منال لاشين تكتب: رؤساء مصر فى العيادة النفسية.. السادات والفاليوم «1»

مقالات الرأي



جيهان كانت تعطيه الجرعة بنفسها لأن الدواء «مهدئ» قبل إلقاء أى خطاب

د. طارق عكاشة: الفاليوم موضة الستينيات وإدمانه يؤثر على الذاكرة والانتباه والتركيز ولا يجب إعطاؤه لكبار السن

مركز الإدمان الأمريكى: تناول الفاليوم لمدة 4 أسابيع يجعل المريض مدمناً

أصبح فى فترة حكمه الأخيرة يميل للعزلة والاعتكاف وزلة لسانه وصلت لمستوى خطر

ذات صباح مشمس كان الرئيس السادات يدخن البايب عوضا عن السيجارة التى حذره الأطباء السوفيت من خطورتها على قلبه، فى ذلك اللقاء مع الكاتب الراحل أحمد بهاء الدين قال السادات: يا أحمد أنا باعمل الدساتير للى يجىء بعدى، وأضاف أنا وعبد الناصر آخر الفراعنة. وقد سجل الأستاذ بهاء لقاءاته بالسادات فى كتاب (محاوراتى مع السادات).

وقد استند معارضى الرئيس الراحل إلى هذه المقوله لإثبات أن السادات كان مصابا بمرض جنون العظمة، ووجدوا فى تصرفاته فى الربع ساعة الأخيرة من حكمه ما يؤكد هذا الادعاء سواء من زلة لسان خطرة أو مشروعات دينية مبهمة، وكان أصحاب هذه النظرية يستندون إلى أن السادت بعد كامب ديفيد وزيارة إسرائيل قد أصبح نجما عالميا تطارده الأضواء، وأن الشهرة والأضواء دفعته من الغرور لجنون العظمة.

ويكفى أن نعرف أن إحدى الإحصائيات العالمية أظهرت أن من شاهدوا السادات وهو يهبط لمطار بن جورون فى تل أبيب أكثر ممن شاهدوا هبوط أول إنسان على سطح القمر، وقد علق وزير الخارجية الأمريكى فى ذلك الوقت هنرى كيسنجر على هذه الإحصائية قائلا: ولكن المشكلة الآن هى كيف نهبط بالسادات إلى الأرض.

1- طبيب نفسى

فى كتابه يشير بهاء إلى التأثير الهائل للإعلام والأضواء على السادات ولكنه لا يميل إلى فكرة مرض جنون العظمة أو يذكرها.

وعلى الرغم من أهمية ما جاء بالكتاب من لقاءات بين الرئيس والكاتب. إلا أن أخطر ما جاء فى الكتاب كان يخص زوجته جيهان السادات، تحدث بهاء عن جيهان الذى امتدحها كثيرا، ونقل عنها قولها (والله العظيم كل ما يكون السادات رايح يخطب أودعه لباب البيت وفى يدى قرص فاليوم وكوب ماء واستحلفه أن يلتزم الاعتدال).

ولعل هذا هو الاعتراف الوحيد من زوجة الرئيس الراحل على تناول السادات لدواء الفاليوم بانتظام.

وبالطبع لا يمكن تصور أن جيهان تصرفت من تلقاء نفسها وأعطت لزوجها رئيس الجمهورية مهدئاً من مضادات القلق لوحدها ودون استشارة طيبب نفسى أو أكثر، فنحن أمام رئيس جمهورية وليس مواطناً عادياً، كما أن الرئيس الراحل كان مشهوراً باهتمامه بصحته وقد كان لا يأكل إلا أرنباً مسلوقاً ومكرونة من نوع خاص من الدقيق، وكانت هذه النوعية غير متوفرة فى مصر فى ذلك الوقت، ولذلك كان يتم استيرادها من الخارج، وكان الرئيس الراحل يلعب الرياضة خاصة رياضة المشى، ولذلك ليس من المنطقى أو المتصور أن زوجة الرئيس أقدمت لوحدها ودون استشارة أطباء على إعطاء زوجها الفاليوم لتهدئة أعصابه فى الخطابات التى يلقيها، ولذلك نستطيع أن نقول بقدر من الاطمئنان المهنى أن الرئيس السادات قد زاره وتابعه طبيب نفسى واحد على الأقل خلال السنوات الأخيرة من حكمه.

