د.نصار عبدالله يكتب: مكرم.. الأستاذ «١»
كنت قدشرعت فى كتابة عدد من المقالات عن خريجى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية التى لم يتخرج فيها فحسب عدد من أبرز الرموز السياسية والاقتصادية فى مصر والعالم العربى، ولكنها خرجت أيضا عددا لا يحصى من رموز الثقافة والفن والرياضة والإعلام (ومن بينهم الأستاذ عادل حمودة نفسه)، لكننى أجدنفسى الآن مضطرا لأن أتوقف مؤقتا عن مواصلة هذه السلسلة لكى أكتب عن بعض الموضوعات العاجلة قبل أن يفوت أوانها، وأول هذه الموضوعات هو رحيل الأستاذ مكرم محمد أحمد الذى أعده علامة بارزة من علامات مهنة الصحافة ونموذجا شجاعا من نماذجها بالمعنى الحقيقى للشجاعة والتى تعنى عدم الخوف لا من سلطة الحاكم، ولكن عدم الخوف من أية سلطة بما فى ذلك سلطة الرأى العام ذاته الذى كثيرا ما يدفع بالكتاب إلى مداهنته وعدم الجهر بالحقيقة فى محاولة لإرضائه، وهنا أذكر أنه فى نهاية عام ٢٠٠٨ اتصل بى الأستاذ عادل حمودة رئيس تحرير: «الفجر» طالبا منى أن أختار شخصية أرى أنها جديرة بالكتابة عنها لكى تكون من بين الشخصيات التى سوف تتناولها «الفجر» فى عدد رأس السنة، وقد اخترت يومها أن أكتب عن الأستاذ مكرم محمد أحمد.. هأنذا أعيد نشرالمقال ليس فقط بمناسبة رحيل الأستاذ مكرم عن عالمنا، ولكن أيضا بمناسبة وقائع لاحقة على نشر المقال أكدت بالفعل أنه ليس فقط مكرم الأستاذ ولكنه الأستاذ والصديق والإنسان وأهم تلك المواقف هو ذلك الموقف الرائع الذى لعبه إبان الأزمة التى حدثت بين نادى القضاة وبين جريدة المصرى اليوم بسبب مقال نشرته فيها وقد رأى فيه النادى وقتها أنه يمثل إساءة للسلطة القضائية فأحالنى للنائب العام، ولولا دفاع الأستاذ مكرم البليغ عن شخصى المتواضع، ولولا مطالبته بأن يطبق على ما ينص عليه القانون من عدم جواز الحبس الاحتياطى على المشتغلين بالصحافة، حيث كان من رأيه أن الأخذ بروح القانون يستوجب تطبيق هذا المبدأ فى حالتى، لأننى أكتب فى الصحافة بشكل منتظم، حتى وإن لم أكن صحفيا نقابيا، ولم يفت الأستاذ مكرم أن يذكر النائب العام فى دفاعه بأننى أنتمى إلى أسرة قضائية عريقة عميدها هو بطل المذبحة الشهيرة التى عرفت بمذبحة القضاء عام ١٩٦٩ المستشار ممتازنصار، وبالتالى فإن الإساءة إلى القضاء ليست واردة بالنسبة لى...لولا هذا الدفاع من جانب الأستاذ مكرم لكنت قد تعرضت للحبس الاحتياطى لفترة لا يعلم مداها إلا الله، صحيح أننى قدأفرج عنى بكفالة مالية فادحة (لم تدفع منها «المصرى اليوم» شيئا) لكن الكفالة على فداحتها أهون على أية حال من الحبس الذى هوفى الحقيقة حكم بالإعدام لمن كان هو فى مثل سنى (أكثر من ٧٥ عاما مع مجموعة من الأمراض المزمنة) .. وفيما يأتى نص المقال الذى نشر بتاريخ ٧ يوليو ٢٠١٣.
■■■■■
لو أننا سألنا أى متابع للشأن الصحفى فى مصر من هو الجدير حقا بوصف الأستاذ من بين سائر الصحفيين المعاصرين، لو سألناه فإنه على الأرجح سوف يجيب بغير تردد: «محمد حسنين هيكل».. بعد هيكل، غالبا سوف تتباين الآراء، ولكل رأى أسانيده.. بالنسبة لى شخصيا أستطيع أن أزعم، وبقدر كبير من الثقة أنه مكرم محمد أحمد، ولا أحد سواه!! هذا الزعم من جانبى أبنيه على أسانيد وأسباب كثيرة: أولها أن مكرم محمد أحمد كاتب واسع الثقافة إلى حد مذهل وهى سمة آخذة فى التقلص بين الأجيال الجديدة من الكتاب!!، وبوجه خاص رؤساء مجالس الإدارة ورؤساء التحرير الحاليين الذين لا نظلمهم كثيرا إذا قلنا إن بعضهم أنصاف أميين، وأغلبهم تنطبق عليه عبارة الدكتور طه حسين الشهيرة التى قالها فى أواخر أيامه فى وصف أحد رؤساء التحرير المشهورين إذ ذاك: «هذا شخص رضى عن جهله، ورضى جهله عنه!!».. كان هذا منذ أكثر من خمسة وأربعين عاما، عندما كان رئيس التحرير الشهير فريدا فى جهله، أما الآن فقد أصبحت تلك النوعية موجودة فى كل مكان تقريبا، لا فارق فى ذلك بين تلك الصحافة المسماة بالحكومية أو المسماة بالمعارضة أو المستقلة!!، وأما ثانى تلك الأسباب فيتمثل فى أن مكرم يمتلك بالإضافة إلى ثقافته الواسعة موهبة فريدة ونادرة فى التحليل عموما وفى التحليل السياسى خصوصا، وهو فى عرضه لأى موضوع يكشف دائما عن نظرة نافذة وناقدة يستطيع من خلالها أن يصل إلى لب الموضوع وجوهره، ويستبعد ما قد يحيط به من التفصيلات عديمة الدلالة أو المضللة، أما ثالث تلك الأسباب فهو إيمانه الشديد بأنه لا مستقبل لأية أمة تستبعد من حياتها منهج التفكير العلمى والعقلى وتحاول أن تبنى حاضرها ومستقبلها تأسيسا على تأويلات معينة للنصوص الدينية تخرج بالدين عن جوهره الذى ينبغى أن يكون، وهو صيانة الكرامة للإنسان الفرد وتحقيق العدالة والتقدم للمجتمع، وانطلاقا من تلك القناعة راح يتصدى بكل قوة وثبات لتلك التيارات التى كانت تسعى لشد المجتمع إلى الوراء والتى استخدمت وقودا لها مجموعة من الشباب المضللين الذين كانوا يتوهمون أنهم يدافعون عن صحيح الإسلام، وقد كانت تلك القناعة من جانب الأستاذ مكرم على وشك أن تكلفه حياته عندما تصدت له مجموعة من أولئك المغيبين المضللين وأطلقت عليه النار حينما كان متوجها كعادته إلى لقاء السهرة الأسبوعية التى كان يعقدها أسبوعيا مع مجموعة من المثقفين الأصدقاء، وقد كنت واحدا منهم (وللحديث بقية).