محمد الغيطى يكتب: عندما صنعنا مسلسل «الأقدار» أول وآخر مسلسل عن مصر القديمة والملك خوفو

مقالات الرأي

بوابة الفجر



لابد أن يلتزم العمل المستوحى من التاريخ بما أجمع عليه المؤرخون لكن العلاقات الإنسانية والعاطفية هى حق لخيال مؤلف العمل


بعد الزوبعة التى حدثت حول مسلسل أحمس كان لابد من وقفة وتأمل لأن الرجوع للحق فضيلة وأن تأتى متأخرا أفضل من أن لا تأتى وأنا من الكُتاب الذين يرفضون فكرة المنع بكل أشكالها بل إننى وقفت ضد منع عرض فيلم قادمة شندلر الصهيونى فى مصر وكنت أحد أعضاء لجنة شاهدوه مع الراحل العظيم على أبو شادى عندما تولى الرقابة وقلت يعرض ونهاجمه ونحله ونقيم حوارا حوله يبين انحياز صناعه للعنصرية والصهيونية ونكشف تزوير الحقيقة التى سوقوها للعالم خصوصا بعد أن استقبل زعماء إسرائيل المخرج والمنتج سبيلك كالأبطال ومنحوه أعلى وسام عسكرى باعتباره بطلاً قوميًا لهم وهو ما ندم عليه فيما بعد سبيلبرغ واعترف بغلطته وهذا موضوع آخر، وأنا هنا وللأسف أجدنى ولأول مرة أرفض عرض عمل فنى وهو ما يتنافى مع قناعاتى ولكن حجم الأخطاء يصل لدرجة الخطيئة والاستسهال والعبث بتاريخك يستفز عشقك لهذا التاريخ ويضعك فى خانة من يشوه هويتك التى هى شرف وجودك والتى بدونها تسير عاريا منبوذا، حجم الفبركة والتزوير يجعلك تسأل. هل هناك ضمير عند صناع العمل ؟ والضمير هنا له معيار فنى قبل أن يكون أخلاقيًا وهو يترجم الصدق فى العمل الفنى والاحترافية فى تنفيذه وأخيرا الرسالة فى مضمونه ومحتواه حتى لو كانت مجرد التسلية وليست التعليم أو بث القيم، البعض ردد كالببغاء العمل ليس تسجيليا أو توثيقيا وليس تاريخيا بل هو عمل فنى له خلفية تاريخية والرد على هذا الهراء يكون فى قاعات الدرس أو فى مكتبة أكاديمية الفنون والاطلاع على كتب الدراما وأنواعها لأرسطو ولابوس ايجرى وتوماس هيوود وشيلر مارى ستيورات وشكسبير وترجمات درينى خشبة ونهاد صليحة ومحمد عنانى وعبد العزيز حمودة ونبيل راغب الذى أصدر عدة كتب عن الدراما التاريخية والواقعية السحرية، وللأسف بعض الموظفين فى إعلام المصريين أفتوا أن المسلسل ليس تأريخًا وقد رد عليهم شكسبير منذ عشرات السنين وقال: إن أى حكاية يرويها مؤلف مستعينا بمسرح التاريخ هى كتابة للتاريخ وماحدث بالحبر السرى وفى عصر الصورة والديجتال وانعدام عادة القراءة لدى شعوبنا للأسف يصبح العمل الفنى هو وسيلة المعرفة والتأثير، ولأن الغرب كان سباقا فى الوعى بخطورة التأثير للدراما التاريخية فقد خصصت أعظم الأكاديميات الفنية ومنها الأكاديمية الفرنسية للسينما والدراما قسما لدراسة الدراما التاريخية وفيه يدرس الطلاب أن أى عمل فنى مستوحى من التاريخ لابد أن يلتزم بما أجمع عليه المؤرخون وما دون ذلك اجتهاد لصناعه ومن المؤكد أن العلاقات الإنسانية والعاطفية هى حق لخيال مبدع العمل، وبعيدا عن التنظير وبما أننى نزلت هذا البحر وكتبت عدة أعمال تاريخية من عصور مختلفة لابد أن أنقل تجربتى عبر ما يقرب من ثلاثين عاما بدأت وأنا طالب بكلية الإعلام فكتبت مسرحيات أطفال عرضت فيها التاريخ بشكل درامى مبسط ثم كتبت مسرحية يعقوب صناع إخراج انتصار عبد الفتاح بخلفية تاريخية للمرحلة ثم كتبت الأقدار عن رواية عبث الأقدار ثم حوارى وقصور رصد لفترة تاريخية منذ السطان حسين حتى الملك فاروق ثم أدهم الشرقاوى عن نفس الفترة من حكم الأسرة العلوية.

