محمد مسعود يكتب: غير المكتوب عليهم «٢».. عاطف الطيب «طائر» على طريق الموت «٢-٢»
بعد أن عاقبه القدر على تعجله فى تجربته الأولى التى لهث خلفها، قرر مكافأته فى التجربة الثانية التى جاءت له على طبق من ذهب.. وسعت إليه سعيا.. بينما لم يسع هو إليها أو يفكر فيها
مرت به الحياة، قصيرة، سريعة، مربكة، ولعله أدرك ذلك، فبات كمن يحاول أن يسبق ظله، فأطلق عنان نفسه، وجرى بلا توقف، باغته القدر، وجعل محطة نهايته، فى منتصف العمر.. ومنتصف الطريق، لم يتحمل قلبه كل هذه الأوجاع، والهموم الاجتماعية، والسياسية، والسينمائية، ليجلس دونا عن إرادته، ولعله تذكر جملة المعلم «سلطان» فى فيلمه الشهير «سواق الأتوبيس» عندما أعياه المرض وهدته الدنيا فقال: «الجمل برك».
وصل به العمر إلى منتهاه، بعد أن هزمه المرض، وأدركه الموت، جراء عملية جراحية وخطأ طبى غير مقصود، خرج بعدها الطبيب الذى أجرى له الجراحة قائلا: «لم أعلم أنه مشهورا»!!، لم يكن عاطف الطيب مشهور فحسب أيها الطبيب، بل كان ضميرا من ضمائر هذه الأمة.. وعينا من عيونها.. وجزءا من عقلها، وفكرها، ووعيها، وإبداعها، وقوتها الناعمة.. سامحك وسامحه وسامحنا الله، وسبحان من له الدوام.
1- دموع الفرح
بعد تجربته الإخراجية الأولى «الغيرة القاتلة» التى تعجل فيها الانتقال إلى صف الرجل الأول، فقرر إنتاج الفيلم، كان موعدنا مع تجربته الثانية التى شهدت هذا الانفجار الكبير، للمخرج الموهوب فى فيلم «سواق الأتوبيس»، فبعد أن عاقبه القدر على تعجله فى تجربته الأولى التى لهث خلفها، قرر مكافأته فى التجربة الثانية التى جاءت له على طبق من ذهب، وسعت إليه سعيا، ولم يسع هو إليها.
فما أن رفض المخرج الكبير محمد خان إخراج الفيلم، أو بالأحرى المعالجة الدرامية التى كتبها بشير الديك لقصة خان التى لم تتعد الصفحة الواحدة، أرسل خان المعالجة الدرامية إلى عاطف الطيب ليقرأها، وما أن قرأها، لمعت عيناه، وقرر مباغته بشير الديك فى عقر داره والذهاب إليه فى منزله، صحيح أن الكاتب الكبير بشير الديك غضب من المخرج محمد خان غضبا كبيرا لأنه أرسل المعالجة التى كتبها فى ٤٠ صفحة بعنوان «سائق الأتوبيس» إلى عاطف دون إذنه أو موافقته أو حتى الرجوع إليه، لكن خان هون الأمر مبررا «احنا كلنا أصحاب ومفيش ما بينا الحساسيات دى».
سار عاطف فى الشوارع مسرعا، كما لو كان فارا من فشله الأول، ويريد اللحاق بأول أحلامه، استقبله الديك بترحاب ينم عن شخصيته الودودة ورقيه فى التعامل، وقرر عاطف ملازمته لحين انتهاء الديك من كتابة السيناريو، وانتهى الكاتب الكبير بالفعل من صياغة هذا السيناريو العظيم فى ٢٠ يوما فقط وكأنها نفحة ربانية أو فتح من الله، كان عاطف الطيب شبه مقيم لديه فى منزله ليشجعه على الاستمرار فى الكتابة دون توقف.
رشح عاطف الطيب وبشير الديك الفنان الكبير الراحل نور الشريف ليلعب دور «حسن»، وكان نور هو صاحب اقتراح تغيير الاسم من «سائق إلى سواق»، وكانت لخبرة بشير الديك ومعرفته خير المعرفة بأهالى دمياط وبورسعيد دورا عظيما فى صياغة حوار أدهش عاطف الطيب ونور الشريف.. ورمز الديك والطيب للوطن الذى ضاع وسط أبنائه فى حقبة السبعينيات بورشة المعلم «سلطان» الذى أدى دوره الفنان الكبير عماد حمدى، تلك الورشة التى أكل الجميع من خيرها، غير أنهم تركوها فى محنتها عرضة للبيع فى مزاد علنى، فى إدانة واضحة للانفتاح الاقتصادى فى حقبة السبعينيات، ولعل رفض «حسن» اصطحاب زبون فى التاكسى الذى يعمل عليه ليلا، عندما قال له: «مصر الجديدة يا أسطى؟» فرد عليه» آسف مش فى سكتى !!» دليل على رفض الطيب والديك للنظام الاقتصادى الذى أقره الرئيس الأسبق محمد أنور السادات.
