تفسير الشعراوي لقوله تعالى {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم} الآية 128 من سورة التوبة

إسلاميات

الشيخ محمد متولي
الشيخ محمد متولي الشعراوي


تفسير سورة التوبة للشيخ محمد متولي الشعراوي

تفسير الشعراوي للآية 128 من سورة التوبة

{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ(128)}

ونلحظ هنا أن الحق قد نسب المجيء هنا للرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يقل: جئتكم برسول. وكلنا يعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأت من عند نفسه، ولم يدع هذا الأمر الجليل لنفسه، ولكن الشحنة الإيمانية تفيد أنه خلق بما يؤهله للرسالة، وبمجرد أن نزل عليه الوحي امتلك اندفاعاً ذاتيّاً لأداء الرسالة، ولم يحتج لمن يدفعه لأداء الرسالة؛ لذلك أراد الحق سبحانه أن يثبت للرسول صلى الله عليه وسلم المجيء ذاتيّاً، ولكن هذا المجيء الذاتي ليس من عند محمد صلى الله عليه وسلم في البداية، بل هو رسول من عند الله، فأتى الحق سبحانه هنا بكلمة (جاء).

وكلمة {رَسُولٌ} تدل على أنه ليس من عنده، وكلمة (جاء) تدل على أن الشحنة الإيمانية جعلت لذاته عملاً، فهو صلى الله عليه وسلم يعشق الجهاد من أجل الرسالة، ويعشق الكفاح من أجل تحقيق هذه الرسالة.

إذن: لا تنظروا إلى ما جاءكم به الرسول صلى الله عليه وسلم نظرتكم إلى الأمور الشاقة التي تتعبكم، ولكن انظروا ممن جاءت، إن كانت من الأصل الأصيل في إرسال الرسل، فالرب رحيم، خلقكم من عدم وأمدكم من عدم، ويوالي نعمة عليكم حتى وأنتم في معصيته. فأنت تعصاه ويحب الله سبحانه من يستر عليك، فلا تشك ولا تتشكك. وعليك أن تأخذ التكاليف على أنها من حبيب فلا تقل: إنها مشقة. فأنت- ولله المثل الأعلى- تطلب من ابنك أن يستذكر دروسه، وتراجعها معه قهراً عنه في بعض الأحيان، وأنت قد تمسك بيدي ابنك ليعطيع الطبيب حقنة من الدواء الذي جعله الله سبباً للشفاء.

إذن: فلا تأخذ الأحوال بوارداتها عليك، ولكن خذها بوارداتها ممن قدرها وقضاها؛ وهو الحق سبحانه وتعالى.
وهنا يقول الحق سبحانه: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} أي: أن الحق سبحانه لم يأت بإنسان غريب عنكم، بل جاء بواحد منكم قادر على التفاهم معكم. ولقوله الحق: {مِّنْ أَنفُسِكُمْ} معان متعددة، فمرة يكون معناها ب (من جنسكم)، مثلما قال الحق عن حواء: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا...} [النساء: 1].

أي: خلق حواء من نفس جنس آدم البشري، فلا يقولن أحد: كيف بعث الله لنا بشراً رسولاً؟ لأن الحق أراد الرسول من البشر رحمة بالناس؛ ولذلك يؤكد صلى الله عليه وسلم على بشريته أكثر من مرة وفي مواقع كثيرة. والقرآن يقول: {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى إِلاَّ أَن قالوا أَبَعَثَ الله بَشَراً رَّسُولاً} [الإسراء: 94].

إذن: فبشرية رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تؤخذ على الله، ولكن تؤخذ لله؛ لأنه أرسل واحداً من نفس الجنس؛ ليكون قادراً على أن يتفاهم مع البشر، وتكون الأسوة به سهلة.

ولذلك قال سبحانه: {قُل لَوْ كَانَ فِي الأرض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السمآء مَلَكاً رَّسُولاً} [الإسراء: 95].

وقوله الحق: {مِّنْ أَنفُسِكُمْ} أي: من جنس العرب، ولم يأت به من الروم أو من فارس، لكن اختار لكم من هو أعلم بطبائعكم. أو أن معنى {مِّنْ أَنفُسِكُمْ} أي: من نفس القبيلة التي تنتمون إليها معشر قريش.