1- عبث الأقدار

هذه إحدى الروايات الثلاث التى كتبها أديب نوبل فى بداية حياته فى الثلاثينيات ومعها رادوبيس وكفاح طيبة التى اعتمد عليها صناع مسلسل الملك أحمس ولا أعلم لماذا لم يلتزموا بالاسم مع إنه الأكثر دلالة والأنسب للحظة التاريخية الحالية ولكن هذا حقهم تماما لأن السيناريو يمكن أن يقدم معالجة فنية للرواية وهو ما جعل نجيب محفوظ نفسه يقول إنه يكتب للقارئ ومن حق السيناريست تقديم رؤيته للمشاهد وهو ما حدث معى عندما كتبت معالجة فى حوالى ثلاثين صفحة للمسلسل وغيرت كثيرًا من الأسماء التى أوردها الأستاذ نجيب فى روايته وأذكر فى أول جلسة وأنا أقرأ له المعالجة وكان بعد حادث محاولة اغتياله الغاشم وقد وهن سمعه فجلست معنا زوجته السيدة عطية الله وكان بصحبتى المخرج الصديق د خالد بهجت الذى بذل معى جهدا مضنيا خلال عامين لإقناع قطاع الإنتاج بتنفيذ المسلسل، أذكر أن السيدة قالت لى ليه غيرت الأسماء فقلت لأن وقت كتابة الأستاذ للرواية لم تكن هناك اكتشافات أثرية كافية أو مراجع نعرف منها الأسماء الحقيقية فى فترة بناة الأهرامات فمثلا الأستاذ ذكر أن مهندس الهرم الأكبر اسمه ميرابو وهذا ليس اسما مصريا قديما بل هو اسم خطيب الثورة الفرنسية والمهندس الذى صمم الهرم الأكبر هو حم أيونو وأنا ملتزم بالحقيقة التاريخية وهنا قال الأستاذ بمنتهى التواضع مبتسما برافوو أنت على حق أنا كده مطمن أنه هايكون عمل كويس للأجيال ووقع عقد شراء القصة حسبما أذكر بأربعين ألف جنيه وكان أعلى رقم يدفعه القطاع لأديب روائى.

