د. رشا سمير تكتب: حدائق عشتار تُروى من نيل القاهرة فى «مائة ليلة وليلة»

مقالات الرأي




من المستحيل أن تسكنها دون أن تسكنك.. من الصعب أن تسير فى شوارعها دون أن تتحول إلى رسام أو شاعر ترسم ملامحها وتسطر الكلمات فى مفاتنها..

من الكبائر أن تغض بصرك عن تلك الحكايات والأساطير التى نسجها الملوك والأدباء والحكاءون فوق جدران معابدها وصفحات تاريخها الطويل..

كم أغوت أقلاماً ليكتبوا عنها وكم سحرت مستشرقين ليرتحلوا إليها.. وكم همست فى أذن العشاق ليشاركوها رقصة الفالس على ضفاف نيلها..كم وكم وكم..

إنها القاهرة..مدينة الألف ليلة وليلة.. عاصمة السحر والجمال..

وهو... هو واحد من عُشاقها.. رجل من قبائل الرجال الذين عانقوا الهوى بين أحضانها..

هو.. الروائى العراقى عائد خصباك، ولد فى بابل بالعراق، غادر الوطن عام 1995 وهو الآن يعيش بألمانيا..حصل على الدكتوراه فى النقد الأدبى الحديث، وعمل فى الصحافة الأدبية والتدريس الجامعى، صدرت له خمس مجموعات قصصية هي: (الموقعة، الكوميديا العدوانية، صباح الملائكة، الطائر والنهر، الغروب الأخير)..بالإضافة إلى أربع روايات هى: «الصغار والكبار، سوق هرج، المقهى الإسبانى، ويا دنيا يا غرامى» وآخر إصداراته هو الكتاب الذى نحن بصدد عرضه اليوم (مائة ليلة وليلة)..

1- لقاء فى القاهرة:

إلتقيته لأول مرة فى مؤتمر الرواية العربية بالقاهرة، مبدع بسيط بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ، لم يتملكه غرور القلم أو تسكنه شياطين الشُهرة فآثر أن يبقى إنساناً بسيطاً ومبتسماً، حملت له سلاماً من والدتى التى تعشق قلمه وكانت أول من عرفنى بإبداعاته..

تحاورنا وتبادلنا الروايات، وأخبرنى أنه بصدد نشر سيرته الذاتية فى كتاب يحكى عن ذكرياته فى القاهرة والأصدقاء الذين صنعوا تلك الذكريات، كان متحمسا بشدة لنشر الكتاب..

وبالفعل تقابلنا من جديد فى حفل توقيع سيرته الذاتية فى معرض كتاب القاهرة 2019..سعادته بميلاد هذا الكتاب بدت لى وكأنها سعادة من وجد بئر ماء بعد طول ترحال فى الصحراء..

الكتاب يقع فى 233 صفحة من القطع المتوسط وهو من إصدار بيت الياسمين للنشر والتوزيع المملوكة للشاب المحترم زياد إبراهيم عبد المجيد..عنوانها الفرعى جذبنى وهو (أيام العراقى فى قاهرة نجيب محفوظ)..

بين صفحات الكتاب يروى الكاتب كيف أمضى عاماً ونصف العام فى القاهرة فى أوائل السبعينيات، انشغل فيها بمفردات الحياة الثقافية، وانتقل من مقاعد جامعة القاهرة إلى مقاهى وسط البلد ليلتقى بالكتاب والمثقفين والفنانين.

2- عز الدين نجيب والمسافر خانة:

عز الدين نجيب هو كاتب وفنان تشكيلى، له مرسم فى قصر (المسافر خانة) وهو أحد القصور التى بُنيت فى القرن الثامن عشر على الطراز الإسلامى فى منطقة قصر الشوق فى الجمالية..

على جدران قاعات (المسافر خانة) بطوابقه الثلاثة رأى خصباك بدائع الخط، فأيقن أن القصر مرجعا فنيا للفن المعمارى العربى الإسلامى فى مصر، يروى كيف التقى هناك بفنانة شابة تأتى كل يوم من وادى حوف بالقرب من حلون سيرا على الأقدام لتنتهل الفن من بين أروقة هذا المكان الخلاب.

