د. رشا سمير تكتب: «أنا تيتوبا».. ساحرة سالم التى قتلها لون بشرتها
هل يتحول القهر إلى أداة حرب؟ هل تتحول الذكريات الحزينة إلى دائرة انتقام؟
كيف ينقلب الظلم إلى سحر؟ وكيف تنقلب عبودية اللون إلى سجن المشاعر؟
عندما تختلط آلام البشر بأحاسيسهم المكسورة، وعندما ينهزم أصحاب القلوب الضعيفة أمام قسوة الأيام وجبروت من يمتلكون زمام الأمور..تتبدل الصورة، ويتحول الخير إلى شر..
ولكن كيف يولد السحر من بين أنامل من يعانقون الخوف؟
هذا السؤال إجابته تكمن بين سطور رواية من أهم ما تُرجم للعربية فى العام الماضى.
رواية بقلم الكاتبة الغوادلوبية – نسبة الى جزر الغوادلوب التابعة لفرنسا – ماريز كوندى..
إنها روائية استثنائية، تحمل آلام وأحلام شعب بأسره بين جنبات قلمها الثائر..
ولدت عام 1937 لعائلة مكونة من ثمانية أطفال، عاشت طفولة بائسة، ومنكسرة بعد أن منحها القدر ظروف الميلاد لعائلة فقيرة، استعبدتها الظروف، وكانت شاهد عيان على جدتها التى عملت كخادمة فى البيوت، على الرغم من ذلك كان والدها يُعاملها كأميرة صغيرة..
استطاعت فى سن السادسة عشرة من عمرها أن تغادر جزر الغوادلوب لمواصلة دراستها بباريس، لتحصل على درجة الدكتوراه فى الأدب من جامعة السوربون، بدأت الكتابة وهى فى سن الأربعين، بعدما شعرت بالتنمر الصارخ من الآخرين ضد اللون الأسود، فقررت أن هناك قضية بالفعل تستحق أن تحمل القلم من أجلها..
كتبت باللغة الفرنسية ما يقرب من الثلاثين رواية.. وصلت روايتها «أطعمة وعجائب» التى استمدتها من حياة جدتها إلى القائمة القصيرة للمان بوكر عام 2015.
كما ترجمت أعمالها إلى معظم لغات العالم، إلا أن رواياتها لم تحظ بالاهتمام العربى فلم تترجم أى واحدة منها للعربية، باستثناء روايتها «أنا تيتوبا» (ساحرة سالم السوداء) وهى التى لفتت الانتباه إليها بعدما فازت عام 2018 بجائزة نوبل للآداب البديلة عن الجائزة العالمية التى توقفت عام 2018 بسبب بعض ممارسات أعضاء اللجنة.
هنا لا يسعنى إلا أن أرفع القبعة لدار الأداب اللبنانية على اهتمامها بترجمة الروايات المتميزة التى تستحق الترجمة إلى العربية، لتصبح نافذة للقارئ العربى على أدب له قيمة ومجتمعات مختلفة..
التحية أيضا واجبة لكل دور النشر اللبنانية التى مازالت تعمل لإثرائنا بإصدارات مهمة فى ظل ظروف لبنان القاسية جدا.
الرواية ترجمها للعربية الكاتب والمترجم المغربى محمد آيت حنا، الذى قام بترجمات من الفرنسية للعديد من المؤلفات المهمة من أبرزها روايات الروائية الهنغارية أغوتا كريستوف، ورواية «الغريب» لألبير كامو..الحقيقة أن الترجمة شديدة البراعة، منمقة، تستدرج القارئ إلى عالم السحر والسحرة بلغة تقترب من لغتهم، باستعمال تعبيرات دقيقة معبرة..الترجمة من وجهة نظرى لا تقل روعة عن براعة الكاتبة وتمكنها فى كتابة الرواية.
