د. رشا سمير تكتب: «السادات» من ميت أبو الكوم إلى عرش مصر..رحلة يرويها «سوليه»

مقالات الرأي



فى المدرسة الثانوية عرف الرئيس الراحل معنى كلمة «الفوارق الطبقية».. وفى لقاء بالمعادى طلب من حسن البنا الانضمام للتنظيم السرى ورفض

ربما جلس الكثيرون على العرش..وربما تقلد الكثيرون مناصب الحكام.. ولكن القليلين فقط هم من استطاعوا بحنكة أو بخطة أو حتى بخدعة تغيير مسار التاريخ..

الحقيقة أن الرئيس المصرى الراحل أنور السادات كان واحدا من هؤلاء.. ومن هنا كانت خطواته طريقا اقتفى أثره المؤرخون والكتاب، فكانت حياته أشبه برحلة روائية بدأت من القاع وانتهت إلى القمة..

تمنى أن يُصبح ممثلا ليعتلى خشبة المسرح، فأصبح قائدا واعتلى مسرح العالم ليقدم للتاريخ لقطات وخطابات وخطوات صنعت من سيرته حكاية وطن.

لم يكن عهد الرئيس أنور السادات والسنوات الأحد عشرة التى قضاها فى حكم مصر إلا نقطة نور اهتدى بها من جاءوا بعده من حكام، حتى لو كانت له أخطاؤه، فالرحلة التى قام بها إلى القدس عام 1977 والتى أفقدت العالم النطق وصنعت معاهدة للسلام ليت كل العرب آمنوا بها فى وقتها، كانت إنجازاً متفرداً لم يسبقه إليه أحد.

هكذا قرر روبير سوليه الصحفى فى جريدة (لوموند الفرنسية) والمؤرخ الفرنسى الشهير الذى ولد فى مصر عام 1946 أن يكتب عن شخصية مصرية فذة وحاكم استطاع أن يُغير وجه التاريخ، فجمع الوثائق والمراجع وشكل افتراضاته وأحكامه من خلال قراءاته ومتابعته بدقة لكل ما كُتب عن هذا الزعيم المصرى الراحل.

هذه هى قصة كتاب (السادات) الصادر عن دار هاشيت أنطوان (نوفل) فى بيروت، فى 345 صفحة، ليروى فيها الروائى والمؤرخ الفرنسى (روبير سوليه) ما نعرفه ومالم نعرفه عن هذا الرجل من وجهة نظر الأجنبى لذى عاش بمصر وجاب شوارعها وقرر أن يصدر حكمه بعد مداولات عديدة، بغض النظر عن كون هذا الحكم ظالما أو منصفا.

1- البداية:

يبدأ سوليه رحلته فى حياة أنور السادات منذ ولادته فى تلك الجنة التى كان يحلو له أن يسميها وهى ميت أبو الكوم.. كان طفلاً حافى القدمين، يجلس مع رفاقه على الأرض لحفظ القرآن..

تميز بتلك البشرة السمراء التى ورثها عن أمه النصف مصرية والنصف سودانية والتى حملت لقب (ست البرين)، والتى كان أنور غاضبا منها بداخله (بحسب ما رواه المؤلف مستندا إلى كلام الأستاذ هيكل) لأنه فى أعماقه لم يكن قادرا على احترام عذاب هذه السيدة التعيسة الحظ.. ولعل هذا كان نقطة ضعف تدخلت فى تشكيل طفولة هذا الرجل.

من الطرائف التى رواها سوليه أيضا كيف كان السادات مغرما بأتاتورك مؤسس تركيا الحديثة، لدرجة جعلته يعلق له صورة عند مدخل شقته.

فى المدرسة الثانوية اكتشف السادات معنى كلمة (الفوارق الطبقية) حين رأى ابن وزير الحربية الذى كان يأتى كل صباح إلى المدرسة فى سيارة يقودها سائق خاص، فقرر منذ ذلك الحين أنه حتى لو لم يستطع أن يغير طفولته فإنه لن يتوانى عن تغيير مستقبله.

