منال لاشين تكتب: أزمة الهوية فى الرحلة الثانية للملوك الفراعنة

مقالات الرأي




لا تعارض بين كوننا أبناء الفراعنة وعرب 

سعى الاستعمار جديدًا وقديمًا لإخراج مصر من عروبتها وإفريقيتها 

الرحلة الأولى كانت عام 1902 وعانت مصر من الكوليرا.. ووقعت اتفاقية مع إثيوبيا حول النيل

تنقلت المومياوات الملكية من محافظة إلى أخرى ومن متحف إلى آخر، ولكن تظل أهم رحلتين فى تاريخها الرحلة الأولى فى عام 1902 للمتحف المصرى بالتحرير والذى استقرت وعرضت فيه المومياوات للمرة الأولى ثم الرحلة الثانية لمتحف الحضارة يوم السبت الماضى، وقد تفجرت حالة الجدل فور انتهاء الاحتفال المبهر والمبهج لنقل الملوك والملكات لمتحف الحضارة عن هويتنا وبالغ البعض فى التمسك أو بالأحرى التمسح بالحضارة الفرعونية مطالبا بتدريسها فى المدارس، وقطع كل الجذور الأخرى لمصر إلا الأصل الفرعونى، ولاشك أن المناخ المحيط باحتفال النقل ساعد فى اشتعال هذا الجدل، ولا أقصد بالطبع الإخوان والسلفيين، ولكننى أقصد تكرر الجدل حول هويتنا هل نحن فراعنة هل نحن عرب أم أفارقة؟!، وأقول التجدد لأن الخلاف على الهوية المصرية ليس جديدا بل متجدد، ومن المثير أن المناخ الوطنى أثناء الرحلة الأولى للمومياوات يتقاطع فى بعض سماته وأحداثه مع المناخ الحالى، عاش المجتمع المصرى جدلا مشابهًا، هل مصر عثمانية تتبع الخلافة العثمانية أم أن مصر عربية تربطها وشائج بين الولايات العربية الأخرى الواقعة تحت السيطرة العثمانية مع طرح بدا غريبا وهو أن مصر للمصريين ومن المثير للدهشة أن الجدل حول هوية مصر لم ينته طوال السنوات يختفى حينا ويتصاعد حينا آخر ويمتزج فيه الحيرة الوطنية المشروعة مع المؤامرات الخارجية.

1- بين الرحلتين

إذا كان نقل الملوك إلى متحف الحضارة تم فى ظل وباء كورونا، فقد شهد عام الرحلة الأولى للملوك لمتحف التحرير انتشار وباء الكوليرا، ولكن ما يهمنا هو المناخ السياسى والاجتماعى، مصر محتلة من الإنجليز، بل إن عام 1902 هو العام الذى شهد توقيع الاتفاقية بين مصر وإثيوبيا حول حصة مصر من مياه النيل، فى تلك الفترة كانت مصر خديوية يحكمها الخديو عباس حلمى الثانى ويتنازع أبناؤها انقسام أو جدل فى الهوية بين ثلاث الخلافة الإسلامية كتبرير وحيد للولاء العثمانى والولاء لسلطان مصر وأخيرا التغريب سواء للمحتل البريطانى أو الحضارة الأوروبية بشكل عام، ولم يكن للحضارة الفرعونية هذا التقدير الحالى إلا من جانب الأجانب وبعض المثقفين المصريين، كان المصريون البسطاء يطلقون على المومياء لقب (المساخيط) ولا يقدرون للحضارة الفرعونية عطاءها المذهل حتى توالت الاكتشافات عن عبقرية الفراعنة.

ولكن الشعور الوطنى كان جارفا خاصة مع الاحتلال البريطانى لمصر، فالعدو الرئيسى هو المحتل البريطانى.

