محمد مسعود يكتب: أساطير الدراما 31.. «الوسية» دراما «القهر» فى زمن «الملح والطين»
إسماعيل عبدالحافظ أصر على التصوير فى قصر يرى المزارع حتى ينظر «الخواجة» للفلاحين نظرته الفوقية
التصوير تم فى مدينة «قها» والأهالى يحضرون العسل والقشدة لأسرة المسلسل: «الفول والطعمية مش مقامكم»
مسئولة الملابس فصّلت بدلة كاملة من المشمع ليرتديها أحمد عبدالعزيز تحت ملابسه فى مشهد السيول
عبدالله غيث وافق على تقديم شخصية «سالم» ثم اعتذر للمخرج وعبدالرحمن أبوزهرة البديل
سناء يونس توسطت لمحمود حميدة للعب دور الخواجه «تاكى».. ومشاجرة مع المخرج فى ثانى أيام تصوير دوره
الشاعر سيد حجاب رشح الموسيقار ياسر عبدالرحمن لتلحين التيتر.. وإسماعيل عبدالحافظ: «موهوب.. وهيعمل الموسيقى التصويرية كمان»
الدكتور خليل حسن خليل حضر غالبية أيام التصوير وتوارى عن الأنظار حتى لا يفضح دموع وجعه
كنت قد أتممت العاشرة من عمري؛ لم أعرف للجوع معنى، ولا أعلم ما تعنيه قسوة الحاضر، وغيوم المستقبل، كنت أغضب كبقية الأطفال عندما أطلب شيئا لا يوفره والدى لكونى ابنا وحيدا ومدللا، وفى شهر رمضان لعام 1990؛ جلست كما جلس أفراد أسرتى لنشاهد مسلسلا جديدا على شاشة التليفزيون المصرى، ومنذ بداية موسيقى التيتر، تعلقت بمسلسل «الوسية»، كونى شاهدت فيه عالما جديدا لم أعرفه، أشخاص يأكلون الخبز والملح، ويعيشون بين نار فقرهم، وذل حاضرهم؛ وبيوت من طين هى كل ما ينتظرهم فى المستقبل.
كرهت «الخواجه تاكى»؛ وبكيت لحال خليل، وأيقنت أن طبقتى الشعبية المتوسطة، نعمة؛ وجنة، وحلم للآخرين، وبعد مرور 31 سنة على عرضه الأول؛ أكتب عنه للمرة الأولى.
1- 3 سنوات كتابة
على الرغم من أن المسلسل خرج فى 19 حلقة، وعلى الرغم من كونه مأخوذا عن سيرة ذاتية كتبها صاحبها الدكتور خليل حسن خليل، إلا أن الكاتبة الكبيرة يسر السيوى استغرقت نحو ثلاث سنوات كاملة فى كتابة هذا العمل الملحمى، لم تستهون بالتفاصيل، ولم تتعجل الكتابة، بينما أرادت أن تصل الحالة الدرامية على الوجه الأكمل والأمثل؛ وما إن انتهت من كتابتها تعاقدت مع اتحاد الإذاعة والتليفزيون المصرى لإنتاج المسلسل.
وقتها كان المخرج الكبير الراحل إسماعيل عبدالحافظ انتهى من تصوير الجزء الثانى من ملحمته الدرامية العظيمة «ليالى الحلمية» للكاتب الكبير وعميد الأدب التليفزيونى أسامة أنورعكاشة، ووافق إسماعيل عبدالحافظ على إخراج المسلسل، ليعرض فى سنة تفصل بين عرض الجزءين الثانى والثالث من «ليالى الحلمية»، وبدأت جلسات العمل بين الكاتبة والمخرج للاتفاق على التفاصيل النهائية للسيناريو الذى نال موافقة ورضاء صاحب السيرة الذاتية الدكتور خليل حسن خليل.
2- فريق العمل
قبل تصوير مسلسل «الوسية» لم يكن الفنان أحمد عبدالعزيز قد وصل لمرحلة الانفجار الفنى التى حولته من ممثل موهوب ومجتهد، لفارس الدراما المصرية لعشر سنوات كاملة، قدم خلالها أعظم الأعمال الدرامية فى مصر والعالم العربى، وجاءت الانطلاقة الحقيقية من مسلسل «الوسية» عندما عرض عليه المخرج الكبير إسماعيل عبدالحافظ لعب بطولة المسلسل، ورحب أحمد عبدالعزيز بالفعل بالبطولة.
