بطرس دانيال يكتب: كُن طموحاً

مقالات الرأي




يقول القديس بولس: «وإنما يَهُمنُّى أَمرٌ واحِد وهو أن أَنْسى ما ورائى وأتقدّم إلى الأمام فأَسْعى إلى الغاية...» (فيلبى 13:3). تحكى إحدى الأساطير القديمة عن خنزير كان يحلو له التمرّغ فى الوحل، والأكل من القاذورات، والتمتع باستنشاق الروائح العفنة، وإذا به فجأةً يلمح فراشة فى غاية الجمال تتراقص مع النسيم وتنتقل من زهرةٍ إلى أخرى، هائمة بالرحيق والعطور، فقال لها: «أنتِ مازلتِ كما أتخيلك، ترفرفين كالسكارى ولا تشبعين من عطرٍ متمسكة بالرحيق، ألا تستجيبين لنصيحتى لكِ وما أشير به عليكِ، وتجرّبين ما أنا غائصٌ فيه من نعيم؟!» – «أشكرك جزيلاً، وهنيئاً لك أوحالك وقاذوراتك، أما أنا فأملكُ أجنحة من نور أُحَلّق بها فى السماء، وأتمتع من الزهور والعطور». نلمس هنا الفارق الكبير بين من يتحلّى بالطموح والرغبة فى السمو والرقى، ومَنْ يريد الاستمرار فى وحل الخمول والكسل دون التخلّص منه. لذلك يجب علينا ألا نتأثر بمن يريد أن يغوينا للوقوع مثله فى تلك المستنقعات، أو من يرغب فى إحباط اجتهادنا ويضيّع مواهبنا وقدراتنا، أو مَنْ يسخر من تديّننا وتقوانا، أو مَنْ يستهزأ من سلوكنا المستقيم وتهذيبنا، لذلك يجب علينا ألا نبالى بهم. كم من الشباب الموهوبين الذين يبشّرون بمستقبلٍ باهر، بفضل ما يتحلّون به من ذكاءٍ ومواهب! لذلك يجب على الأهل والمربين والمعلّمين أن يوفروا لهم الفرص المواتية، التى تساعدهم على استغلال مواهبهم واستثمار كفاءتهم. ولكن إن أساءوا استعمال هذه النعم، مندفعين نحو اللهو فقط بدلاً من العمل الجدّى؛ سينطفئ ذكائهم وقدراتهم، وسيصبحون أشخاصاً سطحيين لا رجاء فيهم. والحل فى هذه المواقف هو التحلّى بالطموح الذى يُعتبر تمرداً على الخمول، وعلى الحياة العادية الروتينية، وأن نبذل أقصى ما فى وسعنا من جهدٍ، ثم نقوم بمحاولات تتلوها أخرى، وأن نكرس كل ما نملكه من طاقة وحيوية من أجل الخير. والإنسان الطموح دائماً يَقظ لا يغمض له جفن، دائم التحفز لا يبالى بوَهن، ولا يشبع مما يحققه من نجاح وتقدّم، كما أن شعاره الدائم هو: «عندما أرى الأحسن، لا يعود يعجبنى الشيء الحسن». كما أن الطموح ليس مقصوراً على الانتصارات الحربية والرياضية أو المكاسب الأرضية؛ بل هو نزوع إلى الرقى الإنسانى فى جميع المجالات والمعاملات، ولا نستطعم الراحة والهناء، إذا لم نبذل قصارى جهدنا لنجعل حياتنا حافلة بالأعمال المجيدة. فالإنسان على الأرض، لا ليكتفى بالمأكل والمشرب فقط، ولكنه يحيا فى هذه الدنيا بروحه وقلبه ليقدّم أفضل ما عنده. لذلك يجب علينا أن نتحلّى بالطموح الذى لا يعرف حدوداً، والتفاؤل الذى يتحدّى المستحيل، والشجاعة التى لا تقيم وزناً للأخطار، والثقة بالنفس التى تساعدنا على القيام بأعمالٍ إنسانية مجيدة. إنها لجريمة أن نقتل معنويات الغير، ونصبح عائقاً بينه وبين النجاح فى الحياة، أو الطموح إلى الخير والفضيلة، وهذا ما يقوم به الذين يروّجون للفساد والرذيلة، وكل شاغلهم هدم المجتمع. لذلك يجب علينا ألا نعيرهم اهتماماً، وألا نتخلّى عن حُب المغامرة وننطوى على ذاتنا، أو نبنى لنا برجاً عاجياً لنتحصّن فيه، متقلبين على فراش الخمول والأنانية. ولكن الطموح فى النفس، دليل على سمو الهمّة والنبل، كأنها من غير طينة البشر الخاملين والمتشائمين. والنفوس الطموحة لا ترضى أبداً عن كل ما تقوم به من إنجازات، بل تتطلع دوماً إلى الأمام، إلى الأفضل، إلى الأسمى: وأمثال هذه النفوس لا تقنع بما تستطيعه أيّاً كان؛ ولكنها تحاول دائماً أن تتخطى ذاتها وقدراتها حتى تبلغ حد النبوغ والإبداع. إذاً يجب أن نزرع فى الأجيال القادمة الاعتماد على النفس، والطموح إلى الأكمل لأن هذا أساس المستقبل الباهر الذى يتحتم السعى إليه، لأننا على هذه الأرض، لا لنلهو أو نشكو؛ ولكن لنعمل بكل نشاطٍ وحماسٍ وجدّ، بحيث يجدنا نهار الغد أفضل مما نحن عليه اليوم والأمس. إذاً يجب علينا أن نلقّن أطفالنا ضرورة العمل الجدّى إلى جانب اللهو والتسلية. لذلك يجب علينا أن نعزم عزماً صادقاً على النجاح فى الحياة، ونجتهد كل يوم فى اكتساب شىء جديد، والقيام بعملٍ يفيد البشرية جمعاء، كما يجب أن نصبح نوراً للمحيط الذى نعيش فيه، وأن نحمل شعلة التفاؤل لكل من نتقابل معه فى الظروف الصعبة، كما يجب ألا نقتدى بالذين لا هم لهم سوى الشكوى والنحيب والتشاؤم. ونختم بالقول المأثور: «مادام فى الدنيا سموُّ ورفعة، فما أنا من يرضى ويقنع بالأردأ».