كانت الكلية الحربية حكرا على أبناء الأرستقراطيين فى وقت ما، إلا أن الاتفاقية التى وقعها المحتل البريطانى فى 1936 سمحت للجيش المصرى بتوسيع نطاق التجنيد، وحين حصل السادات على الثانوية العامة، كان بحاجة لواسطة ليلتحق بالجيش، فقصد والده طبيبا بريطانيا هو (المايجور فيتزباتريك) الذى سبق له أن خدم بإمرته فى السودان.. وكما كان السادات يقول دائما: « يشاء القدر أن الذى أدخلنى الكلية الحربية هو واحد إنجليزى!)»

2- ناصر والسادات:

فى الكلية الحربية تعرف على جمال عبدالناصر، الذى أصبح قدوته وصديقه، كان واثقا بنفسه وبالمستقبل، كان يرقبه ويتعلم منه، يستمع إليه ويتسلل إلى طموحاته متمنيا أن يصبح جزءاً منها، وحين افترقا السادات وعبد الناصر عام 1939، ذهب السادات لمتابعة دوره فى مدرسة الإشارة فى المعادى، فيما أرسل عبد الناصر إلى السودان بناء عن طلبه.. وفى العام التالى أنشأ تنظيماً سرياً للضباط.

لم ينس سوليه أن ينتقل أيضا من حياة أنور العسكرية إلى حياته الشخصية مرورا بزيجاته، فيتناول قصة زواج السادات من السيدة إقبال ماضى التى أنجبت له رقية وراوية وكاميليا.. وفى نهاية كل حدث سياسى مهم ينعطف بنا إلى حياته مع سيدة مصر الأولى جيهان السادات، الفتاة التى سحرته شابة والتى وقفت بجانبه وصنعت لمنصب حرم الرئيس واجهة لم تستطع أى من زوجات رؤساء العرب أن تنافسها فيها، فكانت لها بصمة داخل وخارج مصر، خصوصا فى قوانين الأحوال الشخصية وتمكين المرأة.. حتى لقطة إبلاغها بوفاة الرئيس ودخولها عليه وهو جثمان مسجى لتخرج باعتزاز وتوصى مبارك على الوطن.

3- السادات والإخوان:

فى المعادى التقى بالشخص الخارج عن المألوف، الشيخ حسن البنا مؤسس تنظيم الإخوان المسلمين، أبدى السادات انبهاره بالشخصية، لأنه لم ير فيه قائدا دينيا فحسب بل رأى فيه شخصية مصرية فذة.. قابله عدة مرات وطلب منه البنا الانضمام إلى التنظيم السرى لتحرير مصر من قبضة الإنجليز، ولكن السادات رفض واكتفى أن يكون مستشارا من خارج المنظومة.

وهكذا رتب حسن البنا للسادات اللقاء بالفريق عزيز المصرى الذى أفصح له عن نيته فى تكوين تنظيم الضباط الأحرار الذى ينتوى قلب نظام الحكم فى مصر.

تناول الكاتب أيضا فترة دخول أنور السادات السجن، وإلى تلك المرحلة لا أعتقد أن الكاتب أضاف ما نستطيع أن نقول إنه مختلف عن كل الحكايات التى قرأناها والتى كتبها السادات نفسه فى مذكراته (البحث عن الذات)، ولكنه أفصح عن رأيه وانحيازه الواضح لآراء أدانت السادات، غير أننى أحيى فيه أنه طرح وجهتى النظر بحيادية.

يجب أن أشيد أيضا بأن الكاتب فى أسفل كل صفحة كتب وبكل دقة وصدق أسماء المراجع التى رجع إليها لكتابة الكتاب، حتى لو كانت جملة قيلت على لسان أحدهم فى حوار ما، كما كتب فى نهاية الكتاب أربع صفحات بها أسماء كل مرجع أو كتاب أو حتى مقال كُتب عن السادات، هنا يجب أن أشيد بمصداقية الكاتب، وهو ما جعلنى أعقد مقارنة سريعة ببعض الكتاب المصريين الكبار وربما كان آخرهم من كتبوا عن ثورة يوليو دون أن ذكر اسم مرجع واحد لما كتبوه، على الرغم من أن أحدهم كتب عن تفاصيل لا يتسنى لأحد معرفتها سوى من كان يسكن الغرفة الملاصقة لجمال عبد الناصر وزوجته تحية!.. احترام المصدر بكل أسف شىء لم يتعمله الكثيرون.