وبعد عرض الفيلم فى مهرجان الإسكندرية السينمائى، كتب الناقد الكبير الراحل الأستاذ سمير فريد مقالا يعتذر فيه لعاطف الطيب فى نفس الصفحة وبنفس المساحة التى هاجمه فيها وطالب بسحب شهادة تخرجه، وكتب سمير فريد، إنه أمام مخرج كبير ومبشر وأنه يعتذر عن حكمه المسبق ومقاله الأول فى حق هذا المخرج الموهوب.. وهنا نزلت دموع عاطف الطيب، بعد أن استرد كبرياءه كمخرج.
2- غضب ميرفت أمين
فى فيلم «سواق الأتوبيس»، أدت الفنانة الكبيرة ميرفت أمين دور «ميرفت» زوجة «حسن»، وبعد انتهاء تصوير الفيلم قالت إنها لن تعمل مع عاطف الطيب ونور الشريف مرة أخرى، الأمور تم تفسيرها بأن ثمة مشكلات وقعت بينها وبين المخرج والفنان الكبيرين، لكن الفنان نور الشريف فسر تصريحات ميرفت أمين فى أحد البرامج التليفزيونية قائلا: «ميرفت كانت تقصد أنها لن تجتمع فى فيلم يخرجه عاطف الطيب وألعب أنا بطولته، بمعنى أنها ستعمل معى بدون عاطف الطيب، وستعمل مع عاطف الطيب لكن بدون نور الشريف».
وعند سؤال الفنان الكبير الراحل عن الأمر أكد أن عاطف الطيب من المخرجين الذين لا يتنازلون عن تنفيذ جميع أفكارهم، وفى هذه الحال سيستغرق تصوير الفيلم نحو عشرة أسابيع، لكن التكلفة الإنتاجية للفيلم كانت تقتضى بأن يتم تصويره فى خمسة أسابيع فقط، فكان عاطف يتجاوز ١٤ أو ١٦ ساعة تصويراً فى اليوم الواحد، ليصور فى النهاية عشرة أسابيع مضغوطة فى خمسة فقط تنفيذا للميزانية، ولم يكن لدى مانع لكن الأمر مع الممثلات يكون أصعب نظرا للماكياج والمجهود والإضاءة، وهذا هو سر غضب ميرفت أمين.
3- أحمد زكى وعشوب
فى عام ١٩٩١، قدم عاطف الطيب رائعته السينمائية «الهروب» عن سيناريو كتبه مصطفى محرم، وقيل إن ثمة تعديلات أجراها بشير الديك وعاطف الطيب عليه، ولعب بطولته الفنان الكبير الراحل أحمد زكى وأنتجه مدحت الشريف، فى فيلم الهروب عشرات القصص والأزمات حدثت بين مخرج الفيلم وبطله، منها مثلا مشهد التماثيل التى ألقتها هالة صدقى التى لعبت شخصية «صباح» عليه، كان من المفترض أن تكون خفيفة الوزن حتى لا يتعرض «منتصر» للإصابة، لكن عندما ألقت بها هالة وضح أنها مفرغة ولم تصل إليه.
وهنا قرر المخرج استبدالها بأشياء أثقل وزنا، وقد كان وعندما ألقت بها صباح فى وجهه تعرض فعلا للإصابة، وهنا انفعل أحمد زكى «أنت بتعمل فيا كده ليه يا أخى كل المخرجين بيدلعوا نجومهم وأنت مخلينى أسطح فوق القطر وهو ماشي»، لكن موجة الغضب انتهت بسرعة، قبل أن تشتعل معركة جديدة بين المخرج العظيم وعميد فن الماكياج فى الوطن العربى الدكتور محمد عشوب، وهو الماكيير الخاص بأحمد زكى، وتلك تفاصيل الواقعة كما قالها عشوب.
