عادل حمودة يكتب: خفض سعر الفائدة ينعش الاستثمار ولكن كيف ننقذ المودعين من انخفاض دخلهم؟

مقالات الرأي



البورصة تعرضت لحالات من التلاعب الداخلى الفاجر فى سنوات حكم مبارك وكانت النتيجة الحاسمة فقدان الثقة فى الأسهم

المدخر الصغير يقبل المغامرة بأمواله وتنتعش ظاهرة «المستريح» كلما انخفضت فائدة البنوك

البنوك سحبت غالبية أموال دفتر توفير البريد بأوعية منافسة منذ التسيعينيات

يعجز المدخر الصغير عن توظيف أمواله المحدودة فى وسيلة ما تعود إليه بأفضل مبلغ ممكن يسدد به فواتير السكن والطعام والدواء أو على الأقل يخفف منها.

فى خمسينيات وستينيات القرن الماضى كان العقار وسيلة مغرية للمستثمر الصغير ولو كان بيتا محدود الطوابق ولكن مع قوانين تخفيض الإيجارات التى صدرت فى سنوات حكم جمال عبد الناصر كسب الساكن وخسر المالك.

كان البيت الذى نسكنه فى العباسية مكونا من ثلاثة أدوار فى كل دور ثلاث شقق تجنى مالكته منه إيجارا يصل إلى 100 جنيه شهريا يكفى بأسعار تلك الأيام لتأكل وتشرب وتعلم ابنها الوحيد وتشترى له سيارة ويضعها فى مستوى اجتماعى متميز.

ولكن سرعان ما أجبرت على تخفيض الإيجار أكثر من مرة حتى أصبح 30 جنيها ومع زيادة تكاليف المعيشة ــ سنة بعد سنة ــ أهملت صيانة البيت وتخلصت من البواب وأظلمت السلم والطرقات وباعت سيارة ابنها ولم تعد قادرة على الذهاب إلى الطبيب أو شراء ما تحتاجه من أدوية يومية ــ بحكم السن ــ لا يمكن الاستغناء عنها.

الأهم أن حالة الحاجة أمينة تكررت كثيرا حتى أصبحت ظاهرة سلبية أدت إلى خروج العقار من حسابات المستثمر الصغير فلم يعد وسيلة مناسبة لتوظيف ما يملك من مال محدود مما فجر أزمة السكن التى عشناها جميعا سنوات طوال.

إن إيجار الشقة حسب القوانين القديمة لا يزيد أحيانا ــ فى أحياء راقية ــ عن خمسة جنيهات بقوة شرائية ضعيفة ربما لم تعد تكفى لوجبة إفطار من الفول والطعمية.

وما يثير الدهشة أن المستأجر لا يقبل من تلقاء نفسه بمضاعفة الإيجار وهو يعلم جيدا أن البديل شقة ــ إيجار جديد ــ يدفع فيها ألف ضعف على الأقل.

وقبل تأميم المصانع والمتاجر كانت هناك فرصة مغرية للمدخر الصغير بشراء أسهم الشركات الكبرى مثل كيما والحديد والصلب وبنك مصر ــ ولو لم يكن يملك سوى جنيهات قليلة وكان ذلك ثقافة سائدة فى الطبقة الوسطى قبل الطبقة العليا.

كانت تلك الشركات تصرف كوبونات أرباح الأسهم كل سنة أو كل ستة أشهر حسب شروط الإصدار وكان العائد السنوى يتراوح ما بين 8 ــ 12 فى المائة.. أعلى من فائدة المدخرات فى البنوك.

لكن بسيطرة الحكومة على الشركات ــ بقوانين التأميم ــ تضخمت العمالة الزائدة فى تلك الشركات وفسدت إداراتها وتراكمت الديون عليها حتى تخلفت عن التطور وأصبحت عبئا على الدولة.

وبالطبع حقتت تلك الشركات خسائر متتالية فلم تعد تصرف كوبونات الأرباح ومن ثم بارت أسهمها ولم تعد لها قيمة تذكر.