3- عم فلفل وقهوة ريش:

من منا لا يعرف عم فلفل؟ من منا لم يأتنس إلى حديثه؟ ومن منا لم يحفظ مذاق قهوته..فهو يعرف المكان عن ظهر قلب وكذلك زبائنه..

ذلك الرجل الأسمر الذى كان ومازال جزءاً من تاريخ هذا المقهى الثقافى..

يروى عائد خاصباك عن هذا اليوم الذى قابل فيه عم فلفل، وكان يومها بصحبة عمالقة الأدب، أمل دنقل وسعيد كفراوى وإبراهيم منصور..ثم وصل نجيب محفوظ ليجد إبراهيم منصور قد اشترى نسخة من رواية ثرثرة فوق النيل، وضعها على الطاولة وطلب منهم جميعا التوقيع عليها، تهافت الجالسون على التوقيع، فالذكرى تصنع التاريخ..

أخيرا طلب إبراهيم منصور من عم فلفل التوقيع، لكنه لم يكن يعرف التوقيع، كان يبصم فقط!..

هذا الكتاب كان هدية كل هؤلاء الأدباء إلى عم الأدب العربى نجيب محفوظ وعلى الرغم من أن عم فلفل كان يرقب المشهد من بعيد إلا أنه كان شاهدا على هذا الحدث.

4- الرئيس وثرثرة فوق النيل:

فى مجلسه المعتاد بقهوة ريش فى السادسة مساءً، سأل أحدهم الأستاذ نجيب محفوظ:

«سمعنا أن المشير عبد الحكيم عامر رأى فى أحد شخصيات الرواية شخصيته وكأنها مجسدة فى أحد الأبطال فرفع سماعة التليفون وطلب من الرئيس جمال عبد الناصر أن يحبسك!».

أكمل الرجل: «ولكن رد الرئيس: إحنا عندنا كام نجيب محفوظ يا عامر».

ربما تلك السطور تبدو خاطفة ولكنها تدل على شكل المجتع المصرى وعلاقات الأدباء آنذاك.

اختطف الروائى عائد خصباك تلك الحكايات الثرية وغيرها أو دعونى أقول اللقطات لأنها حكايات قصيرة جدا من مشاهداته اليومية والتى تمنيت أن تكون فى شكل فصول أطول حتى لا ينفصل القارئ عن تسلسل القصة.

5- غالى شكرى:

غالى شكرى المؤرخ والباحث المصرى الشهير كان صديقا لخصباك، كان يلتقيه بشكل دائم وكلما سنحت الظروف، وفى يوم قابله وهو يكتب مقالا عن كتاب لجمال الغيطانى هو (مذكرات شاب عاش ألف عام).. رأى الكاتب أن غالى يشيد بالكتاب، فقال له:

« أنا مع أى كاتب يستعير أحداثاً مر عليها زمن من وقوعها وسجلتها كتب التاريخ ليتكلم عن حاضر تجرى فيه أحداث مشابهة..أنا معه لو تكلم عنها، لكنى لست مع كاتب يستعير من لغة كاتب التاريخ ذاك أسلوبه فى الكتابة، وقد استعار الغيطانى أسلوب المؤرخ ابن إلياس فى كتابه الشهير (بدائع الزهور فى وقائع الدهور).

ثم حدث أن قابل الغيطانى بعدها ودار بينهما حوار وقتما كان الغيطانى مراسلا حربيا، حاول الكاتب فى هذا النقاش أن يصل إلى الطريقة التى يكتب بها الغيطانى دون خوف ولا تحرج من سؤاله.. هنا يروى لنا عن لقاء آخر بكاتب كبير.

6- الشيخ إمام ونجم:

يقص الروائى عن زيارة خاصة جدا لحارة (حوش قدم) فى الغورية فى قلب القاهرة المملوكية..دخل إلى غرفة نورها ضعيف حيث كان يسكن الشيخ إمام بكل عظمته..

