منال لاشين تكتب: قبل الشمول المالى عالم شهادات.. شهادات
كانت هدية عظيمة فى كل بيت مصرى، وعندما نجحت فى الشهادة الابتدائية، كانت معظم هدايا عائلتى مظروف أبيض مغلق، وفضولى يقتلنى لمعرفة لون الشهادة داخل الظرف.أم جنيه أو أم عشرة، وكام سنة. لأن شهادات الاستثمار التى يصدرها البنك الأهلى كانت أنواعًا مختلفة، وكل لون يعبر عن ثمن الشهادة وعمرها.
قبل الشمول المالى والصداع المستمر عن أهمية تعامل المصريين مع البنوك فكر الزعيم جمال عبد الناصر وخبراؤه فى طريقة لجذب المواطن العادى إلى الإدخار ، فكروا فى دفع الناس العادية لادخار الجنيه والعشرة جنيهات لمدة عام أو عشرة، فكانت شهادات الاستثمار التى يصدرها البنك الأهلى نيابة عن وزارة المالية أو الخزانة فى ذلك الوقت عام 1965، وقد اختير البنك الأهلى لإصدار الشهادات لأن اسمه يحظى بثقة المصريين.
وكانت شهادات الاستثمار «أ وب وج» موضة زمانها سواء فى ميلاد الأطفال والنجاح أو الشفاء من المرض أو الزواج أو الترقية، وحدث متغير اجتماعى مهم لم ينتبه له الاقتصاديون.فقد تخلى المصريون عن شراء الحلويات والفاكهة ونظرية (هدايا الزيارة) و(عيب تدخل البيت بأيديك فاضية)، لأن المصريين من قوة إيمانهم بالشهادات والإدخار تخلوا عن الهدايا و تحولوا إلى الشهادات التى تنفع فى اليوم الأسود.
ونجحت الشهادات فى تحقيق هدفها نجاحًا خرافيا، فلا يكاد يخلو بيت فى مصر من عدة شهادات فئة الجنيه احتفظ بها أصحابها للذكرى.
وعلى الرغم من احتفاظى ببعض الشهادات المهداة لى، إلا أننى حزنت لأننى فى فترات (زنقة) قد بعت أو بالأحرى تخليت عن شهادات استثمار أخرى.
كنا نشعر بالزهو والفخر لامتلاكنا بعض شهادات بأموال قليلة، والواحد منا كان يتصرف كأنه أصبح مليونيرًا لمجرد امتلاكه «كام» شهادة.
ولاشك أن تسويق شهادات الاستثمار من ناحية وانحياز الشعب للنظام وزعيمه من ناحية أخرى ساهما فى انتشار هذا الإحساس. فهذا الجنيه الذى تملكه من خلال شهادة يساهم فى مشروع قومى أو صناعى أو زراعى كبير.وانتشرت نظرية «تفيد بلدك وتستفيد»، وكان لشهادات الاستثمار ذات الجوائز من خلال السحب طعم آخر، الحلم بأن تكسب آلاف الجنيهات، وانتظار الإعلان عن كل سحب، والرهانات بين الأشقاء والأصدقاء على من سيكسب الجائزة، ودراما لحظات الفشل فى كل سحب بعد نشر رقم الشهادة الفائزة بالجائزة.
ولقد انسابت الذكريات عندما حدث جدل كبير لقرار خفض العائد على شهادات الاستثمار أقل من ثلاث سنوات.
وقد لاحظت مغالطات كثيرة فى قضية خفض الفائدة وقلق المصريين الذين يمتلكون شهادات استثمار بـ 427 مليار جنيه، ولكنهم فى الأعم الأغلب من الطبقة المتوسطة والفقراء.
مبدئيا لا تزال شهادات الاستثمار أقل من ثلاثة أعوام هى الأكثر ربحية للمواطن من فوائد ودائع البنوك، لأن الشهادات معفية من أية رسوم، وبينما هناك رسوم على فتح الحساب البنكى والأعمال الإدارية فى كل البنوك، ولذلك بالنسبة لأصحاب شهادات الاستثمار من محدوى الدخل والفقراء لا تزال الشهادة أكثر ربحية.
الأمر الآخر يتعلق بعمر الشهادة، فعندما يقل عمر شهادة الاستثمار أو حتى ودائع البنوك عن ثلاثة أعوام، دفع البنوك 14% توضع فى البنك المركزى بدون فائدة، ولذلك يقل سعر العائد على كل أنواع الشهادات التى يقل عمرها عن ثلاث سنوات، ولذلك من الأفضل اختيار الشهادة ذات الثلاث سنوات لأنها أكثر ربحية.
الأمر الثالث أن شهادات الاستثمار التى وصل عائدها بعد ستين عاما الى 427 مليار جنيه قد لا تمثل رقما كبيرا للبنك الأهلى، فقد زادت شهادات البلاتينية 270 مليار جنيه فى 6 أشهر، ومع ذلك فإن أموال شهادات الاستثمار قد تركت أثرا فى كل مكان فى مصر، قد بنت هذه الأموال مصانع ومدارس ومستشفيات ومهدت طرقًا.
فهذه الشهادات تحمل عبق تاريخ مرحلة مهمة فى تاريخ مصر، مرحلة كنا نبتكر حلولاً ذاتية لمشاكلنا، بدلا من انتظار حلول عالمية ونقول شعارات جوفاء لا تقنع المواطن لأنها تبدو مستوردة وغريبة عن لغتنا، وأتذكر أيضا شهادات قناة السويس الجديدة والتى حققت نجاحا باهرا فى عهد محافظ البنك المركزى السابق هشام رامز، ما بين التجربتين مشترك مهم، وهو ربط المصلحة العامة بالمصلحة الشخصية. وإشعار المواطن بأن موارده مهما كانت محدودة تساهم فى بناء وطن.