وفقد المستثمر الصغير الثقة فى الأسهم ولم تعد وسيلة آمنة ليضع فيها مدخراته وسرعان ما اختفت تلك الوسيلة من الحياة الاقتصادية بعد أن أغلقت البورصة أبوابها بالضبة والمفتاح.

وعندما فتحت البورصة أبوابها من جديد ونمت فى سنوات حكم مبارك تعرضت لحالات من التلاعب الداخلى الفاجر حقق الكبار من ورائه أرباحا خرافية كانت على حساب خسائر ملايين من المدخرين الصغار الذين لم يحتمل بعضهم ما جرى له فتخلص من حياته منتحرا.

والنتيجة الحاسمة لتلك المأساة فقدان المدخر الصغير الثقة فى الأسهم من قبل ومن بعد.

وكان البديل الثالث: البوستة أو دفتر توفير البريد الذى كان أهم وعاء ادخارى من الخمسينيات حتى التسعينيات لتدخل البنوك بأوعية منافسة سحبت غالبية الأموال منها.

بدأ مشوار البنوك بشهادات البنك الأهلى بأنواعها الثلاث ومنها شهادة بجنيه تشبه اليانصيب تدخل سحبا شهريا يحصل الفائز فيه على خمسة آلاف جنيه وكانت عمتى فهيمة التى تعيش فى مدينة أسيوط إحدى الفائزات بها ونشرت الصحف صورتها.

فى ذلك الوقت كانت سلطات النقد تتحكم فى سعر الصرف ودون مبرر واقعى قدرت سعر الدولار بنحو أربعين قرشا فى الوقت الذى كان سعره فى السوق السوداء يزيد على الجنيه وبذكاء الطبقة الوسطى المتعلمة حولت مدخراتها إلى دولارات وتاجرت فيها ولكن ذلك عرضها لخطر السجن فقد كان ذلك جريمة يعاقب عليها القانون بالحبس والمصادرة.

وعندما سادت النزعات الأصولية فى المجتمع استغل الفرصة شخصيات مثل أحمد الريان وأشرف السعد وعبد اللطيف الشريف وكونوا ما عرف بشركات توظيف الأموال التى استعانت بكبار رجال الدين ليفتوا بتحريم فائدة البنوك لجذب المدخرات إليها.

والحقيقة أن الدين كان مجرد غطاء لطمع المدخر الصغير فى الحصول على عائد يصل أحيانا إلى ضعف فائدة البنوك.

ولم يكن من الممكن استمرار الخديعة وقامت القيامة على تلك الشركات حتى انكشفت وانهارت وفقد المودعون غالبية مدخراتهم وعادوا من جديد إلى البنوك طبقا لقاعدة عصفور فى البنك أفضل من عشرة فى شركات توظيف الأموال.

ولكن ظاهرة شركات توظيف الأموال لم تختف باختفاء مطلقى اللحى وحاملى السبح بل عادت تحت شفرة جديدة عرفت باسم المستريح.

كان الأول فى الطابور أحمد مصطفى الذى اشتهر باسم أحمد مستريح وقبض عليه متهما بالنصب على مواطنين فى الصعيد والاستيلاء على 30 مليون جنيه منهم.

وجاء الثانى أيمن مأمون من دمياط وهو نجار حصل على أموال مواطنين بدعوى تشغيلها مقابل فائدة تزيد على فائدة البنوك وعندما قبض عليه اكتشفت نيابة الشئون المالية أنه مطلوب فى 31 حكما بالتبديد والنصب.

وظهر ثالث فى كفر الشيخ ورابع فى المنوفية وخامس فى القاهرة وسادس فى سوهاج وسابع فى الدقهلية.

وبعد أن كانت المبالغ بالملايين أصبحت بالمليارات.

بل إنه فيما قبل احترف اللعبة ذاتها ابن وزير سابق فى إحدى حكومات مبارك.

والمؤكد أن ظاهرة المستريح تنكمش وتتراجع كلما ارتفعت فائدة البنوك على الودائع وتتزايد وتنتشر كلما انخفضت تلك الفائدة فالمدخر الصغير يقبل المغامرة بأمواله ليحقق عائدا أكبر ولو انتهى به الأمر باكيا شاكيا.

