منال لاشين تكتب: رؤساء مصر فى العيادة النفسية (2).. عبد الناصر والمهدئات

مقالات الرأي




بعد هزيمة 67 عجز عن النوم ولجأ للمهدئات

أحمد عكاشة: لم يكن ساديا ولا معقداً من الأغنياء.. والكلام عن نرجسيته سذاجة

رفض العلاج النفسى وقصة الطبيب النفسى النرويجى مدسوسة عليه

لو كان المرض خلق خصيصا لشخص واحد لكان الرئيس جمال عبد الناصر هو هذا الشخص، كل مسببات المرض النفسى كانت تحيط به بل وتتخلل جسده، آلام القدم والعظام الناتجة عن مرض السكر كانت رهيبة، وتعرض لأزمتين فى القلب، وواجه انفصال سوريا وهزيمة يونيو، وكانت محاولات الاغتيال تطارده لأكثر من عشرين مرة.. أى أنه عاش القلق والألم الحاد وصدمة الأزمة القلبية واكتئاب الأحداث، ومع ذلك لم يصب عبد الناصر بمرض نفسى شديد يستدعى خضوعه لطبيب نفسى. ربما لأن علاج عبد الناصر كان خارج قائمة الأدوية. علاج ساعده فى أقصى لحظات الألم أو الانكسار والهزيمة.

1- جنون الألم

فى كتابه عبد الناصر والاغتيال يفصل عادل حمودة أمراض وآلام جمال بدقة الأطباء وتقاريرهم، ويصف الآلام العاصفة والغاضبة والجنونية التى كانت تعربد فى ساق وجسد عبد الناصر بسبب إهمال علاج السكر.لم يستطع عبد الناصر أن يبتعد عن الانفعال والعمل الشاق خاصة بعد هزيمة 67، حيث كان يسابق الزمن لإعادة بناء القوات المسلحة واستمرار حرب الاستنزاف من ناحية أخرى. لم يكن الأكل مشكلة تسبب السكر أو مضاعفاته. لأن عبد الناصر لم يكن أكولا، كان فطاره فولًا وجبنة، وغداؤه خضاراً ولحمة وأرزًا، والعشاء زبادى، ويميل الكثيرون أن القول بإن عبد الناصر أصيب بالسكر بسبب صدمة انفصال مصر عن سوريا، فقد أصابه مرض السكر من الحزن، ولكن علميا السكر لا يدخل جسد الإنسان لحزن أو انفعال. السكر يظهر أعراضه ووجهه الكئيب عندما يتعرض الإنسان إلى صدمة أو حزن، ولذلك ممكن القول بأن صدمة الانفصال أظهرت مرض السكر فى جسد عبد الناصر، وإهمال الراحة والبعد عن الضغوط جعل السكر يتوحش فى جسد عبد الناصر. كانت آلامه لا تحتمل، وفى موجة من موجات آلامه المتكررة قال عبد الناصر لأحد مساعديه: أنا مينفعنيش دكتور يا جدع شوف نجار يطلع المسامير اللى فى ضهرى، والمثير أن التعرض لآلام مبرحة شديدة مستمرة قد يفتح الباب للمرض النفسى، ولكن إرادة عبد الناصر الحديدية حمته من الانهيار أو الأمراض النفسية التى تجعل المرء مهملا لواجباته أو يميل للانعزال أو القلق أو الاكتئاب.

2- لا للطب النفسى

لم يكن عبد الناصر شديد الحماس بالطب النفسى، وحين عاد الدكتور أحمد عكاشة من الخارج وقد حصل على دكتوراه فى الطب النفسى. قابله عبد الناصر وسأله لماذا اخترت الطب النفسى، عندما نطبق الاشتراكية لم تجد مريضاً نفسياً، وأحمد عكاشة هو الشقيق الأصغر للدكتور ثروت عكاشة من الضباط الأحرار وكانت بعض اجتماعاتهم تعقد فى بيته، وهو أهم وزير ثقافة شهدته مصر، وكانت هذه العلاقة القوية سبب اللقاء السابق بين عبد الناصر وأحمد عكاشة، وحينما تكاثرت السحب السوداء فى حياة عبد الناصر، عرض عليه ثروت عكاشة أن يلتقى مع شقيقه الطبيب النفسى فى جلسات سرية، ولكن عبد الناصر رفض.

وهناك قصة مفبركة عن زيارة طبيب نفسى نرويجى لعبد الناصر دون علمه بعد الانفصال، فقد أنكر أطباء عبد الناصر هذه القصة، كما أن عبد الناصر ليس طفلا أو ساذجا حتى لا يفرق بين أسئلة طبيب السكر أو القلب وأسئلة الطبيب النفسى، والاستعانة بالطب النفسى ليست عيبا أو خطيئة، وأعتقد أن عبد الناصر لم يلجأ لطبيب نفسى لأنه بالفعل لم يصل لحالة المرض الذى تمنعه عن أداء مشاغله رغم مرضه، فمن سمات مرضى الاكتئاب أو القلق أنهما يفقدان الرغبة فى العمل أو الاستمرار فى الحياة العادية للمريض، وقد كانت الخناقة المستمرة بين عبد الناصر وأطبائه هو العمل.هو يريد أن يعمل 24 ساعة، وهم يريدون منه أن يرتاح أو يذهب فى رحلة استجمام.

