تفسير الشعراوي لقوله تعالى {إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون} الآية 7 من سورة يونس

إسلاميات

الشيخ محمد متولي
الشيخ محمد متولي الشعراوي


تفسير سورة التوبة للشيخ محمد متولي الشعراوي

تفسير الشعراوي للآية 7 من سورة يونس

{إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ(7)}

والرجاء هو طلب شيء محبوب متوقع، والتمنى طلب شيء محبوب إلا أنه غير ممكن الحدوث، ولكن تعلن بتمنّيك أنه أمر تحبه، مثل من قال:
ألا ليتَ الشبابَ يعودُ يوماً *** فأخبِرَهُ بما فَعَلَ المَشِيبُ

هو بهذا القول يبين أن الشباب أمر محبوب ومرغوب. لكن هل يتأتى هذا؟ طبعاً لا. إذن: التمني هو طلب شيء محبوب لا يمكن أن يقع؛ ومثل قول الشاعر:
ليتَ الكواكبَ تَدْنُو لي فَأْنْظِمَها *** عُقُودَ مَدْحٍ فما أرضَي لكُم كَلِمِي
وهذا غير ممكن.

أما الرجاء فهو أن تطلب شيئاً محبوباً من الممكن أن يقع.

وهنا يقول الحق سبحانه: {إِنَّ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا}، فلماذا لا يرجون لقاء الله؟ لأن الذي يرجو لقاء الله هو من أعد نفسه لهذا اللقاء؛ ليستقبل ثواب الله، لكن الذي لم يفعل أشياء تؤهله إلى ثواب الله، وعمل أشياء تؤهله إلى عقاب الله؛ فكيف له أن يرجو لقاء الله؟ إنه لا يرجو ذلك.

وعلى سبيل المثال: إن الرجل الذي يستشهد ويقدم نفسه للشهادة، ونفسه هي أعز شيء عنده، إنما يفعل ذلك لوثوقه بأن ما يستقبله بالاستشهاد خير مما يتركه من الحياة.

إذن: فالذي يرجو لقاء الله هو الذي يُعدُّ نفسه لهذا اللقاء؛ بأن يتقي الله في أوامره، ويتقي الله في نواهيه؛ ولذلك تمر على الإنسان أحداث شَتّى؛ وهي في مقاييس اليقين بين أمرين اثنين: حسنات وسيئات، وكل واحد يعلم أية حسنات قد فعل، وأية سيئات قد اقترف، ولا يغشُّ أحد نفسه، فإذا ما كان حيّاً فقد يجعله الأمل يكذّب نفسه، ولا يرى إلا ما فات من المغريات.

أما إذا جاء لحظة الغرغرة في الموت، فهو يستعرض كل صفحته. فإن كانت حسنة استبشر وجهه، وإن كانت سيئة اكفهرَّ وجهه، ولذلك يقال: (فلان كانت خاتمته سيئة، وفلان كانت خاتمته متهللة). وهذا كلام صحيح؛ لأن الروح ساعة أن تُقبض فهي تترك الجسم على ما هو عليه ساعة فراقها، فإن كان ضاحكاً ومستبشراً، فقد رأى بعضاً مما ينتظره من خير.

والإنسان وقت الغرغرة لا يكذب على نفسه، فهو ساعة يمرض بمرض فهو يأمل في العافية، فإذا أتى وقت انتهاء تُعْرَضُ عليه أعماله عَرْضاً سريعاً، فإن كانت الأعمال حسنة تنفرج أساريره؛ لأنه يستشرف ما سوف يلقاه من جزاء.

وهذا مثل التلميذ حين يكون مُجِدّاً ومجتهداً ثم يقولون له: هناك من جاء لك بالنتيجة؛ فيجري عليه مطمئناً. وإن كان غير مُجِدٍّ؛ لم يجب، ويخاف من لقاء مَنْ يحمل النتيجة.

كذلك الذين يرجون لقاء الله؛ عملوا استعداداً لهذا اللقاء وينتظرون الجزاء من الله، أما من لم يعملوا فهم يخافون من لقاء الله ولا يرجونه وسبب ذلك أنهم لم يعملوا للآخرة {وَرَضُواْ بالحياة الدنيا واطمأنوا بِهَا} وكأنهم قد اكتفوا بها ولم يرغبوا في الآخرة.

وقد سمى الله هذه الدار اسماً كان يجب بمجرد أن نسمعه ننصرف عنها، فقال: {بالحياة الدنيا} ولا يوجد اسم أقل من ذلك، والمقابل للحياة الدنيا هي الحياة العليا.

والإنسان قد يبحث في عُمْر الدنيا ويقول: إنها تستمر عشرة ملايين من السنين، أو مائة مليون سنة، وقد لا يلتفت إلى أن عمره هو موقوت في هذه الدنيا.

إذن: فالدنيا بالنسبة لك هي مقدار عمرك فيها، لا مقدار عمرها الحقيقي إلى أن تقوم الساعة، وماذا تستفيد منها وهي تطول لغيرك؟ إن عمر الدنيا بالنسبة للإنسان هو مقدار مُكْث الإنسان فيها، وهو مظنون وغير متيقن، وقد يمت وهو في بطن أمه أو يموت وهو ابن شهر، أو ابن سنة، أو بعد أن يبلغ المائة. فالذي يرضي بغير المتيقن قصير النظر.