تيتوبا البداية:
تستند ماريز كوندى فى رواياتها إلى أحداث محاكمة الساحرات فى بلدة سالم الواقعة فى مقاطعة دانفرز الأمريكية عام 1892، وهى الحادثة التى كتب عنها الكاتب المسرحى الشهير آرثر ميلر مسرحيته «ساحرات سالم».
تلتقط الروائية خيوط تلك الرواية من السجلات التى حفظتْ أحداث محاكمات السحرة ببلدة سالم فى ولاية ماساشوستس، والتى ظهر من بينها اسم «تيتوبا»، العبدةُ السوداءُ التى اتُّهمتْ بالشعوذة.
تبدأ الرواية بإهداء كتبته الروائية للبطلة التى عاشت معها فى خيالها:
( تيتوبا وأنا، عشنا فى صحبة حميمة مدة عام، وأثناء حواراتنا التى لم تكن تنقضى، باحت لى بهذه الأمور التى لم تبح بها لأحد).
البداية حيث تستعرض الروائية جذور تيتوبا الفتاة السمراء التى تم اغتصاب والدتها (أبنا) على يد بحار إنجليزى على متن السفينة التى أقلتها لتُباع مع العبيد فى جزيرة باربادوس، وجاءت (تيتوبا) إلى الدنيا كثمرة هذه الخطيئة لتحملها بين جنبات نفسها حتى النهاية.
تتوالى الأحداث، وفى محاولة أخرى للأم للدفاع عن نفسها مرة أخرى ضد اعتداء جديد، يؤكد دون ريبة على أن الأجساد السمراء مستباحة لكى تنهشها الكلاب فى أى وقت وكل وقت..
هذه المرة تضرب المعتدى الأبيض الذى تعرض لها، لم تقتله، ولكنه هو يقتلها.. يقتلها بيد القبيلة التى تُنزل عليها عقاباً بالإعدام شنقا..
أمام مشهد جسدها المتدلى من جذع شجرة، تتوالى الأحداث أمام عينى ابنتها البريئة التى تم طردها من المزرعة وهى فى السابعة من عمرها، لتنتقل إلى رعاية سيدة من العبيد تُدعى (مان يايا).. ونتعرف عليها كامرأة مخبولة قُضى رفيقها وولداها تحت وطأة تعذيب الرجل الأبيض.
تيتوبا الساحرة:
فى رعاية (مان يايا) تتغير المفاهيم، وتتعرف (تيتوبا) على الكثير من الأشياء التى كانت تجلها لكنها تحاوطها..البحر، الجبال، التلال..
عاودتها زيارات من رحلوا، وتجسدت لها أمها من جديد..وكانت تلك بداية عالم تجهله.
علمتها (مان يايا) أن الراحلين يأتون ويبقون إذا ظللنا على حبهم، إذا أكرمنا ذكراهم، إذا وضعنا على قبرهم ما كانوا يحبونه..إنهم حولنا دائما متعطشون للحب.
تذكرت عندما وصلت إلى تلك الصفحات من الرواية، زيارتى لمقبرة الشاعر جبران فى لبنان، يومها قرأت العبارة التى كتبها بخط يده وطلب أن تُعلق فوق قبره وهى التى هزتنى بشدة لدرجة أشعرتنى أنه يقف خلفى ويراقبنى وأكاد أن أسمع صوت أنفاسه..العبارة تقول:
(أنا حى مثلك، وأنا واقف الآن إلى جانبك؛ فاغمض عينيك والتفت؛ ترانى أمامك)
تيتوبا العاشقة:
تموت المربية التى تولتها بعد وفاة أمها، وتهم تيتوبا لتستطيع الوقوف بمفردها، فتتجه صوب نهر أورموند، وتشيد كوخاً صغيراً يخصها، وتُسور حديقتها، لتقوم بتربية الدواجن والحيوانات. ويأتى لقاؤها بالعشق.
