تفسير الشعراوي لقوله تعالى {فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق} الآية 23 من سورة يونس

إسلاميات

الشيخ محمد متولي
الشيخ محمد متولي الشعراوي


تفسير سورة التوبة للشيخ محمد متولي الشعراوي

تفسير الشعراوي للآية 23 من سورة يونس

{فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ(23)}

وبعد أن أنجاهم الحق سبحانه مباشرة تأتي (إذا) الفجائية لتوضح لنا أنهم لم ينتظروا إلى أن يستردوا أنفاسهم، أو تمر فترة زمنية بينهم وبين الدعاء، وتحقق نتيجة الضراعة، لا، بل بغوا على الفور في الأرض {فَلَمَّآ أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق}.

والبغي: هو تجاوز الحدّ في الظلم وهو إفساد؛ لأن الإنسان إذا ما أخرج أي شيء عن صلاحه، يقال: (بغى عليه)، فإن حفرت طريقاً مُمهّداً؛ فهذا إفساد، وإنْ ألقيت بنفاية في بئر يشر منه الناس؛ فهذا إفساد وبغي، وأي شيء قائم على الصلاح فتخرجه عن مهمته وتطرأ عليه بما يفسده؛ فهذا بغي.

والبغي: أعلى مراتب الظلم؛ لأن الحق سبحانه هو القائل: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ موسى فبغى عَلَيْهِمْ} [القصص: 76].

ويعطينا رسول الله صلى الله عليه وسلم صورة البغي الممثَّلة في الاعتداء بالفساد على الأمر الصالح، فيقول صلى الله عليه وسلم: "أسرع الخير ثوابًا: البِرّ وصلة الرحم، وأسرع الشر عقوبة: البغي وقطيعة الرحم".

والحق سبحانه لا يؤخر عقاب البغي وقطعية الرحم إلى الآخرة، بل يعاقب عليهما في الدنيا؛ حتى يتوازن المجتمع؛ لأنك رأيت ظالماً يحيا في رضاً ورخاء ثم يموت بخير، فكل مَنْ يراه ويعلم ظلمه ولم يجد له عقاباً في الدنيا، سوف يستشري في الظلم.

ولذلك تجد أن عقاب الله تعالى لمثل هذا الظالم في الدنيا وأن يُرِي الناس نهايته السيئة، وحين يرى الناس ذلك يتعظون؛ فلا يظلمون، وهذا ما يحقق التوازن في المجتمع.

وإلا فلو ترك الله سبحانه الأمر لجزاء الآخرة؛ لشقي المجتمع بمن لا يؤمن بالآخرة ويحترفون البغي؛ ولذلك يرى الناس عذابهم في الدنيا، ثم يكون لهم موقعهم من النار في الآخرة.

ويقول صلى الله عليه وسلم محذراً: (لا تَبْغِ، ولا تَكُنْ باغياً).

فالباغي إنما يصنع خللاً في توازن المجتمع. والذي يبغي إنما يأخذ حق الغير، ليستمتع بنتائج من غير كدِّه وعمله، ويتحوّل إلى إنسان يحترف فرض الإتاوات على الناس، ويكسل عن أي عمل غير ذلك. وأنت ترى ذلك في أبسط المواقع والأحياء، حين يحترف بعض ممن يغترون بقوتهم الجسدية، وقد تحولوا إلى(فتوات) يستأجرهم البعض لإيذاء الآخرين، والواحد من هؤلاء إنما احترف الأكل من غير بذل جهد في عمل شريف.

والبغي إذن هو عمل مَنْ يفسد الناس حركة الحياة؛ لأن من يقع عليهم ظلم البغي، إنما يزهدون في الكَدِّ والعمل الشريف الطاهر. وإذا ما زهد الناس الكَدِّ والعمل الشريف؛ تعطلت حركة الحياة، وتعطلت مصالح البشر، بل إن مصالح الظالم نفسها تتعطل؛ ولذلك قال الحق سبحانه: {إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق} [يونس: 23].
ولقائل أن يسأل: وهل هناك بَغْي بحق؟

أقول: نعم؛ لأن البغي اعتداء على الصالح بإفساد. وأنت ساعة ترى إنساناً يفسد الشيء الصالح، فتسأله: لماذا تفعل ذلك؛ وقد يجيبك بأن غرضه هو الإصلاح، ويُعدِّد لك أسباباً لهذا البغي، فهذا بغي بحق، أما إن كان بغياً دون سبب شرعي فهذا هو البغي، بل قمته.