وقتها لم يسع للجلوس مع الشخصية الحقيقية، حتى لا يلتقط منه أى تفصيلة فى الشكل أو طريقة الكلام، بينما أراد أن يقدم العمل بإحساسه، لتخرج الشخصية من داخله، الأمر الذى احترمه صاحب القصة والبطل الحقيقى، وحتى عندما كان يذهب إلى استوديو الأهرام لمشاهدة عملية التصوير كان يتوارى حتى لا يلمحه أحمد عبدالعزيز، وفى العديد من المرات بكى فى موقع التصوير بكاء حارا لأن بطل المسلسل جسد واقعه، وجعله يعيش الإحساس والوجع مرة أخرى.
ورشح المخرج الفنان القدير الراحل عبدالله غيث ليقدم شخصية سالم لكن قبل بدء بروفات الترابيزة اعتذر عبدالله غيث عن عدم المشاركة فى بطولة المسلسل دون إبداء أسباب، ليتصل المخرج الراحل على الفور بالفنان القدير عبدالرحمن أبوزهرة لتقديم الشخصية، وبعد ذلك أسند دور عالية للفنانة شيرين، وشخصية «عائشة» للفنانة محسنة توفيق التى استعان بها فى «ليالى الحلمية» بعد اعتذار الفنانة الكبيرة فردوس عبدالحميد عن استكمال دور «أنيسة» بالجزء الثانى، وشخصية «خطاب» للفنان الراحل حمدى أحمد، واستقر على أن تلعب جالا فهمى دور «كاليوبي» والفنانة القديرة الراحلة سناء يونس دور «نبيهة».
3- تاكى.. وخليل طفلا
بعد أن وضع المخرج الكبير إسماعيل عبدالحافظ جميع الترشيحات لأبطال العمل؛ بقى دور خليل طفلا وصبيا، وقرر إسناده إلى أحمد عزت، الذى حقق مع المخرج نفسه نجاحا كبيرا عندما قدم شخصية «على البدري» طفلا فى الجزء الأول من «ليالى الحلمية»، وأثناء بروفات الترابيزة، التقى أحمد عزت بالفنان الكبير أحمد عبدالعزيز، الذى طالبه بالتركيز الشديد، لأنه من أبطال العمل، ومعاناة شخصية «خليل» فى مرحلة الطفولة والصبا، هى الأساس القوى الذى تبنى عليه الدراما عندما يتحول من طفل إلى شاب، وبالفعل نال الشاب الصغير استحسان المخرج والفنان أحمد عبدالعزيز.
وفى أثناء تصوير المشهد الخاص ببيع ممتلكات والد خليل، فوجئت الفنانة الكبيرة محسنة توفيق بدموع ساخنة تخرج من عينيه، لتقول له وللمخرج إسماعيل عبدالحافظ إن هذا الطفل سيصبح فى المستقبل ممثلا كبيرا، لكن نبوءة محسنة توفيق لم تتحقق، فقد قرر الطفل الاعتزال وهو فى سن الرابعة عشرة من عمره ويتوقف عن التمثيل نهائيا، نظرا للضغوط التى جعلته وبحسب تعبيره «يعيش طفولة صعبة».
بقى دور واحد، وهو دور الخواجه «تاكي»، الذى قدمه الفنان الكبير محمود حميدة، وقتها كان حميدة مثل مجموعة من الأفلام السينمائية، لكنها لم تعرض وتحولت بحكم التوزيع السينمائى إلى «أفلام علب»، وكانت تجمعه صداقة كبيرة بالفنانة الراحلة سناء يونس التى رشحته للمخرج، وبعد شد وجذب بين سناء يونس وإسماعيل عبدالحافظ الذى كان يحب خفة ظلها، وافق على ترشيح محمود حميدة، واتصلت به سناء يونس فى منزله فلم تجده، وروى حميدة الواقعة بنفسه فى برنامج صاحبة السعادة مع الإعلامية الكبيرة إسعاد يونس.
«لقيت مراتى مكلمانى وكنت وقتها واخد راحة فى العجمى، قالت لى إن سناء يونس اتصلت بى وبحثت عنى للعمل فى مسلسل جديد للمخرج «إسماعيل عبدالحفيظ»، فصححت لها الاسم، اسمه إسماعيل عبدالحافظ، فطالبتنى بالاتصال بسناء يونس، واتصلت بها بالفعل، فقالت أنها رشحتنى للأستاذ إسماعيل وأنه يجب علىِّ الحضور للقاهرة، فقلت لها سأحضر عندما تنتهى إجازتى، فقالت يا محمود ده أنا اتخانقت معاه علشان أرشحك، فقلت لها طب وأنت بترشحينى ليه.. وفى الحقيقة كانت فترة لم يكن معى فيها المال فقررت أن أقدمه على مضض، لكن بعد أن عملت به وبعد مرور أيام من التصوير أحببت العمل».