فى هذا المكان اجتمع الشيخ إمام بأحمد فؤاد نجم، ليبدأ منذ ذلك التاريخ فى إبداع تراث غنائى غير مسبوق، ربما لم يسبقه فى بساطته سوى سيد درويش..

لقطة من داخل غرفة عاش فيها الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم بداخل الحارة التى احتضنت العمالقة، مثل زكريا أحمد وسيد مكاوى..

الحقيقة أنهما شكلا معا بكلمات الشاعر الثائر ونغمات الشيخ الضرير الذى ربما فقد البصر لكنه امتلك البصيرة والموهبة، شكلا معا حالة ثورية ومقاومة شعبية لم تتكرر فى تاريخ مصر.

7- أمل دنقل وشرفة الغرفة 8:

يبدو أن ذكريات الكاتب مع الشاعر الراحل أمل دنقل كثيرة..

يروى لنا كيف كان أمل دنقل عدوانيا مع الآخرين كوسيلة من وسائل الدفاع عن النفس..

كان أمل الشاب الآتى من الصعيد يستقبل المطر الذى لا يراه فى الصعيد بعكس كل الناس متهللا وفاتحا صدره، لا يختبئ تحت المظلة حتى لا يفقد متعة ارتطام المطر بجسده.

أمل دنقل كان واحدا من ثلاثة صعايدة تركوا قُراهم وجاءوا زاحفين إلى القاهرة باحثين عن موطئ قدم فى زحمة عالم الأدب..الثلاثة هم الطاهر عبد الله وأمل دنقل وعبد الرحمن الأبنودى.

أصيب أمل دنقل بالسرطان وعاش أيامه الأخيرة يصارع المرض وحيدا بصبر غريب، مصرا على أن يحيا حتى آخر لحظات حياته مودعا الحياة من شرفة الغرفة رقم 8 وقد كتب آخر ديوان للشعر له منها.

8- إنهم يقتلون الكُتاب:

يعود الكاتب بالذاكرة إلى موقف لن ينساه، يوم ذكر أمل دنقل سعيد كفراوى باليوم الذى وصل فيه يوسف إدريس إلى قهوة ريش منفعلا وثائرا، وكان يوم اغتيال غسان كنفانى فى بيروت من قبل موساد إسرائيل يوم 9 يوليو 1972، يومها طلب من كفراوى أن يأتى بقماش أبيض لعمل لافتات كبيرة لإدانة ما فعله المعتدى الصهيونى..

بدأت اللافتات بإسماعيل فياض الذى كتب لافتتين:

«إنهم يقتلون الكُتاب.. أليس كذلك؟!» وعلى الثانية: «الموت لأمريكا وإسرائيل»

يومها خرجت من ريش أول مظاهرة هزت الشارع المصرى بعد ثورة يوليو..بمشاركة كبار الكتاب والصحفى الإنجليزى ديزمونت ستيوارت والصحفية الإنجليزية إيرينى.

9- فى النهاية قال يحيى الطاهر:

«لن يتغير شىء للأفضل، نحن الآن بانتظار اغتيال غسان كنفانى جديد».

إلى هنا انتهى من استعراض تلك المقتطفات من السيرة الذاتية، أو ومضات من تلك الأيام عاشها الكاتب العراقى عائد خصباك فى قاهرة نجيب محفوظ كما أسماها..

وكأنها لقطات خاطفة من شريط سينمائى مر بمخيلة الكاتب فامتطينا خلفه صهوة ذكرياته، لنعايش لقطات سريعة وحية من تاريخ القاهرة الثقافية..

حوارات ربما عرفنا بعض خلفياتها ولقطات ربما لم نعرفها سوى من الكاتب، والتى فى كلتا الحالتين تعبر وبوضوح عن عشق الكاتب لمصر ولأصدقائه من المبدعين المصريين..

إنها سيرة ذاتية مختلفة وخفيفة تستحق القراءة.