ومثال البغي بحق، أقول: ألم يَسْتول النبي صلى الله عليه وسلم على أرض (بني قريظة)، وأحرق زرعهم وقطع الأشجار في أَراضيهم، وهدم دورهم؟ أليس في ذلك اعتداء على الصالح؟

لقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك؛ لأنه ردّ على عدوان أقسى من ذلك.

وهكذا نرى أن هناك بغياً بحق، وبغياً بغير حق. ولذلك يسمى الله جزاء السيئة سيئة مثلها، ويقول سبحانه: {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ} [البقرة: 194].

ويسميه الحق سبحانه (اعتداء) رغم أنه ليس اعتداء، بل ردّ الاعتداء.

ويطلقها الحق سبحانه وتعالى قضية تظل إلى الأبد بعد ما تقدم، فيقول: {ياأيها الناس إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ مَّتَاعَ الحياة الدنيا} [يونس: 23].

وهنا يبين الله سبحانه وتعالى وكأنه يخاطب الباغي: يا مَنْ تريد أن تأخذ حق غيرك، اعلم أن قصارى ما يعطيك أخذ هذا الحق هو بعض من متاع الدنيا، ثم تجازى من بعد ذلك بنار أبدية.

وأنت إن قارنت زمن المتعة المغتصبة الناتجة عن البغي بزمن العقاب عليها؛ لوجدت أن المتعة رخيصة هينة بالنسبة إلى العقاب الذي سوف تناله عليها ولا تأخذ عمرك في الدنيا قياساً على عمر الدنيا نفسها؛ لأن الحق سبحانه قد يشاء أن يجعل عمر الدنيا عشرين مليوناً من السنوات، لكن عمرك فيها محدود.

فاربأوا على أنفسكم وافهموا أن متاع الدنيا قليل، إن كان هذا المتاع نتيجة ظلمكم لأنفسكم؛ لأن نتيجة هذا الظلم إنما تقع عليكم؛ لأن مقتضى ما يعطيكم هذا الظلم من المتعة والنعمة هو أمر محدود بحياتكم في الدنيا، وحياتكم فيها محدودة، ولا يظن الواحد أن عمره هو عمر البشرية في الدنيا، ولكن ليقسْ كل واحد منكم عمره في الدنيا وهو محدود.

ولذلك يقول الحق سبحانه في آية أخرى: {قُلْ مَتَاعُ الدنيا قَلِيلٌ} [النساء: 77].

وهنا يؤكد الحق سبحانه: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ} [يونس: 23].

وقد يتمثل جزاء البغي في أن يشاء الحق سبحانه ألا يموت الظالم إلا بعد أن يرى مظلومه في خير مما أخذ منه؛ ولذلك أقول دائماً: لو علم الظالم ما ادخره الله للمظلوم من الخير؛ لضنَّ عليه بالظلم.

وعلى فرض أن الظالم يتمتع بظلمه وهو من متاع الدنيا القليل، نجد الحق سبحانه يقول: {ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ} [يونس: 23].

وحين نرجع إلى الله تعالى فلا ظلم أبداً؛ لأن أحدكم لن يظلم أو يُظلم فكل منكم سوف يَلْقى ما ينبئه به الله سبحانه إنْ ثواباً أو عقاباً؛ مصداقاً لقوله الحق: {ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [يونس: 23].

وقد جاء الخبر عن نبأ الجزاء من قبل أن يقع؛ ليعلم الجميع أن لكل فعلٍ مقابلاً من ثواب أو عقاب، كما أن في ذكر النبأ مقدَّماً تقريعاً لمن يظلمون أنفسهم بالبغي.

ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {إِنَّمَا مَثَلُ الحياة الدنيا كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السمآء}.

تفسير سورة التوبة للشيخ محمد متولي الشعراوي

تفسير الشعراوي للآية 23 من سورة يونس