ولذلك انظر إلى القرآن وهو يقول: {أَرَضِيتُمْ بالحياوة الدنيا مِنَ الآخرة فَمَا مَتَاعُ الحياوة الدنيا فِي الآخرة إِلاَّ قَلِيلٌ} [التوبة: 38].

وحتى إن قسْت عُمْر الدنيا من بدء الخلق إلى أن تقوم الساعة، فه إلى فناء، وما دامت إلى فناء، فهي متاع قليل، ومن يطمئن إلى هذا المتاع القليل فهو غافل؛ لذلك يُنهي الحق الآية: {والذين هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ} عكس ما قال في الذين يعرفونَ قيمة العمل للآخرة. حين يقول الحق: {لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ} [يونس: 6].

والغفلة: هي ذهاب المعنى عن النفس، فما دام المعنى موجوداً في النفس، فاليقظة توجد، والغفلة تذهب. إذن: الغفلة ذهاب المعنى عن النفس، واليقظة هي استقرار المعنى في النفس.

ونحن نعرف أن المعلومات التي يستقبلها الذهن البشري إنما تلتقطها بؤرة الشعور، مثلما تلتقط آلة التصوير الفوتوغرافية أية صورة.

وإياك أن تظن أن الإنسان يعرف المعلومة من تكرارها مرتين مثلاً أو أكثر؛ لأن كل الأذهان تتفق في أنها تلتقط المعلومة من مرة واحدة، ويتميز إنسان عن آخر في قدرته على أن يستقبل المعلومة بذهن مستعد لها؛ لأن بورة الشعور لا تلتقط إلا معنى واحداً، ثم يتزحزح المعنى إلى حاشية الشعور؛ لتأتي المعلومة الثانية، فإن استقبلت المعلومة وفي بؤرة شعورك معنى آخر؛ لا تثبت المعلومة؛ لذلك تكرر القراءة مرة واثنتين وثلاث مرات، حتى تصادف المعلومة خُلُوَّ بؤرة الشعور.

ومثال هذا: الطالب حين يحاول حفظ قصيدة، فلو كان ذهنه مستعداً لاستقبال القصيدة فهو يحفظها من مرة واحدة.

لاستقبال القصيدة فهو يحفظها من مرة واحدة.

إذن: الذهن كآلة الغوتوغرافيا؛ ولذلك فالحق سبحانه وتعالى يقول: {مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ...} [الأحزاب: 4].

فإن كنت تريد أن تستقبل معلومة ما، فكُن حريصاً على أن تُفرِّغ ذهنك، من أي معلومة؛ لتأتي المعلومة الجديدة، فتصادف خلاء لبؤرة الشعور؛ فتستقر فيها.

والمدرس الناجح هو الذي يلفت أذهان كل التلاميذ لما يقول، وما دامت الأذهان قد التفتت إليه؛ فلن تمر كلمة دون أن يستوعبها التلاميذ، عكس المدرس غير الناجح الذي يؤدي عمله برتابة وركاكة تَصْرف عنه التلاميذ، ونجد المدرس الناجح، وهو يُلفت انتباه تلاميذه ويقطع الدرس؛ ليسأل أي واحد منهم عمَّا قال؛ فيستمع إليه التلاميذ من بعد ذلك بانتباه؛ لأن كل واحد منهم يتوقع أن يُسأل عن المعلومة التي قِيلتْ من قبل.

والتلميذ المجتهد هو الذي يقرأ الدرس بعقلية قادرة على مناقشة ما فيه من أساليب ومعلومات، وهو يستصحب حضور الذهن أثناء القراءة، أما التلميذ الفاشل فهو يقرأ دون يقظة أو انتباه.

مثال آخر: إن الفلاح الذي ينام على حافة بئر الساقية لا يقع في بئرها؛ لأنه ينام وهو مستصحب لفكرة أنه إن تقلَّب على جنبٍ ما فسوف يقع في البئر. وكذلك الإخوة حين ينام اثنان منهم على سرير واحد، يقوم كل واحد منهما في الصباح وهو مستصحب أن هناك آخر بجانبه، ولكن إذا نام كل منهما في سرير منفصل، فهو يستيقظ ليجد رأسه في ناحية وساقيه في ناحية أخرى، وتسمى هذه عملية الاستصحاب واليقظة، ويقال (فلان يقظ)، وكلمة (يقظ) ضد (نائم)؛ لأن اليقظان يحتفظ بالوعي والانتباه.

إذن: فالغفلة هي ذهاب المعنى من النفس وانطماسه، والذين يمرون بالآيات وهم غافلون عنها لن ينتفعوا بشيء من هذه الآيات، ثم تأتي لهم محصلة غفلتهم في الآخرة.

ويقول الحق سبحانه عنهم: {أولئك مَأْوَاهُمُ...}.

تفسير سورة التوبة للشيخ محمد متولي الشعراوي

تفسير الشعراوي للآية 7 من سورة يونس