4- ما بعد الثورة:

يقول سوليه: إن السادات كان هو من تم تكليفه بعرض رئاسة الحكومة على على ماهر باشا، فإذا به يصطحب معه الكاتب إحسان عبد القدوس لأنه كان يجهل عنوان على ماهر وإحسان يعرف بيته، وبعد يومين كان هو أيضا المرافق لمحمد نجيب لتوجيه إنذار للملك فاروق للتنازل عن الحكم لمصلحة ابنه..

هنا يقول سوليه بكل صراحة: إنه بعد خمسة وعشرين عاما وبعدما استتب الحكم للسادات وأدرك أن أحدا لن يجرؤ فى هذا الوقت على مناقضة أقواله، بالغ السادات فى تصوير الدور (المتواضع إلى حد ما) الذى قام به فى خلال تلك الأيام القليلة.

فى هذا الفصل يلقى سوليه كل ما جمعه من أقوال السادات حول دوره الكبير فى الثورة الذى لم يكن بحق بمثل ضخامة الحدث، فهو يسخر من قصص رواها عن حقيبة فارغة دخل بها على على ماهر ليظهر وكأنه شخص مهم، وكتبت الصحف عن الحقيبة التى من المؤكد أنها كانت بها وثائق مهمة للغاية، وهى فى النهاية.. فارغة! ويسخر أيضا من كم الخيال (بحسب رواية الكاتب) الذى جعله يتصور أنه كان يقوم بدور بطولة أولى فى هذا الانقلاب!؟

ويختتم الكاتب هذا الفصل مصرحاً برأيه: «مرة جديدة يجد السادات الفرصة للتمثيل!».

يتطرق الكاتب لمناطق أخرى شائكة مثل انتحار عبد الحكيم عامر، والحوار الغريب الذى جاء بالمحكمة بين رئيسها حسين الشافعى ورئيس المخابرات صلاح نصر، والذى لمح فيه نصر بكل تبجح إلى أن زوجة القاضى كانت واحدة ممن تعاونوا معه! فاضُطر رئيس المحكمة إلى جعل الجلسة سرية!.

كما حكى عن تفاصيل مهاترات كثيرة بين السادات وعبد الناصر تبوح بصراع صامت بينهما استمر طويلا، كما روى قصصاً جاءت على لسان الأستاذ هيكل وهى التى كذبتها ابنة الرئيس رقية، ورأت أن فيها المزيد من الافتراءات على أبيها!.

5- رهان على ميلاد زعيم:

حدثت مقارنة بعد وفاة عبد الناصر زعيم الأمة وبين الرئيس السادات عقب توليه الحكم، ، حيث صرح مستشار الرئيس الأمريكى نيكسون للأمن القومى عن رأيه فى رئيس مصر الجديد قائلا: «إنه أحمق، ومهرج وبهلول»

وعلق نجيب محفوظ (بحسب المراجع التى ذكرها سوليه) على تولى السادات قائلا:

«لم أتصور أبدا أن يكون هو خليفة عبد الناصر، ولما حدث ذلك بالفعل اعتبرت المسألة غاية فى السخرية والسخف»

ربما أن الرجل الذى تولى رئاسة مصر عقب زعيم مثل ناصر له كاريزما ولكن مما لاشك فيه أن له أخطاء جسيمة أيضا، لم يجعل من السهل أن تكون المقارنة فى مصلحته منذ البداية، إلا أن الوضع سرعان ما تحول إلى زعيم قام بإصدار أحكام وخطوات جعلت كفة ميزانه تميل ورفعته إلى مكانة عالية أمام العالم.

يتناول الراوى مرحلة مغازلة الإسلاميين حين سمح السادات للشريعة الإسلامية أن تصبح جزءا من الدستور وهو ما وصفه الكاتب بالغلطة الفادحة، فإعجابه بالشيخ حسن البنا لم يتوقف، وهو ما حدث عكسه تماما يوم اتهم عبد الناصر الإخوان بالسعى لاغتياله عام 1954 فقمعهم بلارحمة، اعتقالا وتعسفا وتعذيبا.. وهنا أتذكر كلمة محمد مرسى الشهيرة: «الستينيات وما أدراك ما الستينيات»!.. يبدو أنها ذكرى أيام لن تسقط أبدا من ذاكرة جماعة الإخوان المتأسلمين.

