ربيع جودة يكتب: عشرة قروش
فرحتي بالعشرة قروش .. كانت تعادل فرحة من يحلق في السماء .. وكالعادة لم أتوقف عن الهرولة .. حتى وصلت إلى الدكان المجاور .. والوحيد في بلدتنا.
وقد استطعت وبعد معاناة .. أن أضع يدي بالعشرة قروش فوق البنك .. كما كانوا يسمونه وقتها .. قبل تسميته بالكاونتر .. وعلى الفور أحضر لي أبو حنفي .. صاحب الدكان .. طلبي المفضل والدائم.. وهو نوع من الملبس يدعي .. ملوكي بالفواكه .. كان يعطيني منه عشرة ملبسات .. أضعهم في سيالتي .. وأتناوب عليهم طيلة النهار .. ولكني في ذلك اليوم .. تفاجأت بأمي .. وقد امتلأت غضبا .. ماذا في سيالتك .. فأخرجت لها حفنة بكفي الصغير .. فما كان منها .. إلا أن أمسكتني بيدها اليسرى .. وركلت الهواء بقدمها اليمني . ليطير منها الشبشب .. يتقلب في الهواء بلونة البرتقالي اللامع .. ثم تلقفته بيمناها قبل هبوطه إلى الأرض .. وأوسعتني ضرباً بلا رحمة .. كنت أبكي بين يديها بكاءً مريرا.
فأنا لم أخطئ في شيء .. ولم أسرق العشرة قروش .. وهي التي أعطتني إياها .. وهي التي أرسلتني لأشتري الحلوى .. فلماذا كل هذه القسوة .. ربما كانت تريد مني أن أدخرها ؟ .. ألقيت الملبس .. وجلست أبكي .. في ركن الدار دون توقف .. حتي أتت أمي .. تضع يدها على رأسي .. وتمسح بكفها وجهي .. ثم وضعتني في حجرها .. وقالت .. لاحظت انك لا تشتري سوي هذا الصنف .. فرفعت وجهي الحزين إليها دون كلام .. وكأني استنكر كلامها .. فما العيب .. هل هو ضار ؟؟ .. قالت يا حبيبي .. لا أريدك أن تتعلق بشيء .. الي هذه الدرجة .. لن تفهم كلامي الآن .. ستعرفه حينما تكبر .. لا تتعلق بشيء تبكي إن فقدته .. ولا تتعلق بأحد يورث في نفسك الحسرة عليه ان خان عهده معك .. حين تتعلق بشيء .. يتقاسم هذا الشيء عزيمتك .. فإن خسرته .. وهنت قواك .. وقل عزمك .. اجعل بينك وبين الأشياء مسافة آمنه .. حين تفقدها .. لا تفقد معها صوابك .. ولا تضل بعدها طريقك ..
ثم رفعت يدها عن وجهي .. وأدخلتها الي حيث تضع النقود .. بين سحرها ونحرها .. وأخرجت لي خمسون قرشا .. بأكملها .. لتعطيها لي .. وقد جف دمعي .. وتدفق الهواء البارد الي صدري .. وقالت اذهب واشتري ما تشاء .. فهرولت الي صاحب الدكان ... وقد أمسك علي الفور بكيس الملوكي .. ليحضر لي طلبي الدائم .. فقلت لا .. اريد شيئاً آخر .. فترك الكيس .. ونظر الي وجهي الضاحك الباكي .. وقال ماذا تريد .. فقلت أريد أن أشتري جسراً بيني وبين ما أشتهي .. فقال مستنكراً .. نعم ؟؟ ماذا تريد ؟؟ فقلت .. لا عليك .. أريد أن أشتري هدية لأمي .... ربيع جودة