مى سمير تكتب: حكايات الفن والثقافة فى «منتصف ليل القاهرة»

مقالات الرأي



رسم «كورماك» صورة حية للحياة الليلية بحى الأزبكية وشارعه الرئيسى عماد الدين

شكلت العشرينيات من القرن الماضى بالقاهرة فترة ثورة سياسية واجتماعية وثقافية، كانت مصر قد حصلت مؤخرا على استقلالها من الحكم البريطانى، وأصبحت المرأة أكثر بروزا فى الحياة العامة، وكانت القاهرة واحدة من أكثر المدن متعددة الثقافات بالعالم.

فى كتابه الجديد «منتصف الليل فى القاهرة: نجمات مصر فى العشرينيات من القرن الماضى» يستخدم المؤرخ البريطانى رافائيل كورماك قصص المطربات والممثلات والراقصات بهذه الفترة كى يكشف عن تاريخ الشرق الأوسط، يتجول القارئ عبر صفحات الكتاب فى الملاهى الليلية الساهرة وقاعات الموسيقى الصاخبة والمسارح المزدحمة خلال الحياة الليلية بالقاهرة حيث حصلت الأسطورة أم كلثوم على انطلاقتها الأولى وحيث قدمت المغنية منيرة المهدية أول أوبرا عربية. 

قدمت صحيفة وول ستريت جورنال عرضا لكتاب «منتصف الليل فى القاهرة» الصادر يوم 9 مارس عن دار نشر دبليو دبليو نورتون، ويعد مؤلف الكتاب رافائيل كورماك من أشهر المتخصصين الغربيين فى تاريخ الفن المصرى حيث حصل على الدكتوراه فى المسرح المصرى من جامعة إدنبرة وهو حاليا باحث زائر بجامعة كولومبيا، ومحرر ومترجم حائز على جوائز وصاحب العديد من المقالات عن الثقافة العربية بمجلة لندن ريفيو وغيرها.

كتب كورماك: «كواحدة من أكثر المدن متعددة الثقافات بالعالم، كانت القاهرة فى القرن العشرين نقطة جذب للطموحين والموهوبين، خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، ازدهر مشهد نابض بالحياة للموسيقى والمسرح والسينما والملاهى، وحدد ما يعنيه أن تكون مصريًا حديثًا، و جاءت النساء للسيطرة على صناعة الترفيه المصرية - كنجوم المسرح والشاشة وأيضا كنجوم فى مجال ريادة الأعمال وإدارة صناعة الترفيه الحديثة».

1- الفن والسياسة 

يرصد الكتاب كيف تطورت صناعة الترفيه الحديثة بالقاهرة خلال أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين مع ظهور المسارح والنوادى الليلية مع تحولات ثورة عام 1919 التى أشعلت التغيير الاجتماعى والازدهار الثقافى فى عشرينيات القرن الماضى.

يلقى الكتاب الضوء على ما يصفه بـ«العصر الذهبى»، متناولا الحركات السياسية والاجتماعية والثقافية التى ظهرت فى تلك الفترة بما فى ذلك الحركة النسوية، كما يرصد التركيبة المتنوعة المتزايدة لسكان المدينة والتى تمهد الطريق لهذه الفترة من الإبداع فى الموسيقى والرقص والمسرح. 

يتعمق فى المجلات والسجلات والأفلام والسير الذاتية ويكشف كيف أصبح فنانو الأداء المصريين والعرب نجوما دوليين، وقاموا بجولات حول العالم فى عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضى من بغداد إلى نيويورك، واصفا القوى المختلفة التى أدت لتدهور الحياة الليلية بالقاهرة من صعود صناعة السينما بجميع أنحاء العالم إلى القوى التى سعت لفرض الرقابة والتحكم فيها. 

2- 7 نساء 

يكشف كورماك كواليس وتفاصيل لم تنشر من قبل عن سبع فنانات مصريات لعبن دور البطولة فى العشرينيات، مصورا الحياة الملونة لهؤلاء النساء فى سياق الاضطرابات السياسية والثقافية بتلك الحقبة، بما فى ذلك القومية العربية وظهور حركة نسوية مصرية. 

كانت تلك السيدات ليس فقط فنانات ولكن أيضا رائدات أعمال وصاحبات فرق وتنتمى كل واحدة منهن إلى خلفية مختلفة، قائلا: «هؤلاء النساء اللواتى فعلن الكثير لخلق ثقافة مصرية حديثة لم يكن جزءًا من النخبة، لقد نشأن فى كثير من الأحيان فى ظروف فقيرة، وكان لدى الكثير منهن القليل من التعليم الرسمى، تعلم البعض منهن القراءة بما يكفى فقط لمتابعة نصوص المسرحيات»، وشرح المؤرخ البريطانى القصص المتشابكة للنجمات، راسما صورة لحياة ثرية تتخللها العديد من الزيجات والطلاق وقصص الحب. 

