محمد مسعود يكتب: وتعيش يا ضحكة مصر
كانت البيوت حزينة لحزن سكانها شوارع خالية تقريبا من المارة تليفزيون لا يقدم برامج كوميدية وحتى المسارح أغلقت أبوابها
منذ أن فقدت والدى، وأنا أتحاشى الكتابة عمن غيّبهم الموت، فالوجع يتجدد.. ورصيد الحزن يتزايد، فى قلوب أرهقها الفراق.. ومزقها الغياب.
لكن.. لسمير غانم حالة خاصة، تجعلك مرتبكا أمام مفهوم الموت، فليس معنى أن يبقى الإنسان على قيد الحياة، يأكل، ويشرب، ويتنفس، أنه «حي».. ولا يعنى غيابه عن أعيننا أنه «ميت».. فهناك أموات على قيد الحياة.. وأحياء على ذمة الموت.
لايزال سمير غانم مؤثرا، يمكنه أن يضحكنا بأعماله، ويبكينا لفراقه، والحقيقة لم يكن أى منا يعلم قدر وغلاوة وحب سمير غانم، فقد اتضح أنه كان تحت جلودنا، وفى وجداننا.. وفجأة، وجدناه وقد انتزع منا انتزاعا.. فحلت حالة من الحزن العام، وبكاه بعضنا بالكلمات.. وبعضنا بالدموع.
ولم يكن كاتب هذه السطور أسعد حظا من بقية المصابين بسهام الحزن، فكان «سمير» يعنى لى «الوالد»، «مسعود» اسم أبى، واسم شخصيته الأشهر على الإطلاق فى مسرحية «المتزوجون»، والآن.. مات «مسعود» للمرة الثانية.
ذهب سمير إلى صديقيه، ربما استقبلاه مغنين فرحين «بُص.. شوف.. مين؟.. يا وعدى»، لعلهما الآن أسعد بضلعهما الثالث، الذى لحق بهما بعد أن انقضت رحلته على الأرض، ويالها من رحلة (١٩٣٧- ٢٠٢١) مليئة بالفرح.. والدموع.. نرصد بعض ملامحها.
1- على كوبرى الجلاء
كان سمير غانم يتمشى على كوبرى الجلاء، يستنشق نسمات عليلة فى ليلة صيفية معتدلة، وإذا به يسمع صوتا يناديه، التفت.. ليجد أن الصوت من شخص «متشعبط» فى أتوبيس تابع لهيئة النقل العام، وفجأة قفز الشخص من الأتوبيس ناحية سمير غانم، وكان هذا الشخص هو الفنان جورج سيدهم.
كانا قد تعارفا من قبل، ولعل أول لقاء جمع بينهما فى أسبوع شباب الجامعات، كان «سمير» طالبا بكلية زراعة الإسكندرية، بينما «جورج» فى زراعة جامعة عين شمس، والتقيا صديقهما وضلعهما الثالث الضيف أحمد الطالب بآداب القاهرة.
طلب جورج من سمير الذهاب معه لمبنى التليفزيون بماسبيرو للقاء المخرج الكبير محمد سالم، وقتها كان الأخير صاحب اسم رنان فى مبنى التليفزيون، فهو مخرج المنوعات الأول الذى عاد من أمريكا يحمل الشهادات الدراسية العليا، وذهبوا بالفعل وقدموا اسكتش «دكتور إلحقني»، فقال لهم سالم هبقى أبعت لكم.
بعدها قدّم المخرج محمد سالم برنامجه «أضواء المسرح» وطلب منهم أن يقدموا الاسكتش نفسه الذى استمع إليه من قبل، وحقق الثلاثى نجاحا ملحوظا، جعل محمد سالم لا يتردد فى عمل أول فوازير رمضانية للثلاثى واستمرت نحو ١٠ سنوات.
2- سقوط الأحلام الكبيرة
كانت نكسة الخامس من يونيو بمثابة «قطم وسط»، و«كسر نفس» الشعب المصرى، كانت البيوت حزينة لحزن سكانها، شوارع خالية تقريبا من المارة، تليفزيون لا يقدم برامج كوميدية، وحتى المسارح أغلقت أبوابها؛ ومن ذاك المجنون الذى يغامر بعرض مسرحى لشعب سقطت أحلامه الكبيرة، وقتها ذهب جورج للإسكندرية وتقابل مع المحافظ على سبيل المصادفة، فطلب منه الأخير أن يذهب إليه فى مكتبه.
عرض المحافظ على جورج تأسيس فرقة مسرحية، تعجب الممثل الشاب من طلب المحافظ، بينما قال له: كيف نؤسس فرقة فى هذا الحال «البلد ضلمة»؟.. أقنعه المحافظ بأنه سيعطيه المسرح مجانا، وستدعمه غرفة تنشيط السياحة بمبلغ بدأ بـ١٥ ووصل إلى ٣٠ جنيها فى ليلة العرض الواحدة، اجتمع جورج وسمير والضيف واتصلوا بالشاعر الغنائى الكبير حسين السيد، والمخرج يوسف عوف، وتم تأجير معهد خاص بالرقص لبدء البروفات، وتم ترشيح الفنانة نجلاء فتحى لتكون بطلة العرض لكنها رفضت لعدم وجود نص، بعدها تم تقديم العرض من فصلين بعنوان «حواديت».
3- الفن.. والسلطة
بعد النجاح الكبير الذى حققه الثلاثى، قرروا تأسيس فرقتهم، تشاركوا جميعا، كل منهم بنسبة متساوية، وتم تأجير مسرح بميامى لتقديم العرض المسرحى «مطلوب لمونة» تأليف صوت مصر أحمد سعيد، وقاموا بعمل حملات دعائية كبيرة بالإسكندرية، وفجأة تم رفع الدعاية من الشوارع، وعلم سمير ورفيقاه أن الرقابة رفضت المسرحية.