2- موضة الستينيات

بحثت عن الفاليوم فى أكثر من مرجع علمى.سألت الأستاذ الدكتور طارق عكاشة عن الفاليوم دون أن أتطرق للشخصية التى كانت تتعاطاه، فى البداية ضحك الدكتور طارق وقال لى: كده المسألة عامة قوى، ولكنه أوضح لى أن الفاليوم كان موضة علاجية فى الستينيات والسبعينيات وأنه يستخدم حتى الآن فى بعض الحالات فى العناية المركزة، وقد ظهرت فى الثمانينيات بدائل أخرى للفاليوم أقل فى الأعراض الجانبية وأكثر فاعلية، وبحسب الدكتور طارق عكاشة فإن الفاليوم من مجموعة مضادات القلق، ولا يفضل إعطاؤه لكبار السن، وأن تناول الفاليوم لمدة طويلة وزيادة جرعاته يؤدى إلى إدمانه، وعن مخاطر إدمان الفاليوم قال الدكتور عكاشة إن الإدمان يؤثر على التركيز ودرجة الانتباه ويؤثر على الذاكرة، ويضيف الدكتور عكاشة: أن التوقف المفاجئ عن تناول الفاليوم يمكن أن يسبب نوبات صرعية، ويوصف الفاليوم لعلاج لأمراض نفسية وليست عصبية.

أما موقع الطب النفسى الأمريكى فيقول عن الفاليوم إنه أسرع فى الوقوع فى إدمانه حتى لو تحت إشراف الطبيب، خاصة إذا استمر تناوله من 4 إلى 6 أسابيع ويشير الموقع إلى أن من أعراض الإدمان العزلة والانسحاب وتجاهل الالتزامات.

3- جنون العظمة

ولذلك يمكن اعتبار وصف السادات بجنون العظمة وصفاً مجازياً أو استخداماً لتعبيرات علمية فى معركة سياسية. وأذكر أننى سألت الدكتور أحمد عكاشة مرة عن الادعاء بأن الرئيس السادات مصاب بجنون العظمة، فقال إنه لا يستطيع لا هو ولا أى طبيب نفسى يحترم مهنته أن يقول عن أى إنسان إنه مريض بجنون العظمة دون جلسات مع المريض، وأن ذلك الأمر ينطبق على الجميع بمن فيهم الرئيس الراحل السادات، وتأكيدا لكلام الدكتور أحمد عكاشة، فإن الفاليوم الذى كان يتناوله السادات ليس علاجا لجنون العظمة، بل إنه كما عرفنا فى السطور الماضية من مجموعة علاج القلق والاكتئاب، والمثير أن الدكتور طارق عكاشة أكد أن تناول الفاليوم كمهدئ هو علاج خاطئ لأن الفاليوم لا يعطى نتائج فعالة كمهدئ، والآن فإن مصر دول العالم أدخلت الفاليوم فى الجدول رقم (1)، وهو ما يعنى حظر تداوله دون روشتة لتأثيره المخدر.

4- انفلات وعنف

وفى حين أنه لا يمكن رمى السادات بمرض جنون العظمة، فإن أعراض إدمان الفاليوم كانت أوضح على تصرفات وسلوك الرئيس الراحل، وقد دخل الرئيس الراحل حلقة جهنمية، فبينما كان الفاليوم وسيلة لتهدئة أعصابه المنفلتة دوما فى سنوات حكمه الأخيرة، فإن إدمان الفاليوم قد أدى عدم التركيز والميل لعزله وانخفاض درجة التنبه إلى زلات لسان خطرة. إحدى هذه الزلات عندما قال فى خطاب فى 5 سبتمبر عام وفاته: (أنا لا يبدل القول لدى وما أنا بظلام للعبيد)، وقد كانت هذه الزلة أو بالأحرى السقطة أحد الأسباب التى أدت إلى قتله. حيث قدم دفاع قتله السادات الأدلة الشرعية على قتله، وكان من بينها أنه أشرك بالله حيث استخدم هذه الجملة لأنه تصور نفسه إلهاً.

بصرف النظر عن رأى قتلة السادات فإن هذه الجملة أثارت استياء مواطنين كثيرين لأن السادات استخدم آية قرآنية.