أو أن {مِّنْ أَنفُسِكُمْ} تعني: أنكم تعلمون تاريخه، وتعرفون أنه أهل لتحمل أمانة السماء للأرض، كما تحمل أماناتكم من الأرض للأرض؛ ولأن هذا هو سلوكه، فهو قادر على أن يتحمل أمانة السماء للأرض. ولقد سميتموه الصادق الأمين، والوفي، وكلها مقدمات كانت توحي بضرورة الإيمان به كرسول من عند الله. وإن كانت سلسلة أعماله معكم تثير فخركم، فمجيئة كرسول إنما يرفع من ذكركم، ويعلي من شأنكم. فأنتم أهل قريش ومكة ولكم السيادة في البيت الحرام، وقد جاء محمد صلى الله عليه وسلم؛ ليزيد من رقعة السيادة لكم، فإذا كنتم قبل بعثته صلى الله عليه وسلم سادة البيت، فأنتم بعد بعثته سوف تصيرون سادة العالم.

ويقول الحق سبحانه: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف: 44].

فهو نبي الله للعالم أجمع ومن العرب ومن قريش، وكان يجب أن يفرحوا برسالته وأن يؤيدوها، لكن الله لم يشأ ذلك؛ لأن قريشاً قبيلة قد ألفت السيادة على العرب، وهذا جعل العرب يعملون لها حساباً، وخافت منها كل قبائل العرب في أنحاء الجزيرة العربية، وكانت لها مهابة هائلة؛ لأن كل العرب مضطرون للحج إلى الكعبة، وأثناء الحج تكون القبائل كلها في أرض قريش؛ لذلك كانت كل القبائل ترعى قوافل قريش، ولا تتعرض أي قبيلة لقريش أبداً، فقوافلها تروح وتغدو، جنوباً وشمالاً، ولا تقدر قبيلة أن تقف في مواجهة قريش، أو أن تتعرض لها.

وكل هذه المكانة وتلك المهابة أخذتها قريش من خدمتها لبيت الله الحرام؛ ولذلك شاء الحق ألا يمكن أبرهة من هدم البيت لتظل السيادة لقريش، فلو انهدم البيت الحرام وانصرف الحج إلى اليمن كما كان يريد أبرهة، فمن أين تأتي السيادة لقريش؟ لذلك قال الحق عن أبرهة وقومه: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} [الفيل: 5].

وأتبعها بقوله: {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشتآء والصيف} [قريش: 1-2].

وما دام الحق سبحانه قد شاء هذا فيأتي أمره في الآية التالية: {فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش: 3-4].

وشاء الحق سبحانه أن يبعث بمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً يدعو أولاً الصناديد، والقبيلة ذات المهابة والمكانة، وأن تكون الصيحة الإيمانية في آذان سادة الجزيرة الذي تهابهم كل القبائل، حتى لا يقال: إن محمداً قد استضعف قلة من الناس وأعلن دعوته بينهم، لا، بل جاءت دعوته في آذان الصناديد، والسادة، وسفه أحلامهم، وحين رفضوا دعوته هاجر، ثم جاءه الإذن بقتالهم، ولم تأت نصرة الإسلام من السادة، بل آمن به الضعاف أولاً، ثم هاجر إلى المدينة؛ لتأتي منها النصرة.

فلو أن النصرة جاءت من السادة لقالوا: جاءت نصرة الإسلام من قوم ألفوا السيادة، ولما ظهر واحد منهم يقول: إنه رسول؛ أرادوا أن يسودوا به، لا الجزيرة العربية، بل الدنيا كلها، فتكون العصبية لمحمد هي التي خلقت الإيمان بمحمد، والله يريد أن تكون النصرة من الضعيف؛ حتى يفهم الجميع أن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم هو السبب في العصبية لمحمد.

هكذا نفهم معنى: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ} أي: مرسل من الله و{مِّنْ أَنفُسِكُمْ} بكل ما تعنيه مراحل النفس، وهو مبلغ عن الله، فلم يأت بشيء من عنده، بل كل البلاغ الذي جاء به من ربه، والرب بإقراركم هو الذي خلق لكم ما تنتفعون به من السموات والأرض. وسبحانه يقول: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله...} [الزخرف: 87].

ويقول: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والأرض لَيَقُولُنَّ الله...} [لقمان: 25].