فى ثانى أيام تصوير محمود حميدة حدث موقف مع المخرج الكبير إسماعيل عبدالحافظ، إذ أخذ الفنيون وقتا طويلا فى التحضير للمشهد، ثم لم يتم تصويره، ما أدى لغضب حميدة الذى قال المرة الجاية أنا اللى هعتذر لو المشهد لم يصور.
4- أيام التصوير
قالت لى المخرجة أمل أسعد، التى استعان بها المخرج الكبير إسماعيل عبد الحافظ فى مسلسل «الوسية» لتكون مسئولة عن راكورات العمل، أنه قبل بداية التصوير، ذهبت مع المخرج إسماعيل عبدالحافظ وطاقم الإخراج ومدير الإنتاج لعمل معاينات لأماكن التصوير، وقمنا بجولات عدة على مزارع القطن، وكان للمخرج إسماعيل عبدالحافظ بعض الطلبات.
طلبات المخرج كما تقول أمل «طلب عم إسماعيل رحمه الله قصرا ليكون هو قصر الخواجه تاكى ضمن أحداث المسلسل، على أن يكون القصر يرى المزارع من الدور العلوى له، حتى يقف الخواجة فى شرفة قصره ليرى الفلاحين، بينما ينظر إليه الفلاحون من بعيد، وطلب أيضا أن تكون مشاهد جنى محصول القطن حقيقية، وأن يتم تصويرها فى الموعد المخصص للجنى، وطلب تصوير المحصول فى ثلاث مراحله، المرحلة الأولى له وهو مازال مقفولا، والمرحلة الثانية فى مرحلة التزهير، أما المرحلة الثالثة وقت الجنى، وحصلنا على موعد جنى المحصول من صاحب الأرض، ورتبنا عليه أيام التصوير، وكانت نحو 17 يوما فى مدينة قها».
لكن هل وفر التليفزيون كجهة إنتاج أيه مساكن لأسرة التصوير فى مدينة قها؟، أجابت أمل « لا، كان من الصعب حدوث ذلك، كنا نخرج فى رحلة يومية تبدأ من الخامسة صباحا، وفى هذا الموعد بالتحديد يبدأ التجمع أمام مبنى ماسبيرو، لركوب أتوبيس خصصه الإنتاج للانتقال إلى مدينة قها، وكان الأتوبيس يتحرك فى تمام السادسة صباحا، وكان المخرج يركبه معنا، علاوة على الدكتور خليل صاحب القصة والبطل الحقيقى للمسلسل، وفى الأيام الأولى كان عم إسماعيل يأمر السائق بالتوقف أمام عربة فول، ليشترى لنا وجبة الإفطار لنأخذها معنا، ونفطر فى موقع التصوير، وبعد أيام وبعد أن تعرف إلينا أهالى القرية وأحبونا، قالوا للمخرج فول إيه وطعمية إيه الفطار ده مش مقامكم يا أستاذ إسماعيل، بعدها انهالت علينا الصوانى المليئة بالفطير المشلتت والعسل والمش والقشدة وكانت من أفضل الأيام على الإطلاق، ومر العمل بلا أى مشكلات، وفى اليوم الأول لحضور الفنان محمود حميدة طلب المخرج الأستاذ إسماعيل عبدالحافظ من ماكيير العمل حمدى رأفت أن يرش شعره بالإسبراى الذهبي».
5- السيول تضرب القرية
يعتبر مشهد السيول التى ضربت القرية التى نشأ فيها خليل، من أصعب المشاهد عند تنفيذها، كان المشهد يتم تصويره ليلا، وكانت الإضاءة خافتة فى القرية، وكان من المفترض أن السيول ضربتها، وكان على خليل أن يجرى ويقطع مسافة طويلة حتى يصل إلى قصر الخواجه تاكى، ليقدم له الحسابات.
