منال لاشين تكتب: مع السلامة يا عم بدرى
مات الأسبوع الماضى جزء منى، انسحب جزء من روحى وعقلى، رحل البدرى فرغلى فى صمت لا يليق بالمناضل الذى عاش للغلابة داخل وخارج البرلمان.
رحل الرجل الذى وهب العشر سنوات الأخيرة من عمره ليتامى المعاشات، فأصبح لهم الآن اتحاد ولسان يعبر عنهم، ويقدم القضايا فى المحاكم باسمهم، وآخرها قضية ضم العلاوات الخمس.
ولكن بالنسبة لى مات عم بدرى فرغلى النائب المعارض الذى كان سندًا ومعلمًا لى فى أولى خطواتى كمحررة برلمانية، كنت أتمشى معه من مقر مجلس الشعب فى قصر العينى إلى مقر حزب التجمع فى شارع طلعت حرب، كان يجرى بخطوته السريعة ويتحدث بصوته العالى وأنا ألحق خطواته وكلماته عن مجلس الشعب وأسراره وإزاى اصطاد الخبر اللى هو، ومَن مِنْ نواب الحزب الوطنى ممكن يتعامل معى ويساعدنى، وكان الدكتور مصطفى السعيد يقول دائما إن البدرى فرغلى مثال للمثقف الوطنى بفطرته.
ومع مرور السنوات صارت ثقة عم بدرى بى وساما أضعه فوق صدرى طوال العمر، خصنى بعدد من أهم استجواباته وخطاباته البرلمانية لأكون أول صحفية تنشر هذه الاستجوابات وبعض مستنداتها، فى كل مكان عملت به، كان جميل عم بدرى يطوق حياتى المهنية من العربى الناصرى لـ«صوت الأمة» إلى «الفجر»، وكنت أنشر استجواباته اللاذعة الفاضحة للحكومات قبل أن تنشر فى جريدة الحزب الذى ينتمى إليه عم بدرى.
زرته أكثر من مرة فى بورسعيد فرأيت كيف لم يتغير المناضل العامل مع أهل دائرته، وكان المقهى مقرًا للقائه بالمواطنين، كان كل ما فيه كان يحمل رائحة عامل الشحن، وفشلت كل محاولات إفساده، فهو لا يحمل تطلعات لمسكن أفضل أو طعام أو ملبس.
وأذكر أنه اصطحبنى للغداء مرة فى بورسعيد، والمعتاد اجتزنا شوارع المدينة اللامعة لنصل إلى شارع صغير ومحل أصغر لآكل أجمل وأطعم أكلة سمك فى حياتى.
وكان يصحبنى معه إلى مقر التجمع وهو يعد مستندات الاستجوابات قبل يوم من عرضها فى مجلس الشعب، وهو عمل يستغرق ساعات، وبالطبع يأكل عم بدرى سندويتشات الفول والطعمية، وببساطته يعرض علىّ أن آكل شيئًا أرقى، وكان يتصور أن مطعم كنتاكى هو من الوجبات الفاخرة، فكنت أرضى بالفول والطعمية وأكواب الشاى الثقيلة.
وقد تحمل عم بدرى طعنات من الأصدقاء والرفقاء بصبر ووعى نادر الوجود، كان يخبرنى أنه اكتشف أن بعض قيادات الحزب قد حجبت عنه بعض المستندات التى يمكن أن تثرى الاستجواب، ولكنه كان قادرا بشخصيته السياسية والبرلمانية النادرة أن يتجاوز هذه المشاكل وأن يقدم استجوابا متكاملا.
وأذكر أنه تقدم باستجواب ضد وزير الثقافة الأسبق فاروق حسنى، واكتشف عم بدرى أن هناك مادة قانونية يمكن أن تنقذ الوزير فى مسألة بيع لوحاته، والمثير أن نائبا قياديا بالحزب الوطنى السابق هو من كشف هذه الحقيقة لعم بدرى، وأصابنى يأس قاتل عندما علمت بما حدث، ولكنه لم يهتز وقال لى: هتشوفى هاعمل إيه، وبالفعل كان هذا الاستجواب من أكثر الاستجوابات التى أحدثت ضجة فى الشارع وفى الحكومة.
وقد رأيت المدعى أيمن نور حينما كان نائبا وهو يبكى لأنه سيتم القبض عليه، ورأيت دهشة عم بدرى من رعب أيمن نور من السجن، وقال له بطريقته الخاصة: انشف كده، دا إحنا نمنا على البرش فى السجون، ومفيش حاجة قدرت علينا.
ومن قوة إيمانى بعم بدرى بدأت فى مده ببعض الأسرار التى أعرفها من خلال عملى الصحفى ليحولها بشجاعته وبراعته إلى طلبات إحاطة أو أسئلة، وذات مرة أحدثت بعض هذه المعلومات غضبا واسعا لدى رئيس الحكومة فى ذلك الوقت الدكتور عاطف عبيد وكلف الداخلية بالبحث عن مصدر المعلومات، وأشهد أن عم بدرى تحمل لوحده المسئولية أو بالأحرى نوبة الغضب دون أن يكشف عن اسم من أعطاه المعلومات، فقد كان شهما نبيلا لا يخاف ولا يهاب السلطة فى عز سطوتها وعنفوانها وظلمها.
وبالطبع ستبقى استجوابات البدرى فرغلى عن الخصخصة وفضائحها فصلاً تاريخيًا يكشف إهدار ثروة مصر.
وقد علمنى عم بدرى درسًا عظيما عندما ترك البرلمان دون أن يترك نضاله ومعاركه، فتبنى قضية أصحاب المعاشات، وأذكر أننى كنت أمر فى هذه المرحلة بأزمة شديدة، ولم يخرجنى منها سوى كلمات عم بدرى وحماسه لقضية أصحاب المعاشات، فالحماس معد، وقد تعلمت من خطوته أننا نستطيع أن نكون أنفسنا مهما تغيرت المواقع أو الظروف لأننا نحن من نصنع المواقع والمواقف وليس الآخرون.
ولقد ظل عم بدرى رغم المرض والشيخوخة يتابع أو بالأحرى يناضل فى المحاكم والإعلام من أجل قضية المعاشات، ولم يغب عن أى جلسة إلا للمرض الشديد أو دخول المستشفى.
والآن يغيبه الموت ولكنه لم ولن يغيب عنا، وعن 14 مليونًا من أصحاب المعاشات، عن الشباب الباحثين عن قدوة حقيقية فى عالم البرلمان والسياسة، لم ولن يغيب هذا الإنسان الحقيقى الذى ليس به ولو 1% ادعاء أو زيف.
سلاما على روحك النبيلة الطاهرة يا عم بدرى.
سلاما على نضالك النادر فى عالم احترف بيع المبادئ والمتاجرة بالحقوق.
سلاما على تاريخك المشرف المبهر بنور الحق والدفاع عن الغلابة والفقراء.
سلاما على روحك الغالية التى عرفت طريقها أخيرا للراحة.