بطرس دانيال يكتب: الناس معادن
يعلّمنا السيد المسيح قائلاً: «اِجعَلوا الشَجَرةَ طيّبةً يأتِ ثمرُها طيّباً. واجعلوا الشجرةَ خبيثةً يأتِ ثَمرُها خبيثاً. فَمِنَ الثمر تُعرفُ الشجرة» (متى ٣٣:١٢). إن حياة الإنسان عقيدة وكفاح وجهد وعرق، وهذا يعنى أن نعزم على تحقيقها، ونجعلها نُصب أعيننا، حتى تصير مصدراً للسعادة فى قلوبنا، كما يجب أن نكرّس أنفسنا لها، كل هذا يتطلّب منّا الجهد والتضحية حتى يكون لنا هدفاً واضحاً فى حياتنا، ويصبح موقفنا منها نبيلاً ومُشرّفاً، ونستعد لمواجهة الصعوبات التى تعترضنا ولا نخاف منها، وكل هذا لا يتحقق فى لحظةٍ. مما لا شك فيه أننا نقع فى الفشل عدّة مرات، ولكن لا نسمح أن يدبّ اليأس فى قلوبنا. يُحكى أن الفيلسوف أفلاطون ذات يوم أراد أن يختبر معادن الناس، فألقى بحجرٍ فى وسط الطريق ثم اختبأ خلف أحد المنازل ليعاين ردود أفعال البشر نحوه، فإذا برجلٍ يسير حتى تعثّر به، فقام للتو وأخذ ينظف ثيابه ثم تابع السير، فقال أفلاطون: «هذا هو نموذج الرجل العادى الذى تتكون منه الأمم». وإذ برجلٍ آخر يعثر به، فبدأ يسب ويلعن ويملأ الجو صياحاً، ثم التفت يميناّ ويساراّ متوعداً ومهدداً، ولكنه تابع سيره فيما بعد، فقال أفلاطون: «هذا رجل لا خير فيه، يعيش عالة على غيره». وإذ برجلٍ ثالث عثر بالحجر ولكنه لم يقع، فركل الحجر بقدميه ثم تابع السير، فقال أفلاطون: «هذا رجل ثورى يقاوم الشر بالشر». أخيراً مرَّ رجلٌ رابع فعثر بالحجر ولما قام من سقطته، نقل الحجر من مكانه حيث وضعه على جانب الطريق، ثم تابع سيره، فقال أفلاطون: «هذا هو الرجل الصالح الذى يحتاج المجتمع إلى أمثاله». إن النفوس السامية تشعر بأن الواجب قبل كل شيء، والواجب دائماً وأبداً مادام فى الإنسان عِرق ينبض، وكل شخص صاحب ضمير حى، يشعر بالمسئولية تجاه الواجب، ويقوم به على أكمل وجه، كما أنه لا يتهرّب منه مهما تعددت الأسباب. إذاً يجب ألا نتمثل بهؤلاء الذين يختلقون شتى الأعذار حينما يُطلب منهم أى عمل لأنهم لا يرغبون فى أداء أى شيء، كأن الأعذار سبب كافٍ لإعفائهم من تتميم واجباتهم، ومهما وجدنا من الأعذار المقنعة، يجب ألا تعفينا من واجباتنا، وكما يقول الفيلسوف أفلاطون: «إذا أتممت واجبك بالرغم مما تشعر به من عناء، فالعناء يزول، بينما لذة القيام بالواجب لا تزول أبداً». مادام هناك مجال للعمل والعطاء، فلا ينتهى الواجب، والإنسان الذى لم يبذل كل ما فى استطاعته؛ فهو لم يبذل شيئاً، لذا يجب أن تكون لنا الإرادة الصالحة مع عزّة النفس حتى نسمو بذواتنا. والإنسان القليل الهمّة والذى يكتفى بأقل جهد هو إنسان لا يُقدّر معنى الواجب ولا يحترم المجتمع الذى يعيش فيه. ولكن عندما نتمم واجباتنا مهما كانت صغيرة أم كبيرة فهذا يدل على الأمانة والإخلاص، إذاً يجب أن نصنع الخير اليوم بقدر المستطاع؛ فقد لا نكون هنا فى الغد، كما نطلب من الله أن يجعلنا أُناساً أقوياء فى مواجهة صعوبات الحياة وضيقاتها، وكما نقرأ فى القول المأثور: «الناس صنفان: موتى فى بيوتهم وآخرون أحياء فى بطون الأرض». يا ليت كلّ واحدٍ منّا يتخذ لحياته شعاراً: «السعى والعمل»، وعندما نقوم بأى عمل، يجب ألا نلتفت إلى المنفعة الشخصية التى تعود علينا فى أقرب وقت، وإنما نعمل لأن العمل شريعة كل حى حتى لو لم يكن بحاجةٍ، ونعمل أيضاً بهدف منفعة الآخرين، واضعين فى الاعتبار أننا نعيش ونستفيد من عمل الغير، لذلك يجب علينا أن نُفيد الناس بعملنا وتعبنا. كما يجب ألا نترك فرصة تفوتنا لعمل ما يرضى الله والآخرين وفيه فائدة للمجتمع بأسره، وعندما نفعل هذا نكسب القلوب وحُب الناس واحترامهم لنا. جميعنا يعلم جيداً أن حياة الإنسان نشاط متواصل، يبدأ مع طلوع كل فجر، ولا يتوقف إلا حين يأوى إلى فراشه مساءً، ولا يحقق هذا سوى الشخص صاحب الهمّة والأخلاق النبيلة والوجدان، والذى يُقّدر قيمة الحياة ومعناها، وكما يقول الشاعر: «لا تحسب المجد تَمْراً أنت آكله ... ولن تُدرك المجد حتى تلعق الصبرا». فالحياة البشرية الحقّة هى شباب دائم وطموح لا يعرف حدوداً، وتفاؤل يتجاهل المستحيل، وشجاعة لا تخاف الأخطار وثقة بالله والنفس، والرغبة فى الأعمال الإنسانية المجيدة. ونختم بالقول المأثور: «الحياة حجر رحى، قد يطحنك أو يصقلك، فالأمر يتوقف على نوع المعدن الذى صُنعت منه».