أما فى الرحلة الثانية فقد تبدل المناخ والأعداء، أصبح العدو هو الإرهاب ومع ما عاناه المصريون من الإخوان وإرهابهم محليا وعالميا أدى إلى اهتزاز الكثير من المشاعر، بعض الشباب وكنتيجة لانتشار الإرهاب والتشدد راح يبحث عن هوية غير مرتبطة بالدم والتحريم المطلق، بينما تشدد الفريق الآخر فرفض كل الحضارات أو بالأحرى منابع الحضارة المصرية إلا الحضارة الإسلامية، ومع النكسات والهزائم العربية والخلافات العربية التى وصلت للدم أصاب عروبة مصر بعض أو بالأحرى كثير من الشكوك، وجاء الموقف الإثيوبى المتعنت والاستعمارى فى قضية سد النهضة ليلقى برصاصة الرحمة ضد انتمائنا الإفريقى الذى عانى كثيرًا من التجاهل والإهمال والجهل.

وسط كل هذه الأزمات والهزائم والخيانات كان من البديهى أن يبحث الكثير من المصريين بحسن نية عن هوية واضحة حاسمة متفردة مبهرة وعظيمة لمصر، ووجدوا فى الحضارة الفرعونية كل هذه الصفات أو بالأحرى وجدوا فى الحضارة الفرعونية ملجأ ومخرجا للخروج من الأزمة الهوية.

وقد أيقظ حفل نقل الملوك والملكات المبهر والمنظم والعظيم هذا الشعور ومن ثم الجدل حول هويتنا.

2- حسن أرابيسك

ولعل أشهر مشروع للبحث عن الهوية كان المسلسل العظيم للرائع أسامة أنور عكاشة (أرابيسك)، فالمسلسل يجسد الجدل حول هوية مصر هى عربية أم فرعونية أو بحر متوسط، ويرى بطل العمل حسن أرابيسك أنه لكى نبنى مصر على أسس صحيحة وقوية علينا أن نعرف الأول هويتنا ونستقر عليها، وهذا الهدف أهم من البناء فقد انهارت الفيلا لأنها كانت خليطًا غير متجانس من كل الهويات أو الحضارات التى شهدتها مصر، وعلى الرغم من عظمة المسلسل إلا أنه أثار غضب بعض الناصريين والقوميين لأنهم لم يحتملوا فكرة التشكيك فى عروبة مصر.

3- المصيدة

ومع احترامى لكل أصحاب النوايا الحسنة الذين اندفعوا فى حكاية أن المصريين فراعنة، ومع شديد حبى وتقديرى لحضارة أجدادنا، مع هذا وذاك إلا أننى أرفض هذه الفكرة لأنها ببساطة مصيدة أراد كل المستعمرين على مر التاريخ أن يدخلوا مصر والمصريين فيها.

كل مستعمر قديم كان أو جديدًا يريد أن ينزع عن مصر هويتها العربية والإفريقية، لأنه لا يريد لمصر أن تقوى بهاتين الهويتين من ناحية، ولا يريد أن تفيد مصر بثقلها وعبقرية تاريخها وموقعها العرب أو الأفارقة، خروج مصر من هويتها العربية مطلب استعمارى من الدرجة الأولى، وقد استجاب البعض بحسن نية إلى هذه الدعوة تحت مؤثرات كثر، وحكاية تعليم أطفالنا اللغة الفرعونية نكتة لطيفة جدا، فلم يسع الأوروبيون لتعليم أطفالهم اللغة اللاتينية باعتبارها اللغة الأم للغات الأوروبية كأساس لوحدتهم، وستظل اللغة العربية الحية هى لغتنا الجميلة التى توحد أكثر من 250 مليون عربى، نحن عرب وسنظل عربًا لا شرق أوسطية ولا فراعنة، نحن ننتمى لقومية لو أحسنا استغلال ثرواتها وأوقفنا الحروب بينها سنكون من أكبر القوى العالمية، ولذلك كان سعى كل مستعمر أن تنفصل مصر عن عروبتها، والهدف إضعاف كل من مصر والعرب معا.

كوننا ننتمى لحضارة فرعونية عظيمة لا يجب أن يكون مناقضا لعروبتنا ولا قاطعا لانتمائنا الإفريقى، كوننا أبناء إخناتون لا يخرجنا لا من زمرة لا الدين ولا القومية العربية.