د. رشا سمير تكتب: الأكراد و«جان دوست».. تاريخ من النضال وقلم يروى الحكايات

مقالات الرأي




تعودوا أن يحتموا بالجبال.. متوارين خلف الأسوار العتيقة.. يتضرعون من أجل الإنسانية..باحثين عن أمل غاب.. عن عشق مضى.. وعن وطن لم يكن إلا بهم.

حدودهم الأرض وأفقهم السماء.. التحفوا بالأمل فباتوا يبحثون عن المأوى فى الفنون..بين صفحات الكُتب..وخلف نغمات الموسيقى الإيزدية.. أقليات عرقية أو أغلبيات سياسية، مازالوا هم نفس الشعوب المسالمة، المُحبة للحياة..دفعتهم أقدارهم إلى حمل السلاح فى حين قلوبهم مازالت تسكنها زهور البيونى الحمراء..

هل كانوا سُكان جبل شهروز؟ أم هم سُكان مدينة بابل؟ أم أنهم مجرد بشر يحملون نفس الدماء وذات الأحلام والهموم..

إنهم الأكراد.. أكراد سوريا والعراق وتركيا وأرمينيا..

تعرفتُ عليه من خلال قلمه الثائر ورومانسيته المفرطة.. كاتب حالم قرر أن يصبح صوتا لشعب تاهت أحلامه بين ما كان وما سيكون..بين أن يصبح محارباً على الورق أو يحمل سلاحا ويزهق أرواحا..فاختار أن يمنح شعبه صك الغفران بكتابات وروايات مختلفة، ويفسح لهم طريقا لاحتلال عقول البشر التى تعانى من ظلام المعرفة..

إنه الكاتب السورى الكُردى المتميز جان دوست..من مواليد مدينة كوبانى بحلب فى سوريا..

له إصدارات عديدة تمت ترجمتها إلى العديد من اللغات منها التركية والعربية والسورانية والإيطالية والإسبانية والفارسية..أصر على الكتابة باللغة التى وقع فى عشقها وهى اللغة العربية دون الحاجة إلى مترجم..أعمال عرف من خلالها قرائه حول العالم بالثقافة الكردية وهموم الأكراد كجماعة عرقية عانت كثيرا..

له عناوين عدة منها: ثلاث خطوات إلى المشنقة/ عشيق المترجم/ ميرنامة/ نواقيس روما/ ممر آمن/ باص أخضر يغادر حلب/ مارتين السعيد/ كوبانى/ مخطوط بطرسبورغ/ دم على المئذنة/ سيرة خبات.

كما حاز على العديد من الجوائز واحتفى القراء بأعماله..

قرأت له فجذبنى إلى منطقة لم أعرفها قبلا وهى مجتمعات الأكراد وثقافتهم وعاداتهم وأبطال ممن ناضلوا فى سبيل قضية وجودهم وهويتهم.

تعرفت عليه، وحاورته من خلال مبادرة (كاتبان وكتاب)..تلك المبادرة التى تبنيتها لتعريف القارئ العربى خصوصا المصرى بالأقلام الحقيقية الموهوبة التى ربما تورات قليلا بسبب زحمة الساحة بالمُدعين وأنصاف المواهب..

وأعترف أنه على المستوى الإنسانى أبهرنى بصفاء نفسه وسمو أخلاقه..

دعونى اصطحبكم اليوم فى رحلة بين سطور رواياته وآرائه من خلال حوارى معه..

■ لماذا تركت سوريا واخترت أن تعيش فى ألمانيا؟

- فى سوريا ضاقت الحدود بنا، وضاقت جدران الوطن، نعانى من قسوة الوطن وننشد الحرية فى بلاد الغربة، أكرهنا على مغادرة الوطن والبحث عن فسحة أكبر للإنسان، لقيمة حقيقية وبعض الكرامة بغض النظر عن الانتماء الحزبى، أو العرقى أو الدينى.

