تفسير قوله تعالى: "وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون"
يعد الماء من النعم الكبرى التي أنعم الله به سبحانه وتعالى على خلقه، فهي سر الوجود، ولا حياة دون ماء، فبها يحيا الانسان والحيوان والنبات.
وقال تعالى: "وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون"، أي أن الله سبحانه وتعالى أنزله من السماء بقدر وأسكنه في أرضه الواسعة، مخزن بها في صورة أنهار وبحار وآبار، والآية بها 4 رسائل.
فأما الأولى: يقول القرطبي، إن هذه الآية من نعم الله تعالى على خلقه ومما امتن به عليهم ؛ ومن أعظم المنن الماء الذي هو حياة الأبدان ونماء الحيوان، والماء المنزل من السماء على قسمين : هذا الذي ذكر الله سبحانه وتعالى وأخبر بأنه استودعه في الأرض ، وجعله فيها مختزنا لسقي الناس يجدونه عند الحاجة إليه ؛ وهو ماء الأنهار، والعيون، وما يستخرج من الآبار.
وروي عن ابن عباس وغيره أنه إنما أراد الأنهار الأربعة : سيحان ، وجيحان، ونيل مصر، والفرات، وقال مجاهد: ليس في الأرض ماء إلا وهو من السماء، وهذا ليس على إطلاقه، وإلا فالأجاج ثابت في الأرض، فيمكن أن يقيد قوله بالماء العذب، ولا محالة أن الله تعالى قد جعل في الأرض ماء وأنزل من السماء ماء.
وقيل: إن قوله جل وعلا: "وأنزلنا من السماء ماء، إشارة إلى الماء العذب، وأن أصله من البحر، رفعه الله تعالى بلطفه وحسن تقديره من البحر إلى السماء، حتى طاب بذلك الرفع والتصعيد؛ ثم أنزله إلى الأرض لينتفع به، ولو كان الأمر إلى ماء البحر لما انتفع به من ملوحته .
الرسالة الثانية، قوله تعالى: "بقدر" أي على مقدار مصلح، لأنه لو كثر أهلك؛ ومنه قوله تعالى: وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم، وإنا على ذهاب به لقادرون يعني الماء المختزن، وهذا تهديد ووعيد؛ أي في قدرتنا إذهابه وتغويره، ويهلك الناس بالعطش وتهلك مواشيهم؛ وهذا كقوله تعالى: قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا أي غائرا فمن يأتيكم بماء معين .
وأما الرسالة الثالثة: ذكر النحاس: قرئ على أبي يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن يونس، عن جامع بن سوادة قال: حدثنا سعيد بن سابق ، قال : حدثنا مسلمة بن علي ، عن مقاتل بن حيان، عن عكرمة، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أنزل الله - عز وجل - من الجنة إلى الأرض خمسة أنهار: سيحون وهو نهر الهند، وجيحون وهو نهر بلخ، ودجلة، والفرات وهما نهرا العراق، والنيل وهو نهر مصر أنزلها الله تعالى من عين واحدة من عيون الجنة في أسفل درجة من درجاتها على جناحي جبريل - عليه السلام - فاستودعها الجبال وأجراها في الأرض، وجعل فيها منافع للناس في أصناف معايشهم.
وذلك قوله جل ثناؤه: "وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض "،فإذا كان عند خروج يأجوج ، ومأجوج أرسل الله - عز وجل - جبريل فرفع من الأرض القرآن، والعلم، وجميع الأنهار الخمسة، فيرفع ذلك إلى السماء فذلك قوله تعالى: "وإنا على ذهاب به لقادرون"، فإذا رفعت هذه الأشياء من الأرض فقد أهلها خير الدين والدنيا .
والرسالة الرابعة، مفادها، أن كل ما نزل من السماء مختزنا كان أو غير مختزن فهو طاهر مطهر يغتسل به ويتوضأ منه؛ على ما يأتي في "الفرقان" بيانه .