية إلى الإسلامية.. إن حصيلة مزادات كريستيز البريطانية فى عام ٢٠١٥ «مثلا» وصلت إلى ٤.٨ مليار جنيه إسترلينى.. كان نصيب بيع القطع المصرية منها ٤١٧ مليون جنيه إسترلينى.
والمؤكد أن العائد يغرى بمزيد من التهريب عبر منافذنا.
لكن من المؤكد أيضا أن عصابات الآثار عصابات متعددة الأدوار.. هناك من يمول.. وهناك من يرشد على أفضل أماكن التنقيب.. وهناك من يحفر.. وهناك من يتعاقد على بيعها.. وهناك من يوصلها إلى المنافذ.. وهناك من يهربها إلى الخارج.. وهناك من يغسل أموالها.
وتضم القضية الأخيرة «المتهم فيها النائب السابق علاء حسانين ورجل الأعمال حسن راتب» ١٩ شخصا وربما كشفت التحقيقات عن المزيد من المتهمين.
ولا تتوقف صفحات الحوادث عن نشر أخبار ضبط محاولات تهريب تماثيل وعملات وتوابيت ومخطوطات أثرية من قرية البضائع فى مطار به كل أجهزة الأمن.
وفى زمن الحزب الوطنى وصلت الجرأة بأحد قياداته إلى حد تهريب تمثال الملك تحتمس الثالث الذى يصل وزنه إلى خمسة أطنان من قرية البضائع ولولا القانون السويسرى الذى يحظر بيع أو نقل الممتلكات الثقافية بين الدول بطريقة غير شرعية ما استردت مصر ٣٢ قطعة أثرية هربها المتهم إلى مدينة بيرن.
وتعد الحقائب الدبلوماسية الوسيلة المثالية الآمنة لتهريب الآثار.. اكتشافها لا يحدث إلا صدفة.. أو بواسطة ضابط جمرك هنا أو هناك غير مستفيد ماليا.
فى يوم الخميس ١٣ فبراير الماضى عاقبت محكمة جنايات مصرية بطرس رؤوف غالى «شقيق وزير المالية الأسبق» ممثل وصاحب شركة سياحة بالسجن المشدد ٣٠ سنة وغرامة ٦ ملايين جنيه وعاقبت القنصل الفخرى لدولة إيطاليا لاديسلاف أوتكر سكاكال بالسجن المشدد ١٥ عاما وإدراجه على قوائم ترقب الوصول لتهريبهما ١٩٥ قطعة أثرية و١١ آنية فخارية وتابوتًا خشبيًا و٥ أقنعة مومياوات بعضها مطلى بالذهب و٢١ ألف عملة معدنية ومركبين من الخشب وغيرها وضمت القضية شخصيات أخرى ساهمت وساعدت.
جرت عمليات التهريب عبر الحقائب «أو الحاويات» الدبلوماسية المحمية من التفتيش لتصبح الوسيلة الأكثر أمانا ولم تكتشف إلا فى ميناء الرسو فى ساليرنو حين أبلغ موظف سابق فى القنصلية الإيطالية «اسمه ماسيمليانو سبونفيل» السلطات فى بلاده أن اسمه يستخدم فى شحنات التهريب.
والحقيقة المؤلمة أن نسبة كبيرة من الآثار المملوكة لمتاحف ودول العالم قدمت عن طيب خاطر من حكام مصر.
إن متاحف ٤٠ مدينة أوروبية وأمريكية تضم ما يقرب من ٦٦٥ ألف قطعة أثرية مصرية منها ١٠٠ ألف قطعة فى المتحف البريطانى وحده خرجت عنوة فى سنوات الاحتلال البريطانى لمصر وفى ظل بعثات تنقيب أجنبية نهبت من اكتشافاتها أكثر مما حصلت عليه قانونا.
فى ذلك الوقت شاعت ثقافة شعبية تصف التماثيل الفرعونية بـ«المساخيط» وحرمتها التيارات والتنظيمات الدينية واعتبرتها شركا يمنع الملائكة من دخول البيوت التى تحتفظ بها رغم أن عمرو بن العاص منع جيشه من تحطيم المعابد أو الاقتراب منها فلم يتصور أن تمثالا سيفقد المسلم إيمانه.
ولكن أخطر من فتاوى التحريم كانت قرارات الحكام.
عندما هزم اللورد نيلسون جيش نابليون فى معركة النيل «عام ١٨٠١» أهداه الوالى العثمانى محمد على باشا مسلة كيلوباترا الثانية التى نقلت من الإسكندرية بعد ألفى عام إلى بريطانيا بتكلفة لا تزيد على ١٠ آلاف جنيه إسترلينى وعندما وصلت لندن فى بداية عام ١٨٨٨ وضعت إلى جوارها تمثالان على هيئة أبى الهول.
وفى عام ١٨٣٣ أهدى محمد على مسلة رمسيس الثانى التى شيدها أمام معبده فى الأقصر إلى فرنسا إلى ملكها لويس فيلب لتقف شامخة فى ميدان الكونكورد لتكون الرابعة بعد أن نقل نابليون بونابرت ثلاث مسلات قبلها توسطت ساحات الونتابلو وفنسان وأرل.
وفى الوقت نفسه أهدى محمد على مسلة لتحتمس الثالث إلى بريطانيا.
وأهدى ابنه الخديو توفيق مسلة أخرى لتحتمس الثالث إلى الولايات المتحدة.
