منال لاشين تكتب: رؤساء مصر في العيادة النفسية (3).. مبارك بين الاكتئاب والإنكار

مقالات الرأي



وقع الرئيس الراحل بين مرضين متضادين أحدهما يدفعه للتمسك بالسلطة والآخر يدفعه بعيدًا عنها 

زوجته سعت إلى الدكتور عكاشة بعد إصابته بالاكتئاب وتفكيره فى الاعتزال

المقربون من مبارك يرون أن أثر فقده لحفيده أسوأ من فقدانه للسلطة

ولد الرئيس الأسبق الراحل مبارك فى بيئة عملية، أسرة من الطبقة المتوسطة الدنيا من محافظة تعشق العلم، وقد أدرك مبارك منذ طفولته أن السلم الوحيد أمامه للصعود هو العلم والعمل الجاد، والعمل الجاد وحده، ولاشك أن هذا التوجه قد حماه مبكرا فى شبابه من أن تؤثر أى من صدمات الحياة عليه. ومبارك هو صاحب أطول فترة رئاسية فى تاريخ الجمهورية بمصر30 عاما وهو أيضا أول رئيس يترك الحكم بثورة شعبية بل يحاكم ويدان فى قضية القصور الرئاسية بإهدار المال العام واستغلال النفوذ.

ولاشك أن مبارك بدأ حياته الرئاسية بشكوك حول مدى كفاءته بعد السادات الذى قتل، ومن هنا كان مبارك حريصا على أمنه وعدم المخاطرة السياسية، وقد استمرت هاتان السمتان مع مبارك طوال سنوات حكمه، ولكن طول سنوات الحكم كان وبالا على مبارك، فقد أصيب بعد 20 عاما من البقاء فى السلطة بمرض نفسى شهير يصيب الحكام الذين يتعدون العشرين عاما أو حتى 15 عاما، فطول البقاء فى السلطة هو أحد أهم أسباب إصابة مبارك بهذا المرض، ثم فاجأته الأقدار بصدمة عمره فكان أن أصيب بالمرض النفسى الآخر، وإذا كان المرض النفسى الأول لمبارك كان يدفعه للبقاء فى السلطة والتمسك بها، فإن المرض الثانى كان يدفعه فى الاتجاه الآخر لترك الحكم والانزواء بعيدا عن السلطة التى اكتشف أنها لا تساوى شيئا، بل إن الرئيس السابق مبارك قد عاش فترة شك فى جدوى السلطة التى يملكها.

1- الإنكار

الإنكار هو أحد الأمراض النفسية التى يصاب بها البشر، وهو حيلة دفاعية مرضية يواجه بها المريض كارثة أكبر من أن يتحملها، فينكر حدوثها مثل وفاة أحد الأحباء أو فشلنا فى عمل أو طريق اخترناه، وعلى الرغم أن الجميع من حولنا يرون فشلنا فالمريض بالإنكار لا يرى الفشل ولا يعترف به.

ولمرض الإنكار صورة أخرى فى عالم السياسة، فعندما تطول فتره حكم الرئيس أو عمر الملك يدخل الشخص فى حالة أخرى من الإنكار السياسى. إنكار بديهيات من نوع أن المنصب لا يدوم لأحد وإننا كلنا ميتون، ويروى أن الجنزال فرانكو أطول حكام إسبانيا عمرا فى السلطة كان فى مرض الموت، وسمع أصوات شعبه عالية من قصره، فسأل المحيطين به عن هذه الأصوات، وكان الرد: أن الشعب جاء ليودعك، فتساءل الجنرال فى دهشة حقيقة: ليه هو الشعب رايح فين؟، فطول استمرار الجنرال فى السلطة جعله فى حالة إنكار لبديهة الرحيل حتى عن الحياة، فما بالك بالرحيل عن السلطة، ولا يقتصر الإنكار السياسى عن نفى أو إنكار الرحيل عن السلطة فقط، وإنما يمتد إلى إنكار الواقع أو بالأحرى إنكار سلبيات الواقع أو غضب الشعب من الحاكم وتدهور مستوى معيشته، ويساعد فى سيطرة الإنكار إذا كان الحاكم يعيش فى عزلة من صنع حاشيته التى تزور له الواقع.

وهذا بالضبط ما حدث للرئيس الراحل مبارك، لقد دخل فى فترة إنكار سياسى بعد طول سنوات حكمه، فمبارك كان يصدق أن الشعب المصرى يحبه، وأنه راضٍ عن مستوى معيشته، وحتى عندما قامت ثورة تونس على حاكم عربى لم يصدق مبارك أن الثورة يمكن أن تنتقل إلى شعبه المحصن من الثورات.

وحتى بعد أن خرج مبارك من السجن بعد أن دفع مبالغ ماليه لإدانته فى قضية القصور الرئاسية سجل كلمة للشعب المصرى، وصفها الدكتور أحمد عكاشة بأنها نموذج على حالة الإنكار المسيطرة على مبارك.