تقع تيتوبا فى غرام شاب هندى يُدعى جون، وهو عبد مملوك من سوزانا إندكوت..تعطيه من نفسها، وتقع فى غرامه ثم تتزوجه..وتقرر فى ذات الوقت أن تسخر ما تعلمته من أعمال السحر والمعالجة بالتعاويذ والأعشاب فى خدمة الخير والمحتاجين فقط إلى خدمتها..
الأمر الذى تعبّر عنه بقولها: «إنّ المرأة التى نقلت إليّ علمها، علّمتنى أن أداوى وأريح أكثر من أن أؤذى»
هكذا تغوص بنا الروائية فى ذات تلك الشابة السمراء، ونواياها التى تنقلب ضدها مع الوقت ليتخلى عنها الجميع حين تُكيل إليها التهم.. إنها محاولة الكاتبة لعبور الحد الفاصل بين الحياة والموت، بين الإيمان والاستسلام..بين أن نكون أو لا نكون.
إنه القدر يلعب لعبته فى حياة تلك الشابة، ليقذف بها من قبضة سيد اتخذها عبدة إلى سيد آخر اتخذها خليلة والنتيجة واحدة..جسد يُهان وينتهك بسبب اللون..وهو ما استطاعت الروائية أن تسلط عليه الضوء بجدارة..وأن تصل بقضيتها إلى عقل وقلب كل من قرأ الرواية ليسعى وراء الدافع الحقيقى لكتابتها.
تيتوبا القضية:
سلطت الروائية الضوء على قضية أخرى لا تقل أهمية عن قضية اللون وهى قضية استخدام الدين لتعزيز العبودية، من خلال الدور السلبى لبعض الكهنة الذين يمارسون الإكراه فى الدين ولا يتورّعون عن المشاركة فى التحقيق والتعذيب، وتواطؤ السلطتين الدينية والعسكرية لتنفيذ أحكام لا تمت بصلة للقانون ولا حتى للأعراف، كما بدا جليا من خلال الرواية ممارسات المستعمِر فى استغلال موارد الشعوب المُستعمرة.
وتصف أيضا كيف آثرت (تيتوبا) حبها لجون على نفسها وهو ما ينتهى بها لدفع ثمن هذه التضحية.. ثم تنتقل تيتوبا إلى بوسطن وضواحيها، لتعيش عالما مختلفا لا يقل قسوة عما عاشته فى جزيرة باربادوس.
تيتوبا وكوندى:
تصف الروائية ماريز كوندى قرية سالم أغرب وصف وتقول:
(إن قرية سالم، التى لا ينبغى أن يُخلط بينها وبين المدينة التى تحمل الاسم نفسه، والتى تبدو لى جذابة بما يكفى، أقول الآن إن قرية سالم كانت معزولة وسط الغابة، كبقعة صلع وسط فروة رأس غزير الشعر).
إنه الصراع الأبدى بين من نصبوا أنفسهم أسيادا ومن ارتضوا لقب العبيد محكومون بلون بشرتهم..فى رواية تتجول ببراعة فى منطقة التحول الذى يصيب البشر بكل قسوته، التحول الذى جعل من تيتوبا الطفلة السمراء المسالمة، ساحرة تقف خلف قفص المحاكمة وتنتهى حياتها بسبب جُرم لم تكن تتعمد اقترافه بل دُفعت إليه.
اليوم تقترب كوندى من عامها الرابع والثمانين وهى تشعر بحسب كلامها أنها استطاعت أن تقدم شيئا لمجتمعها وأن تضع موطنها الأصلى (جزر الغوادلوب) على الخارطة الأدبية ليعترف العالم بهذا العالم المختلف وبشعبه المسالم بعيدا عن القنوات الإخبارية وقسوة الأحداث.
«بالنسبة لى، الكتابة هى أن أكون على قيد الحياة، عندما أتوقف عن الكتابة، أتوقف عن العيش. وفى كل عام أعتقد أننى أكتب كتابى الأخير».
تحية لروائية استطاعت أن تروى لنا حياة شعوب لم نعرفها وقضية حتى لو بدت لنا بعيدة فهى قريبة لأنها قصة كل البشر.