غادرت على أمل أن أعود إلى هذا الوطن الجميل والآن بعد عشرين عاما غاب الأمل ولم أعد أفكر فى الرجوع بعد أن أصبحت سوريا أطلالا ورحل عنها الأحباب والأصدقاء والأهل..كم نتمنى أن تصبح جدران الوطن أكثر دفأ لتضم أبناءها بدلا من أن تنبذهم خارجها.

■ الأكراد..مجموعة عرقية تسكن المنطقة الجبلية الممتدة على حدود تركيا، والعراق، وسوريا، وإيران..قمت أنت كقلم كردى أصيل بتعريف القراء بمجتمع الأكراد وهمومهم..حدثنى عن الأكراد فى سوريا..ولماذا قررت تبنى قضاياهم فى أغلب أعمالك؟

- هذه قضية لصيقة بى وبروحى إلى حد أن أتماها عنها، فتحت عينى لأجد نفسى كرديا مهمشاً، وكنت عنصرا محلاً للريبة والشك، فقررت أن أقرأ لأعرف عن ذاتى وأدرك سبب هذه الكراهية والتهميش، نبشت فى الواقع الكردى وتاريخه لأن الإعلام يهمش هذه القضية، ولا يسلط الضوء عليها، وكأن حتى فى المسلسلات السورية كان هناك تهميش مقصود للأكراد وإقصاد لهذه العناصر، إنها فيما يشبه حالة النضال بالقلم، لأظهر واقع هذا الشعب..وأُعرف الناس أن هناك شعبا يعيش بجوار الشعب العربى يشاركه الحياة والثقافة والعادات، رأيت أنه من واجبى أن أفتح نافذة للشعب العربى ليطلوا على هذه الحديقة الجميلة التى نسوها.

لكن دعينى أقول إن فى (نواقيس روما) و(سيرة خبات) و(عشيق المترجم) و(مارتين السعيد) روايات لا علاقة لها بالشعب الكردى ولا بقضيته.

■ صدرت لك أربع روايات باللغة الكردية (مدينة الضباب، وثلاث خطوات ومشنقة، وميرنامة)، وصدرت لك أيضا ست روايات باللغة العربية..لماذا تنوعت الإصدارات بين العربية والكردية وهل كانت تلك محاولة لتعريف العالم العربى بالثقافة الكردية؟

- بدأت باللغة الكردية وكنت من أنصار الإبداع بها، ولو أنى أعرف اللغة العربية جيدا ولكن بعد أربع روايات وجدت أننى ارتدى ثوبا ضيقا جدا، يجب أن ارتدى ثوبا فضفاضا ارتاح فيه..يرتاح فيه جسدى الأدبى..شعرت أننى ظلمت اللغة التى تثقفت بها، وفى لحظة ما قررت أن أكتب باللغة التى أحببتها..وقررت أن أبدع باللغتين وأترجم ما أكتبه بالعربية إلى الكردية والعكس صحيح وقمت أنا بنفسى بالترجمة.

■ روايتك ميرنامة (الشاعر والأمير)..تقع أحداث تلك الرواية فى القرن السابع عشر، وفى أرض الأكراد التى كانت واقعة بين الدولة العثمانية والدولة الصفوية، وصفت حال الأكراد فى ذلك الوقت وحال أمرائهم، تلك الحال التى لم يسكت عنها الشاعر أحمد الخانى كاتب الملحمة التاريخية (مم وزين) فبعث برسالة إلى الأمير ينصحه فيها ويطلب منه تنفيذ ما يوصى به الخانى، الرواية متعددة الأصوات، كل شخصية تلقى الضوء على الأحداث الأخيرة قبل موت الشاعر أحمد خانى من منظورها الخاص..حدثنا عن تلك الرواية خصوصا أن البعض اتهمك أن فكرتها تتشابه مع رواية (اسم الوردة) لأمبرتو إيكو؟