يتناول الكتاب قصة حياة فاطمة رشدى، الملقبة بـ«سارة برنهارد الشرق» والتى تعد رائدة السينما المصرية، واشتهرت بتقديم دور مارك أنطونى فى رواية «يوليوس قيصر» ونابليون الثانى فى رواية «ليجلون». 

كما يحتفى الكتاب بأم كلثوم التى نشأت وهى تغنى الأغانى الدينية فى فرقة والدها وأصبحت «الرمز الأكثر شهرة فى تاريخ الموسيقى العربية»، كتب كورماك: «رغم أصولها البسيطة أصبحت أم كلثوم المغنية التى يذكرها العالم الآن على أنها الرمز الأكثر شهرة فى تاريخ الموسيقى العربية».

منافستها الفنانة والمغنية منيرة المهدية كانت أول امرأة مصرية تقود فرقة مسرحية، وقد أثارت المغنية والممثلة منيرة المهدية ضجة كبيرة عندما ظهرت فى أدوار الرجال على خشبة المسرح فى العقد الأول من القرن الماضى، قادت فرقتها المسرحية حيث قدمت عروضًا مسرحية جمعت بين الغناء والرقص والكوميديا والدراما فى ليلة واحدة طويلة من الترفيه، وأدى ظهور الاسطوانات إلى نوع من الأغانى الرومانسية الشعبية المعروفة باسم طقطوقة، وسجلت منيرة عددا من الأغانى الرائجة المشحونة بأغنيات وقصائد عاطفية لا ينقصها الجرأة. 

كما يسلط الكتاب الضوء على الممثلة ورائدة العمل الصحفى «روز اليوسف»، أسست الممثلة الكوميدية «روز اليوسف» مجلة وأطلقت عليها اسمها، حسب المؤرخ البريطانى، فى بدايتها كانت المجلة مساحة من أجل أن يستطيع الفنانون تقديم جانبهم من القصة، كما كانت المجلة بمثابة مصدر مهم للمعلومات عن الحياة الليلية بالقاهرة. 

كما يتناول الكتاب قصة حياة عزيزة أمير، كانت مفيدة محمد غنيم، المعروفة أيضا باسمها المسرحى «عزيزة أمير»، المؤسس الحقيقى للسينما المصرية قبل أن يؤسس طلعت حرب «استوديو مصر» الشهير عام 1937. 

حسب الكتاب، قدم هذا الجيل الجديد من المشاهير رؤية جديدة للمرأة بمصر وفى جميع أنحاء الشرق الأوسط، وذلك بفضل الرياح المتقاطعة للاستعمار والقومية والمحافظة والليبرالية والقيم الدينية والعلمانية والنظام الأبوى والنسوية.

3- حكايات ليلية 

يتضمن الكتاب الكثير من الحكايات عن نساء هذا العصر الذهبى، من ضمن القصص التى تضمنها الكتاب قصة الناشر البريطانى سى آر أشبى ومنيرة المهدية، كشف خلالها كيف كان الفن المصرى بتلك المرحلة قادرا على الإبهار بمستوى قد يتفوق فى بعض الأحيان عن الغرب، وعلى نحو مثير للدهشة فإن هذه القصة المصرية كانت ضمن الوثائق البريطانية القديمة.

 فى عام 1917، وجد الكاتب والناشر والمصمم ورائد الفنون والحرف اليدوية سى آر أشبى نفسه يعمل مدرسًا فى مدرسة بالقاهرة، كان أشبى اشتراكيًا فى قالب ويليام موريس المعماري والكاتب الاشتراكى الإنجليزى الشهير، لذلك عندما تم اصطحابه لمشاهدة عرض درامى عربى فى قرية على بعد حوالى ساعة خارج القاهرة، كان بالكاد قادرًا على كتمان مشاعر السعادة التى سيطرت عليه بالكامل. 

فى مذكراته المحفوظة الآن بأرشيف كلية كينجز كامبريدج، تفاخر أشبي: «لقد حظيت بتجربة رائعة، لقد رأيت دراما شكسبيرية حقيقية حية - مأساة كما تم تقديمها فى أوروبا قبل 250 عاما، تم تمثيل الدراما على خشبة مسرح مدعمة بقطع من الألوان الرائعة، فى أنماط عربية زاهية، تم تثبيتها على صوارى كبيرة وتعليقها على 4 أشجار نخيل ضخمة من خلال قممها المفتوحة على النجوم والقمر».

ربما كان الأهم من ذلك كله هو الفنانة الرئيسية للعرض المسرحى، منيرة، التى أدهشته بأدائها وعدم اكتفائها بسحر الجمهور أثناء المسرحية فحسب، بل عادت بعد ذلك لتغنى العديد من الأغانى.

