تفسير الشعراوي لقوله تعالى: {وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا} الآية 124 من سورة التوبة

إسلاميات

الشيخ محمد متولي
الشيخ محمد متولي الشعراوي


تفسير سورة التوبة للشيخ محمد متولي الشعراوي

تفسير الشعراوي للآية 124 من سورة التوبة

{وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ(124)}
قوله الحق: {وَإِذَا ما أُنزِلَتْ} يعني: إذا نزلت، ونعلم أن هناك (نَزَل) و(أَنْزلَ) و(نَزَّل) ف (أنَزَل) للتعدية، فالقرآن نزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا. ثم نزّله الحق نجوماً. فالتنزيل معناه: موالاة النزول لأبعاض القرآن، فالقرآن قد أنزل كله، ثم بعد ذلك نزله الحق، ونزل به جبريل- عليه السلام- على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.

وقد جمعت الآية تنزيل الحق للقرآن من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، ثم نزول جبريل- عليه السلام- بالقرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحق سبحانه يقول: {وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ...} [الإسراء: 105].

وفي آية أخرى يقول سبحانه: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين} [الشعراء: 193].

وهنا يقول الحق: {وَإِذَا ما أُنزِلَتْ سُورَةٌ} والسورة هي الطائفة من القرآن المسورة بسور خاص؛ أوله مثلاً: {بسم الله الرحمن الرَّحِيمِ} وآخره تأتي بعده سورة أخرى تبدأ بقوله الحق: {بسم الله الرحمن الرَّحِيمِ} ومأخوذة من السور الذي يحدد المكان. وهل المقصود بقوله الحق هنا نزول سورة كاملة من القرآن أم نزول بعض من القرآن؟ إن المقصود هو نزول بعض من القرآن.

وتتابع الآية: {فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً} والمقصود بهذا المنافقون الذين رجعوا عن الإيمان. ونحن نعلم أن القرآن حق وأنه من عند الله، وله أسر وفاعلية إشراقية في صفاء النفس، وقد سمعه الكفار من قبل، وشهدوا له، أما المؤمنون فحين سمعوه فقد أسرهم.

وهذا الأمر بسبب الاستعداد لتلقيه؛ لأن المسألة في كل الأحداث ليست من الفاعل وحده، ولكن من الفاعل والقابل للفعل- ولله المثل الأعلى- أنت تأتي بمطرقة مثلاً، وتطرق قطعة حديد فترق وتزيد مساحتها، أما إن طرقت بالمطرقة قطعة صلب أقوى من المطرقة؛ فلن تؤثر فيها.

إذن: فالطرق شيء وقابلية الطرق شيء آخر، وهكذا لابد للفاعل من قابل، والمطلوب من القابل للشيء أن يستقبله بغير خصومة له نابعة من قلبه. فإذا أراد أحد أن يسمع القرآن فعليه أن يخرج ما في قلبه مما هو ضد القرآن، ويضع القرآن وضده خارج قلبه وليسمع هذا وهذا وما ينفذ إلى قلبه بعد هذا فليصدقه. لكن أن يستقبل القرآن بما في قلبه من كراهية القرآن؛ فلن يتأثر به، مثلما قابل بعض المنافقين القرآن وقالوا: لم نتأثر به.

وسبب هذا أن هناك ما يسمى بالحيز، وعدم التداخل في الحيز، فالقلب حيز لا يسع الشيء ونقيضه، فلا تملأ قلبك ببغضك للدين، ثم تقول: لقد سمعت القرآن ولم يؤثر فيَّ. هنا نقول لك: أخرج من قلبك ما يكون ضد القرآن، واجعل القرآن أيضاً خارج قلبك، ثم انظر في الاثنين لترى ما الذي يستريح له قلبك، لكن أن تكون مشحوناً ضد القرآن ثم تقول: إن القرآن لم يؤثر فيك، فهذا يعني أنك لم تنتبه إلى الفرق بين الفاعل والقابل، ولم تنتبه إلى ما يسمى بالحيز، ومدى قدرته على الاستيعاب.

فالزجاجة ذات الفوهة الضيقة لا تستقبل بداخلها الماء إن أغرقتها فيه؛ لأن ضيق الفوهة لا يساعد الهواء الذي بداخلها على الخروج، ولا يساعد الماء على الدخول؛ لأن الماء لن يدخل إلا إذا خرج الهواء؛ لذلك لابد أن تكون فوهة الزجاجة واسعة تسمح بخروج الهواء ودخول الماء، وعند ذلك سترى فقاقيع الهواء وهي تعلو الفوهة. وإذا كان الأمر كذلك في الحسيات، فما بالك في الأمور المعنوية وهي مثل الأمور الحسية.

إذن: فأخْرج ما يناقض الحق من قَلْبك، واجعل الباطل والحق خارجاً، ثم استقبل الاثنين. لا يمكن لك في مثل هذه الحالة إلا أن تستقبل الحق. ويصف سبحانه المصرين على الكفر: {وَطَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ...} [التوبة: 93].
أي: أن ما هو خارج هذه القلوب لا يدخل إليها، وما في داخلها لا يخرج منها.