أمل أسعد أخبرتنى أن مصممة الملابس وقتها قامت بتفصيل بدلة كاملة من المشمع ليرتديها الفنان أحمد عبدالعزيز تحت ملابسه، نظرا لأن جلبابه والبالطو الذى يرتديه من فوقه ستتشرب جميعا بالماء، وكان الجميع يخشون عليه من التعرض للإعياء، وارتدى أحمدعبدالعزيز المشمع بالفعل، لكن بقى الخوف من أن يتزحلق من الطين الذى يجرى به ليلا، حتى يصل إلى قصر الخواجه ويضع يده على زر جرس الفيللا، ليتم تصوير بقية المشهد داخل القصر، وأثناء جريه كان «البشبوري» يضخ الماء بمنتهى القوة، وكان من حسن الحظ أن المشهد تم تصويره فى فصل الصيف.
كان من المفترض أن يتم التصوير الداخلى بالقصر نفسه، لكن المخرج وجد أن الغرف ضيقة جدا، فقرر عمل ديكور للقصر باستوديو الأهرام الذى تم فيه تصوير المشاهد داخل القصر، والغريب أن القصر الذى تم فيه تصوير التراس والحديقة شاهد عصر الخواجه بالفعل كونه من ثلاثينيات القرن الماضي.
6- مشهد جنى القطن
طلب المخرج إسماعيل عبدالحافظ لتصوير مشهد جنى القطن 100 كومبارس، يرتدون الزى الفلاحى لتصوير المشهد الذى تم تصويره بخمس كاميرات، اثنتان منها داخل الأرض، علاوة على «شاريوه»، وكاميرتان لرصد حركة الفلاحين من الخارج» المسلسل كانت تدور أحداثه فى فترة الأربعينيات، وأثناء التصوير حرص المخرج الكبير إسماعيل عبدالحافظ على أن يخبرنى أن السيدات يجب أن يغطين رءوسهن بإيشارب، وأن الإيشارب المتزحلق من على رأس المرأة هو دلالة وإشارة لفسقها، وأن الرجل الذى لا يرتدى طاقيته فوق رأسه فهى دلالة أيضا على فسقه وفجوره، وأثناء تصويرنا لمشهد جنى القطن، جريت لأقف بجوار المونيتور، لأراقب الإشاربات والطواقى، وبالفعل كانت هناك سيدة تزحلق الإيشارب الخاص بها فأوقفت التصوير على الفور وتمت إعادة اللقطات، ورغم أنها تفصيلة كانت ستمر على المشاهد لكن المخرج الكبير أستاذى الراحل كان حريصا على أن تكون جميع التفاصيل دقيقة بدون أى تنازل».
7- ياسر عبدالرحمن
أثناء كتابتى عن مسلسل «المال والبنون» الذى شهد انفجار قدرات الموسيقار ياسر عبدالرحمن سألت المخرج الكبير مجدى أبوعميرة «ولماذا ياسر عبدالرحمن؟» فقال لى أن التيتر الذى لحنه فى مسلسل «الوسية» قبلها بعامين أعجبنى جدا، فاستعنت به فى المال والبنون.
أما عن تيتر مسلسل «الوسية» فله حكاية، وقتها كان الشاعر الكبير الراحل سيد حجاب، معجبا جدا بموهبة ياسر عبدالرحمن، فجاء به إلى المخرج الكبير إسماعيل عبدالحافظ، وطالبه بالاستماع إلى موسيقاه، المخرج الكبير إكراما للشاعر الكبير استمع إليه بالفعل، وبعد أن طلب منه سيد حجاب أن يضع ياسر موسيقى وألحان التيتر قال له المخرج إن ياسر عبدالرحمن موهوب وسيضع الموسيقى التصويرية ويلحن أغنيتى تيترى المقدمة والنهاية، علاوة على ألحان الأغانى الداخلية للعمل.
حدث ذلك فى الوقت الذى توقع الجميع أن يستعين المخرج والشاعر بالموسيقار ميشيل المصرى الذى أبدع فى ليالى الحلمية، أو على الأقل الاستعانة بالملحن الكبير عمار الشريعى، لكنهما قررا منح موهبة شابة فرصة للظهور التليفزيونى، فأصبح ياسر عبدالرحمن من فرسان التأليف الموسيقى فى السينما والدراما التليفزيونية.
يذكر أنه كان من المقرر أن يتم تقديم جزء ثان من مسلسل «الوسية» وكان سيحمل اسم «الوارثون» ويستعرض قصة نجاح الدكتور خليل حسن خليل فى أوروبا وحصوله على الدكتوراه، لكن أزمات إنتاجية حالت دون ظهوره للنور.