عادل حمودة يكتب: حكايات صيفية.. موسم فساد «كريمة الكريمة» فى الساحل الشمالى

مقالات الرأي



لابد من التأمين على العمالة المؤقتة بأقل من ثمن سيجارتين يوميًا ضد البطالة والأخطار  

شتائم المواخير على ألسنة الطبقات العليا فى المجتمع  

طيار فى مصر للطيران هارب من حكم بالسجن لسب وضرب مشرف أمن فى هاسيندا وايت

فيديو لمالك مؤسسة تعليمية يسب فرد أمن بما يهدد صلاحيته بالاستمرار فيها


خرج عبد الحى عبد الجليل عبد الحى من بيته فى قرية نزلة سرقنا والفجر يواجه الظلام مانحا ضوء النهار فرصته.. مشى عشرة كيلومترات حتى وصل إلى موقف الميكروباص الذى يوصله إلى محطة القطار فى مركز ديروط.. بصعوبة حشر نفسه فى زحام الدرجة الثالثة.. ظل واقفا ثلاث ساعات حتى وجد مكانا يستريح فيه.. لم يتح له التوقف فى القاهرة.. أم الدنيا.. النداهة التى تسبى كل من يهبط إليها فلا تعيده إلى أهله ومسقط رأسه.

انتظر عبد الحى خمس ساعات بالقرب من محطة قطار الصعيد حتى وجد مكانا رخيصا فى أتوبيس يوصله إلى مدينة العلمين وهناك تسلق ظهر سيارة نصف نقل ــ تحمل خرافا ــ إلى مكان عمله الجديد فى قرية هاسيندا وايت.

تخرج عبد الحى فى كلية التجارة بدرجة جيد التى تؤهله ليكون محاسبا بارعا لكنه بعد سنوات من الانتظار لم يجد أمامه سوى وظيفة فرد أمن فى شركة فاير ويل المتعاقدة مع شركة إى أف أس التى تتولى حراسة هاسيندا وايت.

لم تعد مفاجأة تصدمنا أن يعمل خريجو الجامعات فى وظائف لا تناسب مؤهلاتهم العليا.. عامل فى محطة وقود.. سائق على سيارة أجرة.. بائع فى سوبر ماركت.. جرسون فى مطعم.. معد شيشة فى مقهى.. أو فرد أمن.

والحقيقة أن فرد الأمن لا يحصل فى كثير من الأحيان على أكثر من ثلث المبلغ الذى تتقاضاه شركته عنه.. يقف بالساعات فى الحر والبرد يحمى مراكز التسوق والتجمعات السكنية والقرى السياحية والمستشفيات والمؤسسات الخاصة دون أن يشكو.. أحيانا يتقاضى خمسمائة جنيه.. أحيانا يزيد الأجر عن الألف.. أما فى هاسيندا وايت فالمبلغ يرتفع إلى ثلاثة آلاف جنيه إلى جانب وجبة طعام وسكن على الجانب الآخر من الطريق.

فى مساء ٢٤ يونيو أنهى عبد الحى ورديته وخرج من القرية ليعبر الطريق حتى يصل إلى المسكن المخصص للعمال ولكن شدة الظلام لم تنبهه إلى وجود سيارة ملاكى مسرعة لم يستطع تفاديها فسقط على الأرض غارقا فى دمه وقبل أن ينطق الشهادتين فاضت روحه.

حسب التقرير الطبى الذى وقعه الدكتور حسام السيد القائم بأعمال مفتش صحة العلمين فإن الكشف الطبى الظاهر على عبدالحى (٣٣ سنة) يوضح اشتباه كسر فى عظام الجمجمة وجروح بالرأس ونزيف من الأذن ما أدى إلى هبوط فى الدورة الدموية وتوقف القلب والتنفس ولا توجد شبهة جنائية ما لم يكن هناك تعارض مع تحريات الشرطة والنيابة العامة.

لم يكمل عبد الحى شهره الأول فى العمل وانتظرت عائلته أن يرسل إليها ما يساعدها على المعيشة لكنها وجدت بدلا من المال جثمانه.

لم يتردد سكان القرية الساحلية فى جمع مبلغ من المال يعبرون به عن حزنهم عليه رغم أن لا أحدًا منهم يعرفه شكلا وهو موقف إنسانى يتسم بالرقى.

وربما قدمت الشركة إلى عائلة الضحية مبلغا آخر من المال على سبيل التعويض ولكن ذلك لاينفى أن غالبية العاملين فى شركات الأمن أو فى مهن مؤقتة أخرى بلا تأمين على الحياة أو ضد البطالة رغم المخاطر التى يتعرض إليها.

إن هناك ١٥ مليون عامل مؤقت فى مصر.. لا يعملون بانتظام.. ولكن يمكن التأمين عليهم ضد الحوادث وضد البطالة بمبلغ زهيد من جنيه إلى عشرة جنيهات فى الشهر.

مبلغ التأمين يمكن أن يتحمله العامل غيرالمنتظم فى عمله لو وفر تدخين ثلاث سجائر فى يومه أو تنازل عن كوب شاى يحتسيه على مقهى أو كف عن تعاطى قرص مخدر.

عندما قررت الحكومة دعم العمالة غيرالمنتظمة ــ بسبب جائحة كورونا ــ بخمسمائة جنيه لم تستطع أن تتعرف عليها بدقة لأنها عمالة غير مسجلة.

لو هناك تأمين إجبارى عليها لوصل الدعم إلى مستحقيه.

ولو هناك تأمين إجبارى عليها لتولت الشركات المختصة مساعدتها وقت الشدة وفى الحوادث والأزمات.