إذن: ما دام الحق قد ختم على قلوبهم؛ فلن تفتح هذه القلوب للإيمان، وستظل محتفظة بالكفر. فإذا كان من هؤلاء الكافرين أو المنافقين من يسمع القرآن، ولا يأسره بيانه؛ فذلك بسبب عجزهم عن النظر إلى ما فيه من معان وقيم؛ لأن الإنسان حينما يسمع القرآن، وتكون نفسه صافية ليس فيها ما يشوش على ما في القرآن من جاذبية وبيان يؤثر فيه وتطمئن إليه نفسه.

ولذلك حين قرأ عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- القرآن، وكان من قبل ذلك شديداً على الإسلام، ثم ذهب إلى أخته؛ ليتحقق من أمر إسلامها، وحين سال منها الدم رقت عاطفته لها، ثم قرأ القرآن فاستقر في قلبه.

إذن: لابد أن تخرج ما في ذهنك أولاً؛ لتستقبل القرآن. فإذا ما أنزلت سورة يستقبلها المؤمن بصفاء. أما الكافرون والمنافقون، فمنهم من يقول: {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً} وتعطينا الآية معنى أننا أمام فريقين: واحد يقرأ، والثاني يسمع. ونفهم من سياق الآية أن الذي يتساءل مثل هذا السؤال إنما يوجه لفريقين: أحدهما من ضعاف الإيمان، أو حديثي الإسلام، أو المنافقين، وهؤلاء هم الذين لم يُخْرجوا الكفر أو بعضه من قلوبهم، وقابلية بعضهم لاستقبال الإيمان لم تتأَكد بعد، ومنهم من قال فيهم الحق: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حتى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ العلم مَاذَا قَالَ آنِفاً...} [محمد: 16].

ويقول: {والذين لاَ يُؤْمِنُونَ في آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى...} [فصلت: 44].

إذن: الفاعل شيء، والقابل شيء آخر. هم سمعوا القرآن بدليل أن الحق يقول: {وَإِذَا ما أُنزِلَتْ سُورَةٌ} وسياق الآية يوحي لنا أن هناك همساً من بعضهم: {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً} وهذا الهمس يأتي بلهجة المستهزئ، وقائل الهمس يعني أن سماعه للقرآن لم يزد شيئاً عنده، ولم ينقص، وهو يهمس لمنافق مثله، أو لضعيف الإيمان {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً} فيرد الله على القضية النفسية، ويعلمنا أنه سبحانه قد قسم الناس قسمين: قسم كافر أو منافق، وهذا القسم يزيده القرآن كفراً، أما القسم المؤمن؛ فاستقباله للقرآن يزيد من إيمانه.

إذن: الفاعل شيء والقابل مختلف. ووقف العلماء أمام هذه الآية موقفاً فيه اختلاف بينهم {وَإِذَا ما أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً} فقال بعضهم: إن الإيمان ينقص ويزيد، وقال بعضهم: إن الإيمان لا ينقص ولا يزيد، وقامت معركة بين علماء الكلام، ولا تتسرب معركة بين عقلاء إلا إذا كانت جهة الفهم في الأمر الذي يختلفون فيه منفكة، فمنهم من يذهب فكره إلى ناحية، ومنهم من يتجه فكره إلى ناحية أخرى.

فالذين قالوا: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، فلحظة أن يتألق الإيمان في القلب؛ يستقر فيه، وهو الإيمان بالله، وأن لا إله إلا الله ولا معبود سواه، وأن محمداً رسوله المبلغ عنه؛ هذا الإيمان لا يزيد ولا ينقص. والمثال: هو قول الإمام على كرم الله وجهه: لو انكشف عني الحجاب ما ازدادت يقيناً.

أما العلماء الذين قالوا بأن الإيمان يزيد ولا ينقص، فقد قصدوا بذلك تطبيق مستلزمات الإيمان من الآيات، فكل آية تحتاج ممن يصدقها أن يكون مؤمناً بالله أولاً، ثم ينفذ متطلبات الآية.

وكل المسلمين مؤمنون بالله، ولكن في جزئيات التطبيق نجد من يطبق عشرين جزئية وآخر يطبق ثلاثين، أما أصل الإيمان الذي استقبل به الإنسان التكليف وهو التوحيد، فلا يزيد أو ينقص. وهؤلاء المنافقون عندما قالوا: {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً} هل تداولوا ذلك سرّاً أم قالوه علناً؟ لابد أنهم قالوا ذلك سرّاً وفضحهم الحق سبحانه، وكان يكفي أن يعلموا أن الله يخبر رسوله صلى الله عليه وسلم بكل ما يكتمونه، ولكنهم احترفوا اللجاجة؛ لذلك قالوا: {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً}.

ويرد الحق سبحانه: {فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} و(يستبشر) أي: يملأ السرور بشرته، فترى البريق، والفرحة، والانبساط. وكلها من علامات الاستبشار، ومن يستبشر بآية من آيات الحق فهو الذي يفهم من الآية شيئاً جديداً؛ يدخل على نفسه السرور؛ ولذلك فهو يرتاج لنزول تكليفات إيمانية جديدة، ليعظم ويزداد ثوابه، وهو غير ذلك الذي يكره أن ينزل حكم جديدة من الله.

هذا هو معنى (يستبشر).

أما الآخرون فيقول الحق سبحانه عنهم: {وَأَمَّا الذين فِي قُلُوبِهِم...}.

تفسير سورة التوبة للشيخ محمد متولي الشعراوي

تفسير الشعراوي للآية 124 من سورة التوبة