إذن: فالمخلوق هو الخليفة الإنسان، وما خلقه الله في الكون، إنما خلقه لخدمتكم كلكم، وأنتم تقرون ذلك، فإذا كان الرب قد سبق لكم بهذه النعم، وجاء الرسول الذي جاء لكم من عنده بما يسعدكم، وقد استقبلتم خيره قبل أن يأتي لكم بالتكاليف، واستقبلتم نعمته قبل أن تكونوا مخاطبين له، إذن: فالله الذي أرسل رسوله بالتكاليف والمنهج لكم، لابد أن يكون قد كلف من هو مؤتمن عليكم، وهو صلى الله عليه وسلم لم يأت من جنس الملائكة، بل هو بشر مثلكم، فإذا قال لكم: افعلوا كذا وكذا وأنا أسوة لكم في الفعل، فلا تتعجبوا، لكن غبار الكافرين بالله جعلهم يريدون أن يكون الرسول ملكاً، فقال الحق: {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى إِلاَّ أَن قالوا أَبَعَثَ الله بَشَراً رَّسُولاً قُل لَوْ كَانَ فِي الأرض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السمآء مَلَكاً رَّسُولاً} [الإسراء: 94-95].

أي: إن كنتم تريدون مَلَكاً، فالملك له صورة لا ترونها، ولابد أن نجعله ملكاً في صورة بشر؛ ليخاطبكم، إذنك فهل المشكلة مشكلة هيئة وشكل؟ ثم إن الملائكة بحكم الخلق: {لاَّ يَعْصُونَ الله ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6].

فإذا قال لكم الرسول الملك: أنا أسوة لكم في العمل الصالح، أكانت تصح الأسوة؟ من المؤكد أن بعضنا سيقول: لا، لن تنتفع الأسوة؛ لأنك مَلَك مطبوع على الخير، وليس لك شهوة بطن، ولا شهوة فرج، إذن: فأسوتنا بك لا تصلح.

إذن: فمن رحمته سبحانه بكم أن جعل لكم رسولاً من أنفسكم، ومن قبيلتكم، ومن العرب، لا من فارس والروم، وهو يخاطبكم بلغتكم؛ لأنكم أنتم أول آذان تستقبل الدعوة؛ فلابد أن يأتي الرسول بلسانكم، وجاءكم محمد صلى الله عليه وسلم بالأنس والألفة؛ لأن من قريش التي لها بطون في كل الجزيرة ولها قرابات، وأنس وألفة بكل العرب، وأنس ثالث أنه من البشر، وجاء به الحق سبحانه فرداً من الأفراد، محكوم له بالصدق والأمانة قبل أن يبلغكم رسالته من الله.

إذن: فإذا جاءكم الرسول بتكليف قد يشق عليكم، فاستصحبوا كل هذه الأشياء؛ لتردوا على أنفسكم: هو بشر وليس مَلَكاً. هو من العرب وليس من العجم. هو من قبيلتكم التي نشأ بينكم فيها. هو من تعرفون سلوكه قبل أن يبلغ عن الله، فما كذب على البشر في حق البشر. أفيكذب على البشر بحق الله؟

وقرأ عبد الله بن قسيط المكي هذه الآية: {مِّنْ أَنفُسِكُمْ} أي: أنه صلى الله عليه وسلم بالمقياس البشري هو من أقدركم وأحسنكم. ولذلك حينما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة عن الله، هل انتظرت سيدتنا خديجة رضي الله عنها أن يأتي لها بمعجزة؟ هل انتظر أبو بكر أن يأتي له بمعجزة؟ لا، لم ينتظر أحدهما لأن كلاّ منهما أخذ المعجزة من ناحية تاريخه الماضي.

وحينما قال لخديجة: (يأتيني ويأتيني ويأتيني) وكانت ناضجة التكوين والفكر والعقل، وعلمنا مما قالت لماذا اختار الله له أن يتزوجها وعمره خمسة وعشرون عاماً، وعمرها أربعون سنة، مع أن المألوف أن يحب الإنسان الزواج ممن هي دونه في العمر.

لكن المسألة لم تكن زواجاً بالمعنى المعروف، لكنه زواج لمهمة أسمى مما نعرف، ففي فترة هذا الزواج ستكون الفترة الانتقالية بين البشرية العادية إلى البشرية التي تتلقى من السماء، وهذه فترة تحتاج إلى قلب أم، ووعاء أم تحتضنه وتُربِّت عليه.