2- مرحلة كتابة السيناريو

دخلت فى مرحلة كتابة السيناريو كأننى أغوص ببحر الرمال العظيم وقبل كتابة أول مشهد ظللت حوالى عام أقرأ كل ماكتب عن تاريخ مصر القديم وكل مانشر عن الأسرة الرابعة وعصر بناة الأهرامات سلسلة سليم حسن كلها ودراسات د.جاب الله وعلى حسن وزاهى حواس وترجمات ماسبيرو وتاريخ مانيتون الذى قسم الأسرات من الأولى للثلاثين وهنرى برستد وتقريبا لم أترك مصدرا إلا واطلعت عليه وكانت زوجتى تصرخ من كراتين الكتب التى أدخل بها لشقتى حتى لم يعد هناك مكان لا يوجد به مرجع عن تاريخ الفراعنة وطبعا لم يكن موجودا عم جوجل ليسهل عملية جمع المعلومات، المهم أننى كتبت أول حلقة بعد أن وسعت خطوط المعالجة وأرسلتها لصديقى خالد بهجت وكان أول قارئ وفوجئت بسعادته التى شجعتنى على الاستمرار حتى انتهيت من المسلسل وقدمته لقطاع الإنتاج وذهب للرقابة التى رفضته للوهلة الأولى وكتبت حمدية صقر رئيسة الرقابة أن المسلسل رغم أنه تاريخى لكن الكاتب يقصد به المرحلة الحالية وينتقد فكرة توريث الحكم (وطبعا كان المناخ العام المباركى يبشر بقدوم جمال مبارك وكتب أحدهم بالأهرام يطالب بتولى جمال راية الحزب الوطنى) وعبثا كان النقاش بينى وبين الرقيبة حتى جاء يحيى العلمى خلفا لممدوح الليثى وطلب السيناريو وقرأه واستدعانى قائلاً المسلسل ده ها يكون أول عمل فى الخطة وأنا بعته للجمعية التاريخية بس ابدأوا التحضير واقترح أن نعرضه على عمر الشريف ليقوم بدور خوفو واتصلنا بمديرة أعمال عمر وأرسلنا لها السيناريو ثم اتصلت بنا لنلتقى بعمر فى الزمالك وجلسنا معه ذات ليلة وبعد أن شرب لم تعجبنى رد فعله خصوصا بعد أن عرفت منه أنه كان سيقدم نفس القصة فى فيلم من إخراج هانى لاشين ولم يتم المشروع، خرجنا أنا والمخرج وفكرنا فى الراحل عزت العلايلى يمثل شخصية خوفو. (انظر الصورة. نموذج للملك. الفرعون أنا وعزت العلايلى والمخرج د خالد بهجت والمخرج يحيى العلمى ود محمود مبروك المشرف الأثرى على المسلسل) وكان المسلسل قد عاد من الجمعية التاريخية وراجعه أستاذان فى تاريخ مصر القديمة. لا أعرف من هما لكن أحدهما أرسل ملحوظة حول بعض المعلومات مثل أن عمال الهرم كانوا يشربون مشاريب معينة ويسهرون فى حانة ليلا ويرتدون ملابس معينة ويتم علاجهم بأساليب طبية معينة وأرسل لى القطاع. التقرير لأرد عليه وللعلم التقرير كان يشيد بالجهد فى السيناريو لكن أراد كاتبه التأكد من المعلومات وكان يسأل عن المراجع التى اعتمدت عليها فقمت بالرد على التقرير. وتمت إجازة السيناريو. لكن عزت العلايلى طلب أن يقرأ المسلسل د.جاب الله عالم الآثار. ود.زاهى حواس وبالفعل. حدثنى د. زاهى من أمريكا. وقال كلاما. هزنى. لأنه قال بالحرف ده أول سيناريو يلتزم بتاريخ مصر فى هذه الفترة. وأثنى على العمل واشترط أن يحضر التصوير واقترح أن يوجد د محمود مبروك الأستاذ المتخصص فى ملابس واكسسوارات المرحلة والذى أشرف على فيلم المومياء وحضر مع شادى عبد السلام فيلم إخناتون الذى لم ير النور وأرسلنا المسلسل للدكتور مبروك الذى جمعتنى به ليال فى منزله بالزمالك نراجع معا كل تفصيلة شمل الممثلين البيوت والإكسسوار إلخ. وأثناء التصوير كان موجودا بفريق كامل يراجع كل شىء وأثناء التصوير زارتنا وفود أجنبية عديدة كان منها وفد فرنسى من تليفزيون تى فى ثانك الذى عرض المسلسل وكانت المرة الأولى والأخيرة يعرض مسلسلا مصريا وكانت المحصلة أن المسلسل عرض فى فرنسا وإيطاليا وإنجلترا ودول أخرى وهو أول مسلسل مدبلج للغات أجنبية وللأسف لم يأخذ حقه من العرض فى تليفزيون مصر وللأسف لا أجده على اليوتيوب وهو مرمى فى مكتبة قطاع الإنتاج، أقول هذا بعد أن رأيت عمرو يوسف بدقن. وملابسه مسخرة هو وبقية الممثلين.. طبعا دى مسئولية المخرج أصلا. الذى لم يقرأ كتابا عن الأسرة الثامنة عشرة أو قبلها أو بعدها وأظن لم يقرأ صفحة فى موسوعة سليم حسن وإلا كان قد عرف أن الدقن عند المصرى القديم نجاسة وأنها على الجدران للأسرى والغزاة والغرباء وأن الملك كان مقدسا مثل الكاهن الأقل منزلة منه ولا يوجد ملك مصرى له دقن بينما يوجد الشارب الصغير أحيانا وانظر الصور على المعابد لقد تفاءلت جدا أن كاتب السيناريو موهوب ومتفرد وهم الـ«دياب» الذى أحترم جهدهم لكن اخشى أن يضيع هذا الجهد بهذا التشويه المقزز لتاريخنا حرام أن تنفق الملايين مع جريمة فى حق تاريخنا وكان ممكن الرجوع للمتخصصين لكنه الاستسهال. والعند. والجهل. وادعاء أن القائمين على العمل هم الذين يفهمون فقط وهذه أسوأ أعراض الاستبداد بالرأى والشللية، فى الفن.. خيرًا ما أقدمت عليه المتحدة بتشكيل لجنة متخصصة للمراجعة وكل أملى أن لا يعرفه ما حدث الرغبة فى تقديم أعمال أخرى عن تاريخنا القديم أو الحديث ورموزه وشخوصه لتأكيد الهوية والانتماء للأجيال.