3- شهادة موثقة

وبعيدا عن مرضى الاكتئاب والقلق، فهناك أمراض أخرى أكثر قسوه اتهمه بها خصومه.السادات اتهم عبد الناصر بأنه مصاب بالبارنويا (جنون العظمة) وخصوم آخرون اتهموه بالسادية، والسادية هى التمتع بإيذاء الغير، وكذلك اتهموه بالشك والحقد على الأغنياء، ولكن من حسن حظ عبد الناصر توافر شهادة موثقة من خبير لا ترد له شهادة، ففى كتاب (ثقوب فى الضمير.. نظرة على أحوالنا) يحلل الدكتور أحمد عكاشة كل الأمراض التى زعم خصوم عبد الناصر أنه أصيب بها، وفى الكتاب ينفى عكاشة نفيا جازما بإصابة عبد الناصر بهذه الأمراض أو أحدها. نبدأ بالسادية وأن عبد الناصر كان يتلذذ بتعذيب الآخرين. ينفى عكاشة من خلاله معرفته الشخصية بعبد الناصر وصداقة شقيقه الطويلة به أن جمال كان ساديا، أو أنه قام بتعذيب أحد بنفسه أو حتى كان يستمتع بحكايات التعذيب. ويقول عكاشة إن عبد الناصر كان رجلا انطوائيا كتوما يحب العزلة لكنه «كان عطوفا وقاسيا ووفيا وكريما وعنيدا وأمينا ومناورا ومثابرا ينفرد بالقرار» كما كان قارئا جيدا لمعظم أنواع المعرفة خاصة التاريخ.

ويرى أن وصف عبد الناصر بالنرجسية «سذاجة فى التحليل. فما هكذا كان عبد الناصر فلقد كان رجلا متواضعا للغاية فى مأكله وملبسه» مضيفا أن من مشكلاته عدم قدرته على تحمل النقد وفشله فى اختيار معاونيه وعدم ثقته بهم إضافة إلى انفراده بالرأى والحكم ويقول إن النشأة المتواضعة لعبد الناصر «لم تدفعه للحقد على الأغنياء كما تزعم بعض التحليلات» وأنه كان زاهدا فى مغريات الحياة فلم يتغير فى سلوكه أو انتمائه للطبقة المتوسطة، وحتى آخر يوم فى حياته.. لم ينتم إلى غير طبقته... لولا صلابة ذاته وإدراكه لحقيقة انتمائه لما تكسرت على صخرته الصلبة المحاولات العاتية التى بذلتها أجهزة المخابرات الأجنبية العتيدة التى حاولت إفساده وتخريب شخصيته فلقد منيت جميعا -وكلنا يعلم ذلك- بفشل ذريع».

4- مهدئ وعلاج

وعلى الرغم من أن عبد الناصر لم يصب بمرض نفسى، إلا أنه لم يستطع النوم بعد هزيمة 67 بدون مهدئات، فالقلق على الجبهة والإعداد للحرب مع الألم الشديد أطار النوم من عينه ولهذا أعطاه أطباء القلب والسكر مهدئات.

أما السلاح أو بالأحرى الذى جعله لا يحتاج إلى طبيب نفسى فهو الجماهير.يرى عادل حمودة أن الجماهير أو بالأحرى قوة حب وإيمان الجماهير لعبد الناصر رغم الهزيمة كانت أفضل علاج له من آلامه.يروى حمودة فى كتابه (عبد الناصر والاغتيال) كيف ارتفعت معنويات وتحسنت صحة جمال عبد الناصر حينما زار السودان فى أول قمة عربية بعد الهزيمة فقد حملت الجماهير سيارته ودخل على الزعماء العرب وهو مرح، ويتوقف حمودة عند شهادة الدكتور فايز منصور خلال زيارة ليبيا لحضوره القمة العربية فحين خرج من المطار فقد استقبلته الجماهير بجنون فاستغرق الطريق من المطار إلى قصر الضيافة 4 ساعات كان عبد الناصر يقف على قدميه فى سيارة جيب، ويروى الدكتور فايز: «إن الجماهير سحبت عبد الناصر بعيدا عنا، فلم نستطع الوصول إليه.. وكنا نتوقع أن يحدث له بعض المضاعفات. لكن ربنا ستر وعندما وصلنا إلى قصر الضيافة، فوجئنا به يسأل عنا كما لو كان هو الطبيب ونحن الذين نتألم».