وتحديد سعر الفائدة قرار تتخذه لجنة السياسة النقدية فى البنك المركزى.. ترفعه لخفض معدل التضخم لتغرى المدخرين بوضع أموالهم فى البنوك لتخفف الطلب على السلع فيقل ثمنها.. أو تخفضه لتحفز المستثمرين على الاقتراض ليتوسعوا فى أعمالهم ويقومون بتشغيل أعداد إضافية من العمالة لتقل البطالة.

فى نوفمبر 2016 حررت مصر سعر الصرف وعومت الجنيه ورفعت سعر الفائدة 3% مرة واحدة ليصل سعر الفائدة إلى أكثر من 15% وفى مارس التالى ارتفع السعر 2% ليزيد على 17% وفى يوليو التالى اقترب سعر الفائدة من عشرين فى المائة لامتصاص التضخم الذى وصل الى نحو 30 فى المائة لتخفيف الآثار الجانبية لارتفاع أسعار الوقود والكهرباء.

وفى تلك الفترة كان المدخر الصغير فى أسعد حالاته مع البنوك ولم يكن فى حاجة إلى البحث عن مستريح يغامر بأمواله معه.

وبتراجع معدل التضخم بدأ البنك المركزى فى تخفيض سعر الفائدة بواحد فى المائة مارس 2018 وتوالت التخفيضات فيما بعد بنسب صغيرة.

وفى عام الكورونا 2020 وحده عقدت لجنة السياسة النقدية عشرة اجتماعات خفضت خلاها سعر الفائدة بنسب متتالية حتى وصلت إلى نحو عشرة فى المائة ومؤخرا انخفضت النسبة أيضا.

ولا شك أن سعر الفائدة المنخفض يفيد الاقتصاد القومى أكثر بل إن هناك دولاً كثيرة مثل اليابان تأخذ من الودائع رسوما ولا تعطيها فائدة.

ولكن المشكلة أن المدخر الصغير تأثر بشدة من انخفاض سعر الفائدة حيث تراجع دخله أكثر من مرة حتى وصل إلى أقل من نصف ما كان يحصل عليه قبل سنوات قليلة.

وهناك بالقطع أعداد هائلة تعتمد فى معيشتها على عائد مدخراتها فى البنوك ومن ثم فإنها تأثرت بشدة مما حدث.

صعب أن ينخفض دخل شخص ما يعتمد على فوائد البنوك إلى النصف.

وصعب فى الوقت نفسه أن تظل فوائد البنوك مرتفعة ويفقد رأس المال رغبته فى الاستثمار.

نحن بالفعل أمام معادلة صعبة حلها يكمن فى البحث عن وسائل مبتكرة يستثمر فيها المدخر الصغير أمواله المحدودة.

ورغم أننى تخصصت فى دراسة الاقتصاد فإننى لا أتسرع باقتراح هذه الوسائل فالسلطات المالية فى الحكومة أدرى بما تراه.

لكنى أعتقد أن أحد الحلول ــ ولو كانت طويلة الأجل ــ إعادة الثقة فى الأسهم من خلال طرح المزيد من الشركات الجديدة الرابحة فى البورصة وتشديد الرقابة المالية على تعاملاتها والقيام بحملة توعية تبرز أهميتها وتغرى بجدواها وربما كان على الحكومة ضمانها بشركة تأمين على الأسهم.

ولو كانت شركات توظيف الأموال ــ بعيدا عن النصب والوهم ــ قادرة على تحقيق أرباح تزيد عن فائدة البنوك بما يغرى المدخر الصغير بالرهان عليها فلم لا ننظم العمل بها؟ ولم لاتخضع للرقابة المالية؟ ولم لا يكون عملها فى العلن وتحت عين الحكومة؟.

إن كثيراً من تلك الشركات كانت وراء استثمارات كبيرة فى دولة مثل الولايات المتحدة.

والمؤكد أن العقليات الاقتصادية فى الهيئات والجامعات المصرية لديها أفكار أفضل ونحن ننتظر ما تجود به من وسائل مبتكرة تنعش الاقتصاد القومى وتعيد البسمة إلى المدخر الصغير.