«كنا بنصور فى بلد فى المنوفية، كل يوم نروح ونرجع ولا نبات، وكان المرحوم حبيبى رحمة الله عليه بيعمل الكاميرا الساعة ٩ صباحا، كان قاتلا فى مواعيده وقتل نفسه بالمجهود الذى يبذله، كنا نتحرك يوميا الساعة السادسة صباحا لنصل فى الثامنة ونبدأ الإعداد ليوم التصوير، وأذكر أننى بسبب تلك المواعيد غيرت ٤ مساعدين فى ذلك الفيلم، لم يتحملوا المواعيد، ولم يبق غير مساعد واحد وهو محمد عبدالحميد، وفوجئت به جالى الساعة ٢ بالليل بيقولى يا خالى إحنا لسه واصلين دلوقتى وبيقولوا لازم نتحرك من عند قهوة بعرة فى السادسة صباحا، قلت له متروحش تعالى عندى الساعة ٧ صباحا واركب معى وسنذهب سويا، وصلنا فى حدود التاسعة فوجئت بالمنتج الفنى إبراهيم المشهب يقول لى ابقى خلى محمد عبدالحميد ييجى بدرى، فانفجرت فيه صارخا، حرام عليكم ده أنا مغير ٤ مساعدين ده مش فيلم دى أشغال شاقة، كان عاطف رحمة الله عليه واقفا وبجواره محسن نصر، فقال لى أنت شخصيا تبقى معايا من أول الأوردر لآخر الأوردر، فانفعلت وانفعل وكادت الأمور أن تتطور لأكثر من ذلك، فقررت الانصراف بحقيبة الماكياج، فجرى خلفى إبراهيم المشهب وقال يا محمد كده هتضرب الأوردر، ومدحت الشريف هيزعل منك، والنهارده يوم فى أمن مركزى ومجاميع، كان ذلك اليوم محددا فيه تصوير جنازة الخالة «سكينة» والدة «منتصر» الذى هرب من السجن لحضور الجنازة، فجاء محمد عبدالحميد وقال لى روّح أنت يا خالى وأنا همشى اليوم، وعند الساعة الثانية عشرة ظهرا جاء أحمد زكى ومحمد عبدالحميد وإبراهيم المشهب حكوا له ما حدث عندما سأل عن غيابى، وكنا وقتها نعمل الماكياج فى دوار العمدة بالبلدة التى نصور بها، بعدها دخل عاطف الطيب وسلم على أحمد زكى أمام محمد عبدالحميد وإبراهيم المشهب وقال له: شوف يا أحمد يا أنا يا عشوب فى الفيلم ده لأنه زعق وسابنى ومشى وأنا مش هقبل الوضع ده، فقال له أحمد زكى عشوب صاحبك قبل ما يكون صاحبى، وماكيير كبير مش صغير وإذا كان اعترض أنه يشتغل ١٦ ساعة فى اليوم ده حقه وبنرجع من طريق سفر وممكن نعمل حادثة، وهنا تدخل عبدالعزيز مخيون الذى قدم دور «سالم» قائلا: لازم نصفى الموقف ده»، وتدخل محسن نصر قائلا: «بقولك يا عاطف أنا مش هقبل ماكيير تانى غير عشوب، وفى المساء اتصل أحمد زكى بعشوب الذى رفض استكمال الفيلم فانفجر فيه أحمد زكى غاضبا «أنا هلاقيها منك وللا منه.. أنتوا قرفتونى وكرهتونى فى عيشتى»، وانتهت المكالمة باتفاق أن الفنان أحمد زكى سيذهب إلى الاستوديو صباحا فى سيارة عشوب!!.
قال لى عشوب إنه فى صباح اليوم التالى وصل بصحبة الفنان الراحل إلى مقر التصوير ودخلا إلى دوار العمدة لعمل الماكياج، ودخل عليهما عاطف الطيب ونظر له بعتاب، قبل أن يقول بلهجة لم تخل من الزعل «صباح الخير يا أستاذ عشوب.. أنت خليتنى أشك فى العيش والمحل اللى بيننا».
«لقيت نفسى بتقدم منه وبحضنه، وببوس رأسه وأقول له حقك عليا أنت أخويا، ولم أشعر إلا والدمع يترقرق من عينى، قد إيه كان طيبًا وعظيمًا.. وكان بيصعب عليا لأنى كنت بشوفه بينتحر فى الشغل قصاد عنينا ومحدش قادر يمنعه».
4- أمل مصر
صحيح أن عاطف الطيب، كان يصور ١٦ ساعة يوميا، لكنه لم يكن أبدا ليتنازل عن أى طلب يطلبه فى سبيل تنفيذ المشهد على الوجه الأكمل، وفى فيلم «كشف المستور» كان له موقف بدأ بغضب عارم وانتهى بضحكات، وهو الموقف الذى شاهده المخرج هيثم البيطار بعينه.