وأضاف أن هذه المغنية كانت إحدى أكبر نجمات الحياة الليلية الحديثة بمصر، بعد قدومها إلى القاهرة عام 1905، كانت تكسب عيشها من الغناء بالنوادى الليلية فى المدينة، قبل أقل من عامين من مشاهدة أشبى لأدائها فى تلك القرية، تركت وراءها حياة مطربة الملهى الليلى لتظهر لأول مرة فى مسرحية على مسرح برنتانيا فى شارع ألفى بيه، قيل إنها أول امرأة مصرية مسلمة تصبح ممثلة محترفة - قبل ذلك كانت الممثلات إلى حد كبير مسيحيات أو يهوديات أومن سوريا، فى العام التالى أصبحت أول امرأة مصرية تقود شركتها المسرحية الخاصة.

تابع كورماك: «بعد فترة طويلة من مشاهدة آشبى لها، ظلت منيرة واحدة من أكبر الأسماء فى عالم الحفلات والسهرات الليلية الصاخبة التى ازدهرت بالقاهرة طوال عشرينيات و ثلاثينيات القرن الماضى، فى هذه الفترة، كان وسط القاهرة مليئًا بالمسارح والملاهى الليلية وقاعات الرقص ودور السينما، وكان مشهدًا ترفيهيًا ينافس مدنًا عالمية أخرى مثل برلين أو باريس أو نيويورك».

4- الأزبكية

من خلال الاعتماد على المذكرات والمجلات وتقارير الصحف والمحفوظات، رسم السيد كورماك صورة حية وحيوية للحياة الليلية بالقاهرة، والتى كانت تتمركز فى حى الأزبكية، يضم الشارع الرئيسى، شارع عماد الدين، دار أوبرا كبيرة وفنادق باهظة الثمن وقاعات رقص وحانات ومقاه لا حصر لها.  يكتب المؤرخ البريطانى: «العديد من هذه الأماكن كانت تقدم عروضا للمغنين أو الراقصين، فى ذلك الوقت كانت مصر مجتمعًا متعدد الثقافات يختلط فيه اليهود والمسلمون والمسيحيون والأجانب بحرية، لم تكن الحياة فى الأزبكية مقيدة بأى شىء». 

فى شارع الأزبكية تعددت القصص وحكايات نجمات الغناء والفن المصرى، ويلقى الكتاب الضوء على قصة إعجاب لعب بطولتها أشهر سياسى فرنسى بذلك الوقت مع واحدة من أشهر نجمات شارع الأزبكية، كانت المغنية نعيمة المصرية التى اعتادت تقديم عروضها طوال عشرينيات القرن الماضى إحدى نجمات الفن المصرى فى العشرينيات، أطلق على نعيمة المصرية لقب ملكة الأسطوانات حيث سجلت أكثر من 150 أسطوانة وغنت المغنية ذات الجمال الرائع من ألحان الشيخ سيد درويش، وغنت أيضا من ألحان محمد القصبجى، وداوود حسنى، وزكريا أحمد، حسب الكتاب أعجب رئيس الوزراء الفرنسى فى ذلك الوقت جورج كليمنصو بالمغنية المصرية وكان يرسل لها الهدايا لكى يتودد لها بما فى ذلك زجاجات الشامبانيا. 

حسب الكتاب، المكان الوحيد الذى لا يزال بنفس الشكل تقريبا كما فى العشرينيات هو مسرح نجيب الريحانى بشارع عماد الدين، تم افتتاحه فى البداية كدار عرض سينمائى تحمل اسم قاعة الراديوم فى العقد الأول من القرن الماضى، ثم فى عام 1923 تحول لمسرح رمسيس، منذ ذلك الحين مر بسلسلة من التجديدات والعلامات التجارية، مضيفا «وربما كان هذا المسرح المكان الذى جاء فيه الكاتب الفرنسى الحاصل على جائزة نوبل للأدب أندريه جيد لمشاهدة مسرحية عندما كان فى القاهرة بعد الحرب العالمية الثانية».

فى كتابه اعتبر المؤرخ البريطانى المشهد الفنى المصرى المتنوع دليلا على حياة اجتماعية وسياسة ثرية تعكس مجتمعًا حديثًا يواكب العصر بل يسبقه ويتفوق عليه، بالنسبة له كان التنوع الفنى انعكاسًا لمجتمع ناضج ومتحضر، هذا المشهد الفنى الذى لعبت فيه المرأة المصرية دور البطولة ليس فقط على خشبة المسرح ولكن أيضا فى كواليس الصناعة كان أيضا دليلًا على حالة الزخم سواء السياسى أو الاجتماعى.

كتاب كورماك دليل على أهمية الفن والثقافة كأحد أهم دعائم القوة الناعمة المصرية، كما يؤكد أن المشهد الفنى الثرى هو أيضا انعكاس لمجتمع حديث قادر على الإبداع، وأن الفن ليس فقط أداة للتأثير فى الداخل أو وسيلة لمد النفوذ الثقافى فى الخارج، ولكنه انعكاس للمجتمع، كلما كان المشهد الفنى حرًا ونابضًا بالمنافسة والاختلاف، كلما رسم ذلك صورة لمجتمع لا يقل حرية.