فلو كانت فتاة صغيرة وقال لها مثلما قال صلى الله عليه وسلم لخديجة لشكت في قواه العقلية، لكن خديجة العاقلة استعرضت القضية استعراضاً عقليّاً بحتاً. فحين قال لها: أنا أخاف أن يكون الذي يأتيني رئي من الجن. قالت له: (إنك لتصل الرحم، وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق، والله لا يخزيك الله أبداً).

إذن: فقد أخذت من مقدمات حياته قبل البعثة ما يدل على صدقه بعد البعثة.

وكذلك أبو بكر رضي الله عنه، حينما قالوا له: إن صاحبك يدعي أنه رسول. قال: أهو قالها؟ قالوا: نعم. قال: إنه رسول من الله لأنه لم يكذب طوال عمره.

وبعد ذلك يقول الحق: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ}. وكلمة {عَزِيزٌ} أي: لا يُنال ولا يقدر عليه أحد، والشيء العزيز أي نادر الوجود. وقد تقول لإنسان: (قد تكن وزيراً)؛ فيصمت رجاء، لكن إن قلت له: (ستصبح رئيس وزراء) فيقول: هذه مسألة مستعصية وكبيرة عليَّ بعض الشيء.

إذن: فالعزة تأتي لامتناع شيء إما لقدرته، أو عزيز بمعنى نادر، أو يستحيل. والعزيز- هو الأمر الذي يعز على الناس أن يتداولوه، فيقال: (عز عليّ أن أصل إلى قمة الجبل). {عَزِيزٌ عَلَيْهِ} أي: شاق عليه أن يعنتكم بحكم؛ فقلبه رحيم بكم، وهو لا يأتي لكم بالأحكام لكي تشق عليكم، بل تنزل الأحكام من الله لمصلحتكم، فهو نفسه يعز عليه أن يشق عليكم.

ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مثلي كمثل رجل استوقد ناراً، فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي في النار يقعن فيها. وجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن فيها. قال: فذلكم مثلي ومثلكم. أنا آخذ بحجزكم عن النار. هلم عن النار. هلم عن النار. فتغلبوني تقحمون فيها".

فإذا كان الرسول صفته أنه من أنفسكم أو من أنفسَكم أو يحبكم حبّاً يعز عليه أن تكونوا في مشقة. إذن: فخذوا توجيهاته بحسن الظن وبحسن الرأي فيها، وذلك هو القانون التربوي الذي يجب أن يسود الدنيا كلها. فقد يقسو والد على ولده بأوامر ونواه: (افعل كذا) و(لا تفعل كذا) لا تذهب إلى المكان الفلاني، ولا تجلس إلى فلان، ولا تسهر خارج المنزل بعد الساعة كذا.

كل هذه أوامر قد تشق على الولد فنقول له: مشقة التكليف ممن صدرت؟ لقد صدرت من أبيك الذي تعرف حبه لك، والذي يشقى ليوفر لك بناء المستقبل، ويتعب؛ لترتاح أنت، فكيف تسمح لنفسك أن تصادق صعاليك يخرجونك عن طاعة أبيك إلى اللهو وإلى الشر. وانظر إلى والدك الذي تحمل المشقة حتى لا تتحمل أنت المشقة، ويشق عليه أن تتعب فهو أولى بأن تسمع كلامه.

ورسول الله صلى الله عليه وسلم عزيز عليه مشقتكم، والمشقات أنواع: مشقات في الدنيا تتمثل في التكاليف التي يتطلبها الإيمان، ولكنها تمنع مشقات أخلد في الآخرة؛ لذلك فالرسول صلى الله عليه وسلم يحزن أن ينالكم في الآخرة تعب، وتعب الدنيا موقوت وينتهي، لكن تعب الآخرة هو الذي يرهق حقّاً ويتعب.

ولذلك يقول الحق في تصوير هذه المسألة بقوله: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً} [الكهف: 6].

لماذا؟ لأنك تعرف يا محمد أنهم إن لم ينتهوا فسوف يجدون العنت كله في الآخرة.

أو أن مشقة الآخرة هي التي يجب أن نتلافاها، وأن نتحمل المشقات الزائلة العرضية التي تورد ثماراً.