هيثم البيطار كما هو معروف ابن الإذاعى الكبير اللامع كامل البيطار أمد الله فى عمره، وكامل البيطار كانت تجمعه صداقة كبيرة بالكاتب الكبير وحيد حامد، وقبل تصوير الفيلم اصطحب المؤلف الكبير وحيد حامد، ذلك الشاب الذى يعشق الإخراج وقدمه إلى عاطف الطيب وطلب منه أن يكون مساعدا تحت التمرين معه فى ذلك الفيلم، وافق عاطف الطيب بعد أن تحدث مع مساعده الشاب هيثم البيطار ووجه له مجموعة من الأسئلة من نوعية ما يعجبك وما أحلامك، بعدها سلمه عاطف الطيب لمساعده الأول أمالى بهنسى، ليبدأ هيثم عالم السينما من بوابة مخرج عظيم اسمه عاطف الطيب، فطالبته بأن يروى لنا تجربته ويقول شهادته فى حق أستاذه الراحل عاطف الطيب.
روى لى هيثم البيطار واقعة تدل على عدم تنازل عاطف الطيب عن أى شيء يحقق المطلوب للمشهد « كنا نصور فى نادى الصيد، كانت مشاهد لنبيلة عبيد التى لعبت دور «سلوى شاهين»، وشويكار «نجوى»، وكان الأستاذ له طلبات معينة، أحضرها الإنتاج لكنها لم تكن كاملة، وهنا غضب الأستاذ وصرخ فى الإنتاج وقرر عدم التصوير لحين تنفيذ طلباته، وكان مدير الإنتاج وقتها هو محمد زين، صاحب الخبرات العظيمة والصوت الجهورى، لكنه لم يكن متواجدا فى مقر التصوير بينما كان مساعده وشقيقه إبراهيم هو المتواجد، إبراهيم جرى على أقرب تليفون أرضى وأبلغ محمد زين بما حدث، ولم تمر سوى نصف ساعة حتى وصل محمد زين المعروف بصوته الجهورى، وقبل أن يلتقى عاطف الطيب بنحو ثلاثين مترا قال زين بصوت مرتفع أمام جميع العاملين: «يا أستاذ عاطف حضرتك بتزعق ليه؟» نبرة محمد زين أغضبت الأستاذ عاطف جدا، لكن قبل أن يفتح فمه استكمل محمد زين قائلا بنفس الصوت الجهورى: «إحنا محتاجينك يا أستاذ وبنخاف عليك من العصبية والانفعال، أنت أمل مصر يا أستاذ، حضرتك تستريح واحنا نجيب الحاجة ونييجى لغاية عندك.. والحاجة أهى وصلت واحنا آسفين على التأخير»، وقتها ابتسم عاطف الطيب، ولا نعلم كما لم يعلم هيثم البيطار أهى ابتسامة إعجاب بقدرة محمد زين على إنهاء الموقف بهذا الشكل، أم بتنفيذ أوامره فى غضون خمسة عشر دقيقة أوقف خلالها التصوير.
هيثم البيطار كشف لى عن النصائح الذهبية التى قدمها له عاطف الطيب وهو مخرج تحت التمرين، «فى ثالث أيام التصوير قال لى أول حاجة عايزك تتعلمها، وأشار على الكرو من العاملين والفنيين قائلا: إن كل الناس دى لازم تحبك.. وأنت لازم تراعيهم ولو لهم حق تجيبه لهم، أما النصيحة الثانية ففى إحدى المرات كان جالسا هادئا فى البريك الذى كان يستغرق ١٥ دقيقة فقط سألته عن الديكوباج فقال لي: بُص يا هيثم.. خلى إحساسك يسبق تقطيعك، شوف الإحساس جواك وتخيل المشهد، والصورة اللى هتيجى من خيالك لعنيك يبقى هو ده التقطيع».
ما قاله هيثم البيطار عن نصيحة عاطف الطيب «لازم كل الناس دى تحبك وتجيب حقوقهم»، نفذها هو شخصيا فى فيلمه الأول «الغيرة القاتلة» حينما تولى إنتاج الفيلم، وكانت الميزانية المرصودة لأيام التصوير تقضى بتصويره فى أربعة أسابيع بالعجمى بالإسكندرية، لكن تصوير الفيلم انتهى فعليا بعد ثلاثة أسابيع ونصف الأسبوع، ورغم انتهاء التصوير فى الوقت الذى لم يكن معه أى أموال، أصر على إعطاء جميع العاملين أجرهم كاملا عن الأسبوع الأخير الذى لم يصور فيه سوى ثلاثة أيام، وبحسب رواية صديقه مدير التصوير الكبير سعيد شيمى فإنه سافر من العجمى إلى القاهرة ليلا و«استلف» مبلغاً مالياً من أحد أصدقائه، وفى الصباح عاد وبدأ تصوير اليوم الأخير وفى نهايته أعطى الأجور للعمال والفنيين.
رحم الله عاطف الطيب.