وكان السادات فى أواخر عهده عنيفاً جدا مع خصومه، وقد انفعل بشدة وأهان رئيس تحرير الأهرام فى ذلك الوقت على حمدى الجمال، وقد توفى الجمال بعد خروجه من عند السادات، وأصيب السادات بحزن واكتئاب لأنه حمل نفسه المسئولية عن موت الجمال بسبب إهاناته.

وكان السادات فى خطاباته شديد العنف مع العرب يصفهم بالأقزام، ودعا طلاب الجامعات لمناقشته مرة، فلم يتحمل أحدهم وقال له: اتأدب يا ولد أنت بتكلم رئيس الجمهورية أو حينما قال عن أحد شيوخ الأزهر (أهو مرمى زى الكلب فى السجن)، وهكذا فإن عنف السادات اللفظى كان الدافع الأول لتناوله الفاليوم.

5- اكتئاب أو هلاوس

وكان من الإجراءات أو التصرفات التى دفعت البعض لادعاء بأن السادات أصيب بالهلاوس الدينية حكاية مجمع الأديان الذى أعلن عن إنشائه فى سيناء المحررة، وتحديدا فى منطقة سانت كاترين. وقد أمر السادات ببناء استراحة له فى سانت كاترين وكان يعتكف فيها فى العشرة أيام الآواخر من رمضان، وتكرر تعبير الاعتكاف عند السادات فى مواضع أخرى، فكان السادات يعتكف إذا أراد أن يتخذ قراراً هاما، وكأن الحل سيأتيه من السماء وليس من خلال التقارير والواقع، وقد تزايد الهمس لدى معارضيه وحتى لدى مصريين غير مهتمين بالسياسة بدخول السادات فى مرحلة دروشة دينية، وأنه يريد أن يجمع الأديان الثلاثة فى سانت كاترين بسيناء.

وقد راجعت أكثر من طبيب نفسى فى هذه الحالة، وكانت الإجابة أن الهلاوس الناتجة عن تناول الفاليوم هى هلاوس مرتبطة بالحواس الخمس وليست هلاوس عقلية.

وربما تفيدنا السياسة الآن بأكثر مما ينير الطب النفسى لنا الطريق فى هذا الملف الشائك، فمجمع الأديان هو نتيجة تفكير محبط لرجل أصابه الاكتئاب وليس هلاوس أو جنون عظمة.بحسب الأستاذ بهاء وقد كان مقربا لفترة من السادات، فإن الرئيس الراحل لم يكن يفكر فى صلح منفرد أو الاكتفاء بالحصول على سيناء فقط، ولكنه كان يصدق أن أمريكا ستضغط على إسرائيل لحل أزمة فلسطين والجولان، وقد كرر ذلك أمام بهاء فى أكثر من لقاء، وقال لبهاء مرة: (عندما أحصل على الأراضى الفلسطينية والجولان سأضرب كل الملوك والرؤساء العرب بالجزمة القديمة)، ولاشك أنه أصيب بأزمة اكتئاب حادة بعد تعنت إسرائيل فى الملف العربى، وأنه اكتشف أنه غرر به، ومن هنا جاءت فكرة مجمع الأديان لأن سيناء مثل القدس ذكرت فى الكتب السماوية الثلاثة، ولذلك كان يريد أن يخلق قدساً بديله فى مصر، وذلك بعدما فقد الأمل فى الحصول على القدس من إسرائيل، ويعزز فكرة اكتئابه ما كشفت عنه الوثائق البريطانية، فقد كشفت بى بى سى عن وثيقة للسفير البريطانى بالقاهرة فى ذلك الوقت أن السادت كان ينوى الاستقالة واعتزال السياسة بعد تسلم سيناء وقبل اغتياله بعدة أشهر، فالسادات فى آخر أيامه كان يتصرف بعنف وغرابة ليس من باب جنون العظمة كما تصور البعض، بل بتأثير الاكتئاب من ناحية، وتأثير الفاليوم على التركيز ودرجة الانتباه من ناحية أخرى، فصار يزن الأمور بغير ميزان الواقع المؤلم الذى لم يكن يتخيله، لقد كان السادات رحمه الله يريد أن يكون بطل الحرب والسلام على مستوى العرب وليس مصر فقط. كان يحلم باليوم الذى يسترد الأرض العربية المحتلة بالسلام، فيحقق ما فشل فيه سلفه الزعيم جمال عبد الناصر، ويصبح الزعيم الأوحد للوطن العربى.

الأسبوع القادم: عبدالناصر والمهدئات