فنحن قد نجد الرجل يقول لابنه مثلاً: اخرج إلى الحقل، واحمل السباخ فوق الحمار واحرث وارْو، كل هذه مشقات ستجد لذتها يوم الحصاد، وتعطيك الأرض من خير الله كذا إردب قمحاً أو غير ذلك. ولو ترك الأب ابنه لكسله فهذه هي المشكلة الأكبر، وحث الأب لابنه على العمل هو دفع لمغبة الضياع.

وقد يأخذ الأب ابنه للطبيب، ويجد الطبيب مشغولاً، ويرجوه الأب أن يجري للابن جراحة تنجيه وتنقذه من خطر رغم أن الأب يعلم أن الطبيب سيستخدم مع ابنه أدوات جراحية كالمشارط وغيرها، ولكن ليعلم الابن أن هذا المشرط سيمسُّ أباك قبل أن يمسَّك، وعلى ذلك إذا أُمرت بتكليف شاق فانظر مَنْ أمرك؟ أهو ممن تعز عليه ومن تحبه وممن يريد لك الخير؟ إن كان الأمر كذلك؛ فعليك أن تقبل ولا تسيء الظن، ولا تُرهق مَنْ يحبك.

واعلم أن والدك حين يصرفك عن أصدقاء السوء- مثلاً- فهو يرد عنك مصارف الشر؛ لأنك إن اجتهدت في عملك؛ فسوف تحصد النتيجة الطيبة، أما إن اتجهت إلى مصارف الشر فسوف تُشَرّد وتجوع، وسوف تدق باب بيت أبيك. وعندئذ ستسمع مثلاً عاميّاً يلخص الحكمة التي تقول (من يأكل لقمتي فليسمع كلمتي).

وهنا يقول الحق: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} ومعنى الحرص: أن يحوطكم بالرعاية؛ حتى لا تقعوا في المشقة الأكبر. ولذلك قلنا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد صوَّر هذه المسألة بقوله صلى الله عليه وسلم: "مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد ناراً فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها وهو يذبهن عنها وأنا آخذ بحجزكم عن النار- أي أمسككم من خلفكم حتى لا تذهبوا إلى النار- وأنتم تفلتون من يدي".

والحق يُسَرّي عن رسوله صلى الله عليه وسلم فيقول: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ} [الكهف: 6].

ويقول الحق أيضاً لرسوله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3].

فالرسول صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى إتقان العمل في الدنيا؛ ليصلوا إلى الجنة في الآخرة؛ لأن كل مؤمن عزيز عليه صلى الله عليه وسلم ويخشى أن يُرهَق إنسان واحد في الآخرة، ولذلك قال الحق: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 3-4].

أي: إياك أن تحزن أنك حريص على أن يؤمنوا؛ لأن الحق سبحانه يقدر أن ينزل عليهم آية تجعل رقابهم خاضعة، ولكن الرب لا يريد رقاباً تخضع؛ وإنما يريد قلوباً تخشع.

{عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}.

والرأفة والرحمة قد تلتقيان في المعنى العام، ولكن هناك أموراً تسلب مضرّة، وأموراً تجلب منافع. وسلب المضرّات- دائماً- مُقدّم على جلب المنافع، فحين نواجه عملاً يضر وعملاً ينفع؛ نُقدم على العمل لدرء ما يضر، ثم ننجز العمل النافع.

وساعة يطرأ عليك أمر يضر، وأمر ينفع، وأنت في حال متساوية ولابد أن تدرأ عن نفسك الأمر الضار الذي يخرجك عن الاستواء، ثم تقبل على الأمر الذي يزيد من الارتقاء.

وحتى نقرب هذه المسألة إلى الذهن، سأضرب هذا المثل الحسّي: هَبْ أن واحداً معه حجر يريد أن يضربك به، وآخر يريد أن يقذفك بتفاحة، فهل تنشغل بالتقاط التفاحة أو تنشغل برد الحجر؟ إنك تنشغل أولاً بدرء الضرر، ثم تقبل على جلب المنفعة.

ومثال آخر: هب أنك ترى إنساناً يغرق أمامك في البحر، فهل توبخه؛ لأنه نزل البحر دون أن يتعلم العوم؟ أم تنقذه أولاً وتدفع الأذى عنه، ثم توبّخه وتعاقبه بعد ذلك جزاء إهماله؟

إنك تنقذه أولاً، وبذلك تكون قد قدمت الإحسان بدفع المضرة أولاً، وحتى إن عاقبته فهو يتقبل منك العقاب أو النهر؛ لأن صنيعك أنقذه من الموت.

