بطرس دانيال يكتب: الإيمان حياة القلوب
كيف ننسى الله الخالق الذى يبحث عن كل واحدٍ منّا نهاراً وليلاً، ليمنحنا نِعَمه وبركاته؟ مَنْ يستطيع أن ينكر محبة الله لنا جميعاً مُقدّماً لنا كل وسائل السعادة الحقيقية لننعم ببهاء الحياة؟ يعاتب السيد المسيح الكتبة والفريسيين قائلاً: «أحسن أشعياء فى نُبوءتِه عَنكم إذ قال: هذا الشعبُ يُكرمُنى بشَفَتَيه، وأما قلبُه فَبعيدٌ مِنِّى» (متى٨:١٥). دار هذا الحديث بين مُلحدٍ ومؤمن: «هل تعتقد أيها المؤمن بأن فى الكونِ إلهاً كلى القدرة، يدبّر هذا العالم ولاسيما البشر؟» -«هذا بديهى ولا شك فى هذا مطلقاً، ونحن المؤمنين نُعلن ذلك فى صلواتنا وإيماننا». - «وهل يهتم الله الخالق بالبشر، أم إنه منعزلٌ فى سمائه، ولا يهتم بأمرهم؟» - «إن ديننا يُعلّم بأن الله هو أب حنون مع جميع خلائقه ويهتم بأمور حياتهم». - «من المحتمل أن يكون الأمر هكذا فى كتبكم وتعاليمكم الدينية، أما من ينظر إلى حياتكم اليومية، يكتشف بأنكم لا تؤمنون بهذا، لأنه إن كان إلهكم كلى القدرة، وفى ذات الوقت أب حنون يرعاكم ويسهر عليكم نهاراً وليلاً، كان من الواجب عليكم أن تلجأوا إليه فى كل حين. لذلك لا أفهم تصرفاتكم أيها المؤمنين! بالرغم من اعتقادكم بأبوِّة الله وحنانه، كيف تسمحون لأنفسكم بأن ترفعوا قلوبكم بالصلاة له قليلاً جداً، مُكرّسين غالبية حياتكم فى الأمور الدنيوية؟!». نحن نعيش هذا الواقع المرير كل يوم، لكن يجب علينا أن نقترب من حضرة الله دائما، لذلك سننعم بحياةٍ مُشرقةٍ رائعة لا مثيل لها، فالجرعة الروحية التى ننالها بالقرب من الله لا تُقَدّر بثمن، وخلاف ذلك سيكون كل شيء باطلا، لأن مَنْ يحيا بعيداً عن الله لن يستطيع أن يتمتع بطعم الحياة مهما رَبحَ فى هذه الدُنيا، لأن حلاوة الدنيا عاجلة وتعقبها مرارة العلقم، وكما يقول الفيلسوف Hume: «فتّش إن استطعت عن شعبٍ بلا دين، فإن وَجَدْته، فكُنْ على يقين من أنه لا يكاد يتميّز عن الوحوش الضارية». كم من الأشخاص الذين نسوا الله ومحبته عندما قام البعض بإغرائهم بالمال؟ وكم هؤلاء الذين يعبدون الله ويتقيدون بشرائعه ويمارسون ما فرضه عليهم، فإذا تعرّضوا لسخرية نتيجة إيمانهم، تركوا العبادة وأهملوا فرائض الدين؟! وكم هؤلاء الذين كانوا يعبدون الله ويتحلّون بالتقوى فى طفولتهم، وعندما نموا وكبروا، بدأوا يخجلون من تديّنهم أمام الآخرين؟! وكم هؤلاء الذين يتعبّدون ويصلون طالما هم فى الراحة والنجاح والصحة الجيدة؛ ولكن عندما يشعرون بضيقٍ، أو يعتريهم المرض، أو يُعرَض عليهم بدائل، أهملوا روح العبادة والتقوى ملتمسين شتّى الأعذار؟! نستطيع أن نُكَذّب ما يروّجونه الملحدون بأن الدين هو أصل كل شر وبؤس للإنسان؛ وأن الجهلة وصغار العقول فقط هم الذين يهتمون به؛ ونثبت لهم بحياتنا أن الإنسان يستطيع أن ينال الخير الأعظم والسعادة الحقّة والراحة النفسية، نتيجة علاقته القوية بالله والدين. لأن الحياة بدون الله ما هى إلا شقاء وتعاسة وبؤس. فالإيمان هو القوة التى تساعد الإنسان على العيش بدون خوف أو قلق، وكما يقول الكاتب ألبير كامي: «إن ثقل الأيام والحياة، مخيف ساحق لمن يعيش وحده من دون الله». إذاً لا يتحجج أى شخص بأن لا وقت لديه ليمارس حياته الدينية ويكرّس أوقاتاً للصلاة والتقرّب من الله. لنتعلّم من النصيحة الرائعة التى أسداها العَالمِ أمبير لابنه: «بُنيَّ الحبيب! اعكف على الدرس بعينٍ واحدة، ولتكن العين الأخرى محدّقة دوماً فى الله الحاضر أمامك؛ فهو وحده يمنحك الذكاء والفهم والحكمة. وانصت إلى أساتذتك العلماء بأُذنٍ واحدة؛ لتكن أُذنك الأخرى فى أتم استعداد لسماع صوت الله الذى يتكلم فى قلبك. ولا تكتب إلا بيدٍ واحدة، لتمسك بالأخرى ثياب الله على نحو ما يفعل الطفل الذى يتشبث بثياب أمه. فإنْ لم تفعل ما أوصيك به، عثرتَ وتحطّمت، ولا شك فى ذلك المصير». إذاً لا معنى ولا قيمة لأشياءٍ كثيرة فى حياتنا كالشهرة والعبقرية والمال وإعجاب الناس، مادام الإنسان بعيداً عن الله، لأن الإيمان ومعايشته كل لحظة يُعمّر القلوب، ويُضيء الوجوه بالنعمة حتى تتلألأ أمام الجميع، فالمال والوظيفة والرزق، كلها أشياء مطلوبة وحسنة، بشرط أن تكون مع رضا الله وبركته، ولكن مَنْ يتخلّى عن الله؛ ماذا يتبقى له؟ فالله الوحيد الذى يُشبع قلوبنا، لأنه خالقها ويَعْلَم بحاجتها، ونختم بكلمات الفيلسوف أغسطينوس: «خلقتَ قلبنا لك يا الله، ولن يذوق طعم السعادة حتى يجدك ويستقرّ فيك».