وصلوا إلى رئيس الرقابة فعلا، فأخلى مسئوليته عن ذلك الرفض مؤكدا أنه لم يرفض، بينما جاء الرفض من وزارة الداخلية، وزير الداخلية «شعراوى جمعة» شخصيا قرر رفضها، لم يتنازل الثلاثى عن حلمهم بينما ذهبوا لمقابلة شعراوى جمعة الذى وصفه سمير غانم فى برنامج تليفزيونى بأنه شخص ودود، ضحك معهم واستمع إليهم ثم سألهم «هل مطلوب لمونة.. لأن البلد قرفانة؟» أقسم له سمير وجورج والضيف أنهم لم يقصدوا ذلك، بينما كل ما حدث هو اسم الرواية، فطلب منهم تغيير الاسم حتى يتم العرض، وهو ما حدث بالفعل.
4- الوجع والحنين
فى لقاء جمع الفنان العظيم الراحل سمير غانم بالإعلامى عمرو الليثى، روى له تفاصيل وفاة الضيف أحمد، كانت صدمة كبيرة، باغتهم الموت وأخذهم على غرة، كانوا عائدين من رحلة افتتاح أحد أفلامهم بالأردن، كان الضيف تزوج وأنجب طفلة كان عمرها تقريبا عاما واحدا، وكان كل تفكيره منحصرا فى شراء هدايا وملابس لطفلته؛ وتصادف وجود الفرقة الماسية التى يقودها المايسترو أحمد فؤاد حسن على متن طائرة العودة.
وفى مطار القاهرة ابتعد الضيف، سار وحيدا بعيدا عن الآخرين قبل أن يقف ويبدو عليه التعب الشديد والإرهاق، ما دعا عازف الكمان «خيري» يقول لسمير «إلحق الضيف باين عليه هيموت»، توجه سمير مسرعا نحو صديقه الذى طمأنه وأخبره أنه سيحضر فى الغد إلى البروفة، ذهب سمير إلى منزله لينام، وفى المساء أخبره زكريا موافى بالخبر الذى نزل عليه كالصاعقة، «الضيف مات».
ولأن لكل من اسمه نصيب كان الضيف، ضيفا على الدنيا التى فارقها فى عامه الأربعين، وقف سمير وجورج موقف المذهول، كانت الصدمة كبيرة، وبعد فترة من الوجع تشاورا، فرفضا مبدأ الاستعانة بغيره، وقال لجورج سنعمل بمفردنا، وقدما سويا ثلاثة عروض مسرحية، قبل أن يحدث الانفجار الكبير فى عام ١٩٧٦.
5- الانفجار
يعتز سمير غانم بتجربته المسرحية «موسيكا فى الحى الشرقي»، ويرى أنها كانت بداية النجاح كبطل منفرد بعيدا عن الثلاثى، لكن الانفجار والتوهج حدث عندما قدم مع شريكه جورج العرض المسرحى «المتزوجون»، ورغم مرور العرض بمجموعة من الأزمات إلا أنه صمد وبقى على خشبة المسرح أربعة أعوام متتالية، وكان التنافس على أشده بين سمير غانم من ناحية وبين الزعيم عادل إمام من ناحية أخرى.
كان عادل إمام يقدم مسرحية «شاهد ماشفش حاجة»، بينما ينافسه سمير غانم بـ«المتزوجون»، وحقق العرضان نجاحا ساحقا، ليدخل محمد صبحى إلى حلبة المنافسة بالعرض المسرحى «على بيه مظهر»، ليكون الموسم، من أقوى المواسم المسرحية فى مرحلة السبعينيات.
«المتزوجون» بدأت بالفنانة هويدا، ابنة الفنانة اللبنانية صباح وعازف الكمان أنور منسى، وبدون أى سابق إنذار اعتذرت هويدا عن استكمال العرض قبل تصويره، لتحل محلها الفنانة شيرين التى حققت نجاحا كبيرا من خلال شخصية «لينا»، فيما اعتذرت فريدة سيف النصر عن استكمال شخصية «نفيسة» لتحل محلها سعاد نصر التى اعتذرت هى الأخرى، لتلعب الدور فى النهاية الفنانة راوية سعيد، كما اعتذر أحمد راتب عن شخصية «الحمش بك» وحل محله أحمد ماهر، واعتذر محمد أبوالحسن عن دور «عصمت» وكان الفنان محمد التاجى هو البديل.
6- مدرسة سمير غانم
كان لنجاح «المتزوجون» أثر كبير فى إسناد التليفزيون المصرى والمخرج محمد أباظة والمؤلف لينين الرملى دور البطولة لسمير غانم فى مسلسل تليفزيونى بعنوان «حكايات ميزو»، حقق المسلسل نجاحا مدهشا دشن سمير غانم كبطل أول فى الدراما الكوميدية، وتوالت أدواره بين بطولات مسرحية، وتليفزيونية ومشاركات سينمائية لاتزال تحقق النجاح مثل دور «عزت الشرنوبي» فى فيلم «البعض يذهب للمأذون مرتين»، ودور «حسن» فى «تجيبها كده تجيلها كده هى كده»، ودور «الحلوانى» فى فيلم «٤-٢-٤».
أسس سمير غانم مدرسة كوميدية خاصة به، وكان «أخف دم فى مصر على الإطلاق بشهادة زملائه»، ستظل المدرسة تبحث عن طالب جديد يعوض أستاذه الذى رحل بجسده تاركا خلفه ما يزيد على ٣٠٠ عمل فنى، تشهد على بقائه.