بالقطع سيعوض المتهم فى الحادث المجنى عليه ماليا وستنال عائلته تعويضا مناسبا إلى جانب ما جمع سكان هاسيندا إليها تعبيرا عن تضامنهم مع الشاب الذى كان يحرسهم.

ولكن التأمين لن يتوقف عند الحوادث وإنما يمتد إلى البطالة.

على أن لشباب شركات الأمن والحراسات متاعب أخرى غير مالية.. متاعب تمس كرامتهم.. وتسب أسلافهم.. وتكسر نفوسهم.

ليس هناك من شك فى أن سكان هاسيندا وايت يتمتعون بسلوكيات راقية تكشف عن معادن أصيلة فى جوهرهم إلا قليلا.

لكن ألا تسىء الأقلية إلى الأغلبية؟.

فى الصيف الماضى جاء حما رجل أعمال إلى بوابة القرية بسيارته طالبا المرور منها لزيارة ابنته وزوجها ولكنه لم يكن يحمل الرسالة الإلكترونية التى يرسلها الملاك إلى ضيوفهم لتفتح البوابة أتوماتيكيا حسب التعليمات.. طلب مشرف الأمن واسمه سيد من السائق التنحى جانبا حتى يتصل بالمالك تليفونيا ولايتعطل الطريق إلى داخل القرية.

لم يطق صهر الضيف الموقف وجاء مسرعا بثياب البحر ليسب مشرف الأمن بألفاظ يصعب خروجها من رجل أعمال ثرى يستثمر ملايينه فى مصانع ومنتجعات ومؤسسات تعليمية.

وكتب المجنى عليه شكوى إلى شركته شهد فيها بصدقه زملاء ورؤساء فى ورديته ولكن الشركة لم تأت بحقه فى الاعتذار ولم تسمح له بتحرير محضر فى الشرطة وأدرك الشاب أن لقمة العيش أصبحت مغموسة فى الذل ولو رفض تناولها مات من الجوع.

كل ما حدث أن هناك شخصًا عابرًا صور فيديو لرجال الأعمال وهو يسب المشرف بشتائم منتقاة من قاموس ما عليكم تخيله ويخرج فيه عن ادعائه البروتوكول والإتيكيت والعبارات المهذبة التى يتوارى خلفها ولا تكشف حقيقته التى خرجت فى غضبه وضد من لا حول له ولا قوة.

والحقيقة أن الفيديو مشين لو سمع ما فيه من شتائم مسئول التعليم فى مصر لسحبوا منه ترخيص مؤسساته التعليمية.

ولكن الشاب الضحية لم يبث الفيديو على الإنترنت بعد أن تلقى تهديدا بالقتل واكتفى رئيسه بإرسال نسخة لشخصيات مؤثرة تسكن القرية.

وفى الصيف الماضى توقفت سيارة يقودها طيار فى شركة مصر للطيران وشقيقه أمام البوابة الثانية فى هاسيندا وايت وطلبا المرور لحضور حفل على الشاطئ يسمونها سان رايز ولكن لم يكن معهما استضافة من مالك فى القرية ولكنهما ادعا أنهما من سكان بالم هيلز (الشركة المطورة لقرية هاسيندا وايت) مما يحق لهما دخول كل منتجعاتها للحاق بأصحابهما.

لكنهما لم يكتفيا بالتهديد وإنما بدأ وصلة من السباب القذر الذى يجعلك تتساءل: كيف تنحدر طبقات المجتمع العليا إلى ذلك المستوى من الانهيار الخلقى غير المتوقع.

وفى أثناء ذلك جاءت إليهما رسالة إلكترونية تسمح لهما بالدخول ولكنهما نزلا من السيارة للتشاجر مع أفراد الأمن ومشرف الوردية وهو بدرجة نقيب وهددوا بالعودة هما وأصدقائهما للتعدى على كل من يقف على البوابة.

وبالفعل عادا مرة أخرى وانهالا بالضرب والسب على كل من يصادفهما واقتحما مكتب الأمن واعتديا على النقيب أحمد أحمد عزام ومشرف الأمن سيد عصمت توفيق ولم يردعهما تصوير ما يحدث بالفيديو.

لم يتركا سيد توفيق إلا بعد أن تأكدا أنه أغمى عليه وسقط على الأرض وتمزقت ملابس أحمد عزام وأصيب أفراد أمن غيرهما بكدمات واضحة.

المثير للدهشة أن فرقة الهجوم أعلنوا بعبارة صريحة وجرأة يحسدون عليها أنهم طيارون فى شركة مصر للطيران وملاك فى هاسيندا باى التابعة لبالم هليز أيضا.

حضر النقيب شريف سمير من شرطة النجدة ونقل المصابين فى سيارة إسعاف وحجز سيد توفيق للعلاج مؤقتا ثم نقل إلى مستشفى خاص وبسؤاله فى المحضر رقم ١٢٠٩ جنح قسم العلمين وجد أنه به كدمات وإصابات بالوجه والقدم اليمنى ولايزال إلى اليوم طريح الفراش.

أخذ القانون مجراه وحكم على شخص ما من الجناة بالسجن عاما ولكن لا أحد قبض عليه ــ إما لتغيير عنوان سكنه عن العنوان المسجل فى البطاقة وإما لأسباب أخرى لا نعلمها ــ وأغلب الظن أنه يعيش حياته مستقرا آمنا.

والمؤكد أن هذه الجريمة الجنائية الاجتماعية لن تتوقف بل ستتكرر فى موسم الصيف الجديد حيث يحاول البعض إثبات وجوده بطرق تخلو من الغطرسة والعدوانية معا.

والمؤسف أن ذلك البعض ممن نصفهم بـ«كريمة الكريمة» الذين عليهم تقديم نماذج راقية فى التصرفات والسلوكيات ولكنها على ما يبدو كريمة فاسدة.