والحق يقول: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ...} [آل عمران: 185].

إذن: فمراحل الفوز أن يُزْحزح الإنسان أولاً عن النار، ففي هذا سلب للمضرَّة، وجلب للمنفعة، وإن ظل الإنسان في موقعه لا هو في الجنة ولا هو في النار؛ فهذا هين أيضاً. وإن أدخل الجنة فهذا هو الخير كله.

وإذا كانت هذه هي بعض من خصال الرسول صلى الله عليه وسلم: {رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ}، و{عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ}، و{حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ}، و{بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}، فهذه خصال إن استوعبها الإنسان فهو يندفع إلى اتباع هذا الرسول.

وقوله الحق: {بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} نرى فيه الوصف ب (الرءوف) والرأفة هي سلب ما يضر من الابتلاء والمشقة، و(رحيم) هو الذي يجلب ما ينفع من النعيم والارتقاء.

وحسبكم من هاتين الصفتين أن الله سبحانه وتعالى وصف رسوله بهذين الوصفين {رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} وقد ثبت أنه سبحانه قد وصف نفسه بقوله سبحانه: {إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [النحل: 7].

إذن: فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يسلك بما عنده، بل يسلك برأفة مستمدة من رأفة العل الأعلى، وكذلك رحمته صلى الله عليه وسلم مستمدة من رحمة العلي الأعلى. وكأن الحق سبحانه يبيّن لنا أنه أعطى محمداً صلى الله عليه وسلم بعضاً من الصفات التي عنده، فكما يبلغكم المشقات في التكاليف، فهو يبلغكم السلامة من المشقات في الرأفة، وترقية المنعمات بالرحمة؛ ولذلك يقول الحق سبحانه: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82].

ونعلم أن الشفاء إنما يكون من المرض، أي: أن القرآن يسلب المضرة أولاً، ثم يأتي لنا بالمنفعة بعد ذلك وهي الرحمة.

وقوله الحق: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} هذا القول خلاصته: إن استقبلتم مشقات التكليف من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فاعلموا ممن جاءت هذه المشقات، واعلموا أن مجيئه بها إنما هو ليرفع عنكم مشقات أكبر وأخلد؛ لأن مشقات التكليف تنتهي بانتهاء زمن التكليف وهو الدنيا، ثم يذهب المؤمن إلى الجنة ليحيا بلا تكليف، وما يخطر على باله من أشياء، يجده فوراً؛ بدءاً من الطعام والشراب وجميع ما خلقه الله لأهل الجنة من نعيم.

وإن نظرنا إلى متع الدنيا نجد أن من اجتهدوا في حياتهم، يستأجرون من يقوم لهم بالأعمال التي كانوا يقومون بها لأنفسهم؛ فالثري الذي كان يطهو طعامه قبل الثراء، يستأجر طاهياً؛ ليعد له طعامه، والفلاح الذي كان يبني بيته لنفسه، ثم رزقه الله بالرزق الوفير فاستأجر من يبني له، وكل الأعمال التي تسعد الإنسان وكان يقوم بها بنفسه ولنفسه، صار يستأجر من يقوم له بها، فما بالنا بالآخرة حيث تعيش في رضا الله وبأسرار كلمة {كُن}.

وهكذا نجد الحق سبحانه وتعالى قد جاء في هذه السورة بمشقات التكليف، والثواب عليها وطمأن المؤمنين بان الرسول صلى الله عليه وسلم يتميز بكل المواصفات الموحية: من أنه بشر، وأنه حريص عليهم، وأنه لا يكلفهم إلا بالمشقات التي تنجيهم من المشقات الأبدية، وأنه رءوف بهم ورحيم.

فإن استعموا إلى هذه الحيثيات وآمنوا، فأهلاً بهم في معسكر الإيمان، وإن تولوا ولم يسمعوا لهذه الحيثيات ولم يدخل القرآن قلوبهم، فإياك أن تظن- يا رسول الله- أنك منصور بهم؛ لأنك منصور بالله، فإن تولوا عنك وأعرضوا عن الإيمان بالله، وأعرضوا عن الاستماع لك، فاعلم أن ركنك الشديد هو الله، لذلك يختم الحق السورة بقوله: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ...}.

تفسير سورة التوبة للشيخ محمد متولي الشعراوي

تفسير الشعراوي للآية 128 من سورة التوبة