وفى عهد الملك فؤاد الأول خرجت مقبرة فرعونية كاملة واستقرت فى متحف تورنتو سميت مقبرة الفنان خا التى اكتشفت فى البر الغربى لمدينة الأقصر.
وعند زيارة الأرشيدوق النمساوى ماكسيمان الثانى إلى مصر أعجب بقاعة فى قصر أحد المماليك فأمر الخديو عباس الأول بنقل القاعة بالكامل إلى فيينا.
لم يتغير الوضع كثيرا بعد ثورة يوليو.
حسب هيكل «فى كتاب خريف الغضب» أهدى جمال عبد الناصر آنية من المرمر إلى اللجنة المركزية السوفيتية احتفالا بانتهاء بناء السد العالى وأهدى تماثيل للطائر أبيس لرؤساء دول الكتلة الشرقية فى مناسبات مختلفة.
لكن ليست هناك سجلات رسمية بالآثار التى خرجت بأمر منه إلى حكام العالم دون موافقة البرلمان.
على أن ما صعب نسيانه أن عبد الناصر أهدى ٤ معابد «نعم معابد» وبوابة من معبد كلابشة لخمس دول ساهمت فى إنقاذ آثار النوبة من الغرق أثناء بناء السد العالى.
حسب تقرير «إيجيبشيان جيوجرافيك»: حصلت الولايات المتحدة على معبد دندور الذى شيده الإمبراطور الرومانى أغسطس على شاطئ النيل الغربى جنوب أسوان بمساحة ٢٥ مترا مربعا ليصور نفسه فرعونيا يقدم العطايا إلى إيزيس وأزوريس وولدهما حورس.
وتزن حجارة المعبد ٨٠٠ طن.. نقلت فى ٦٦١ صندوقا إلى نيويورك.. وقبضت شركة الشحن خمسين مليون دولار دفعها متحف متروبليتان ليحصل عليه.
وحصلت إسبانيا على معبد ديبور الذى يضم هيكل الإله آمون ليعاد تشييده فى حديقة باركى دل أويستى بالقرب من القصر الملكى فى مدريد.
وحصلت هولندا على معبد طافا الذى شيده الرومان على بعد ٤٨ كيلومترا جنوب أسوان ويتكون من ٦٥٧ حجرا تزن ٢٥٠ طنا وأعيد تركيبه فى متحف ليدن.
وحصلت إيطاليا على معبد إليسيا الذى شيده تحتمس الثالث لعبادة آمون.
وحصلت ألمانيا على إحدى بوابات معبد كلابشة المعروفة باسم «البطلمية».
يصعب القبول بإهداء هذه المعابد ولو كانت مقابل المساهمة فى إنقاذ آثار أخرى.. سابقة لم تحدث من قبل.. فلم نجد دولة تفرط فى تراثها الحضارى بهذه السهولة وبقرار من أعلى سلطة فيها.
ومشى أنور السادات على طريق عبد الناصر لكن ما أهداه من آثار لم يكن له مقابل يفيد مصر على الأقل كما فعل عبد الناصر.
فى فبراير ١٩٧١ «بعد ٤ شهور من توليه الرئاسة» أهدى تمثالا للإله أوزريس إلى الرئيس اليوغسلافى جوزيف تيتو وبعد شهر واحد قدم تمثالا للإله إيزيس ترضع طفلها حورس إلى الرئيس السوفيتى بريجنيف وعلى مدار ١١ سنة حكم فيها مصر بلغت هداياه الأثرية أكثر من ١٠٠ قطعة خرجت بتعليمات مباشرة منه.
حصل الرئيس الأمريكى ريتشارد نيكسون على تمثال جالس للإله إيزيس هدية بمناسبة زيارته إلى مصر وسبق ذلك تمثال للطائر أبيس هدية إلى وزير الخارجية هنرى كيسنجر وبعدها أهدى جيسكار ديستان تمثالا من البرونز بمناسبة توليه الرئاسة الفرنسية.
أكثر من ذلك منح السادات إناء من المرمر إلى المليونير اليونانى أوناسيس.
ومن جانبها أهدت السيدة جيهان السادات هدايا مشابهة لزوجات حكام الفلبين والمكسيك وإيران.
وللإنصاف فإن لا أثر واحدًا منحه مبارك هدية إلى ملك أو رئيس.
وأغلب الظن أن ما فعل حكام مصر من محمد على إلى السادات فرض شعورا بالاستهانة والاستخفاف بآثارنا وشجع على استباحتها والتنقيب عنها وتهريبها.
ولعدم تسجيل الآثار التى تكتشف بوفرة لم يكن من الصعب اختلاس بعضها.
ولوفرة ما نستخرج من آثار غرفنا منها الكثير بدعوى أنها لن تنضب.
وفى الوقت نفسه يجن العالم كله بحضارتنا التى يبدأ بها تلاميذ المدارس الأولية معرفة تاريخ الدنيا مما يزيد من حلمهم باقتناء قطعة منها مهما كان الثمن.
والمؤكد أن عصابات الآثار لن تتوقف عن التنقيب والتهريب مهما تضاعف العقاب فهناك دائما من هو مستعد لشرائها مهما كان الثمن.
وربما كان الحل الوحيد لإشباع العالم من آثارنا أن نتولى نحن بيع القطع المتكررة منها فى مزادات دولية فى أكبر الصالات.. سنحصل على ملايين من العملات الصعبة.. وسنحد من نشاط العصابات.. وسنخفف الديون التى علينا.
لنفكر فى الاقتراح.
لن نخسر شيئا من التفكير.