يؤكد روبير سوليه على قناعاته بأن السادات مثلما كان بحاجة للاتحاد السوفيتى ليصنع الحرب، فقد أصبح فى حاجة فى وقت ما إلى أمريكا لصناعة السلام.

كان السادات يقول: «أنا مصرى قبل أن أكون عربيا»، والحقيقة المؤسفة أن مبادراته كان تثير استياء أكثر الزعماء العرب.

فى عام 1975 عرفت المخابرات الإسرائيلية أن العراقيين يخططون لاغتياله فأوصلوا له تلك الرسالة مع كيسينجر، ولم يكن ذلك الإنذار الأول فى فترة رئاسته.

6- من كان منهم بلا خطيئة!

تراجع الطابع البوليسى للدولة مع بداية حكم السادات، فأطلق سراح سجناء الرأى والسياسيين وأغلقت معسكرات المعتقلات، وانتهت قصة (زوار الفجر) التى كانت الطابع البذىء لسياسة عبدالناصر، واستعادت المحكمة الدستورية العليا ومحكمة الشورى دوريهما.

يعقد الكاتب مقارنة بين طريقة عبد الناصر فى إلقاء الخُطب التى ألهبت حماس المواطنين، وبين طريقة السادات التى كانت تتسم بالحكى وكونه أقرب إلى راوى القصص من الخطيب..

وينتهى الكتاب بالسقطة الحقيقية التى أودت بحياة الرئيس الراحل وهى استغلاله للإسلاميين لتحقيق مصالحه وتشكيل قوة ضاربة لمجابهة الاشتراكيين، لولا أن الحكاية انتهت بانقلابهم عليه واغتياله بأقسى طريقة وسط جيشه.

الفصل الأخير يروى عملية العرض العسكرى الذى انتهت باغتيال الرئيس الراحل، وكيف قد استشهدت جريدة (الواشنطن بوست) بمسئولين أمريكيين كبار لم يشاءوا الإفصاح عن هويتهم، لتكشف أن الرئيس كان يستفيد من نظام حماية استثنائى يوفره له جهاز المخابرات الأمريكى (السى آى إيه) فى أثناء رحلاته الخارجية، أبقيت تلك المساعدة فى طى الكتمان حتى لا يطالب بها رؤساء آخرون، إلا أن السادات فى النهاية قتل فى بلده ووسط جيشه، وهنا تساءل الخبراء:

«كيف عرف المتآمرون كل تلك التفاصيل الدقيقة المتعلقة بالعرض العسكرى؟ خصوصا التوقيت الدقيق بفارق لا يتجاوز الدقيقة الواحدة للاستعراض الجوى الذى كان أفراد الحضور كلهم يرفعون خلاله أنظارهم للسماء؟!».

فى مصر كما فى العالم العربى كله، تتغير الصورة مع السنين، وهكذا تغيرت الصورة بعد رحيل السادات، فقد طالته الانتقادات وطالته كل أنواع الاتهامات حتى تهمة الثراء غير المشروع التى نفتها زوجته بشدة.

الحقيقة وبلا جدال أرى أن الرئيس السادات كان رجل دولة من الطراز الأول، شجاع وحكيم وأعاد سيناء إلى أحضان مصر، وقاد وطنه إلى مسيرة سلام دامت لفترة طويلة، فكان صاحب قرار الحرب والسلام اللذان أعادا كرامة الوطن المنكسر بعد النكسة..

أخطأ؟.. ربما.. فمن كان منا أو منهم بلا خطيئة فليرمه بحجر!.

ربما أثار الكاتب نقاطاً مهمة فى عرض قصة حياة الرئيس السادات، ربما أطلق لخياله العنان ليفسر بعض الأحداث كما يراها، لكن الأكيد أنه استعان بعدد لا يستهان به من المراجع أعطته الكثير من المصداقية، ولكن من يدرى ماذا يكتبون عنه غدا؟.. تحية للكاتب المصرى الفرنسى روبير سوليه الذى قال فى حواراته عن الكتاب إن شخصية السادات بهرته وجعلته يبحث عن خباياها، وقد نجح فى جمع المعلومات والحوارات ليصنع كتابا يستحق القراءة حتى لو اختلفت معه فى بعض وجهات النظر التى طرحها.. فاختلاف الرأى من وجهة نظرى ليس إلا فرصة لإطلالة جديدة من زاوية أخرى.