2- الاكتئاب

فى 29 مايو عام 2009 قطع التليفزيون الإرسال ليذيع بيان نبأ مهم، وبدأت التلاوات القرآنية تنتشر فى كل القنوات العامة وأعلن الحداد، أما برامج التوك شو فقد رمت كل ما أعدته لتناول الحدث الأبرز وهو رحيل حفيد الرئيس، ولاشك أن رحيل صغير أو بالأحرى ملاك بشرى يؤثر على الجميع وتعاطف معه المصريون، ولكن كثافة تناول الإعلام للحدث لأيام جعل الأمر يخرج من الأمر الطبيعى إلى حالة خاصة ولم أقول شاذة.

والحالة الخاصة كانت تعلق الرئيس مبارك بحفيده محمد تعلقا شديدا، تعلقاً يخرج عن إطار أعز الولد ولد الولد، فقد كان للحفيد محمد مكانة خاصة وكبرى فى قلب مبارك ويومه، لقد كانت صدمة الفقد شديدة بل كارثية على الرئيس مبارك، وزاد من أثر الكارثة على نفسية مبارك أنه لم يستطع بكل ما يملك من سلطان ونفوذ وإمكانيات أن ينقذ أعز إنسان لديه، فقد كان الطفل البرىء محمد مصابا بفيروس نادر جدا أدى لوفاة الطفل فى نصف ساعة، دون أن يتمكن الرئيس من فعل شىء لإنقاذه، ولاشك أن الرئيس مبارك يؤمن بالموت، ولكن كلما زاد نفوذك زادت صدمة موت أحد أحبائك، لأنك تحتقر هذه السلطة التى لم تنفعك فى إنقاذ من تحب..بحسب الشهود رجل الأعمال الراحل حسين سالم والمحامى فريد الديب فإن مبارك ظل يبكى كلما تذكر حفيده ويردد (كان بين إيدى)، وبحسب الدكتور مصطفى الفقى والدكتور سمير فرج فإن فقدان الحفيد كان أكثر قسوة من فقدان السلطة، وقد بلغ من تأثر مبارك بفقد حفيده وحبه له أنه رفض المصالحة مع سوريا لأن الرئيس السورى لم يعز مبارك فى وفاة حفيده.

تملك الاكتئاب لأول مرة من الرئيس مبارك فى أشد حالاته وأفتك أعراضه.. عزلة ورفضاً للعودة للحياة وتأدية واجباته الرئاسية، ولم يعد يخرج من جناحه، أو يستقبل أحداً إلا اللواء عمر سليمان وزكريا عزمى نادرا، وبحسب مصدر طلب عدم ذكر اسمه: فإن مبارك فكر فى تقديم استقالته واعتزال الحياة، وعند هذه الخطوة الخطيرة سيطرت زوجته السيدة سوزان مبارك على أحزانها، وكان يجب أن تتصرف بسرعة لمواجهة الأزمة الخطيرة، لأن اعتزال مبارك بهذه الصورة كان سيدمر حلم توريث جمال مبارك، وبحسب المصدر فإن السيدة سوزان مبارك هى من اقترحت أن يرى طبيب نفسى الرئيس، بل إنها حددت الطبيب وهو الدكتور الشهير أحمد عكاشة، فهو الأبرع وهو مصرى يمكن أن يؤتمن على سر خطير من هذا السر، وعلاقة سوزان مبارك بعكاشة سابقة على مرض زوجها، فزوج ابن الدكتور عكاشة طارق متزوج من ابنة صديقة مقربة جدا لسوزان، وبهذه الصفة حضرت سوزان زفاف الدكتور طارق، ثم استمرت علاقتها بالدكتور أحمد عكاشة، وبالفعل تمت الاستعانة بالدكتور عكاشة لعلاج الرئيس الراحل مبارك.بينما حافظ عكاشة عن سر مريضه، فقد أفشى السر أحد أقرب المقربين من مبارك نفسه، وقد نجح الدكتور عكاشة فى مهمته الصعبة والسرية، واستطاع إخراج مبارك تدريجيا من مرض الاكتئاب الشديد، ولكن الألم ظل كامنا وأصر على عزيمة مبارك التى تآكلت كثيرا، فكان أن استجاب إلى توريث ابنه وترك له العديد من المهام خاصة أن جمال لعب دور أبيه فى فترة ذروة المرض، فكان يوقع على البوستة الرئاسية ويعطى أوامره للوزراء والمسئولين التنفيذيين، وبقدر ما سهل اكتئاب مبارك لجمال بالاقتراب من كرسى السلطة، بقدر ما أضر الأسرة بأكثر مما أفادها، فمبارك كان ذا خبرة طويلة فى إدارة حكم مصر بعيدا عن القفزات أو الصدمات، ولكن عندما تملك جمال مبارك السلطة هو ومجموعته عبثوا بقلة خبرة فى مفاصل مصر السياسية والاقتصادية، كما أن تعدد مراكز الحكم فى الأسرة أضعف من سلطة مبارك الشرعية.

وربما يمكننا القول إن وفاة الحفيد كانت من أكثر العوامل التى ساعدت على نهاية مبارك، وأذكر أن أحد المقربين منه نقل عن مبارك أنه قال: (أنا شفت جنازتى) وذلك عندما كان مبارك يتابع جنازة حفيده، إلا أن مبارك لم يقرأ الصورة جيدا، فموت الحفيد الذى يمثل المستقبل كان إشارة على نهاية مستقبل مبارك.