- هؤلاء القراء مع كامل احترامى متأثرين بالمركزية الغربية لأنهم يقرأون للغرب ولا يقرأون لأقلامنا العربية، هذه الرواية متأثرة فى الأصل بجبران خليل جبران، وبالتحديد بروايته (يسوع ابن الإنسان) التى تتحدث عن اليسوع أو المسيح..وتتأرجح الرواية ما بين بعض الشخصيات التى تهجوه وبعض الشخصيات التى تمتدحه وتراه مثالاً للخير والجمال..أنا تأثرت بشخصيات تلك الرواية وقررت أن أنتهج نفس المنوال، وأكتب رواية عن فريقين يقولان رأيهما فى أحمد الخانى..وأترك للقارئ الحُكم.

الرواية بها إسقاط على التاريخ الكردى، فكم أتمنى أن يتعامل الحاكم أو الأمير الكردى مع الأدباء كما ورد فى الرواية بتشجيع الأدباء والثقافة واللغة الكردية بعدما تعرضت إلى سحق لعقود طويلة وأتمنى أن ينتبه الحكام فى هذا العصر إلى هذه النقطة..

■ روايتك الرائعة (ثلاث خطوات إلى المشنقة) الصادرة عن دار الساقى..رواية شديدة الإنسانية وكثيفة الأحاسيس، رغم أن الخلفية سياسية، إنها تبدو وكأنها حكاية تلك الخطوات التى تفصل الشيخ الثائر سعيد بيران النقشبندى الذى ثار على العثمانيين فى جنوب شرقى تركيا عن الموت، لكنها فى واقع الأمر فى مخيلة الرجل وزمنه الداخلى سبعون عاماً، مروراً بكل الأحداث الجسام التى عاشها وصولاً إلى هذا المكان مكبل اليدين بالأصفاد، يحيط به حارساه من الجانبين وهما يقودانه إلى حبل الإعدام المتدلى أمامه..حدثنى عن كواليس كتابة تلك الرواية؟

- كتبت هذه الرواية بحُب، وعندما أسأل أقول: إنها أقرب الروايات إلى قلبى ولغتها بالفعل شاعرية، حادث إعدام الشيخ سعيد حادث مؤلم، هذا البطل حاول أن يحقق شيئاً ما لشعبه وتمت خيانته بعد سحق الثورة وسيق هو ورفاقه إلى المشنقة، كتبتها بحالة وجد شخصية تتطلب هذه الشاعرية والصوفية وهذا الفضاء، لأن الشيخ سعيد من أقطاب الحركة الصوفية النقشبندية الكردية،الحقيقة لجأت فى كتابتها إلى العديد من المراجع التاريخية..وللأسف الشديد أريد أن أنوه إلى أن الأتراك حتى اليوم لا يشيرون إلى مكان دفن الشيخ سعيد، فهو أُعدم ودفن فى نفس المكان عند باب القلعة فى ديار بكر، والسلطات التركية بعد مائة عام مازالت تُخفى مكان قبره، خوفا من أن يصبح ضريحه مزارا لمُريديه، بل شيدوا مراحيض عامة فوق هذه القبور إمعانا فى إذلال وطمس هوية هذا الشعب الكردى الثورى، هذا ما شجعنى أيضا للكتابة عن هذا البطل الشعبى، لأشير إلى محنته..أيضا كان من الجانب الكردى من حاولوا التقرب للأتراك المستبدين واتهموا الشيخ سعيد بأنه لم يناضل من أجل القومية بل ناضل من أجل الدين، وأنا أردت أن أبين للجميع أن هذا الشيخ كان يعادى الأتراك من أجل حقوق الأكراد فقط وليس من أجل الدين أو الخلافة العثمانية، فقد كان واجهة لرجال الدين من الأكراد الذين انتفضوا ضد الدولة التركية وحاولوا أن يحققوا شيئا للشعب الكردى بعد خذلان العالم لهم فى مؤتمر لوزان.

«كوبانى» ملحمة سردية، رواية تستدعى ذاكرة الحرب السورية، أحداث مأساوية ارتبطت بمأساة للأكراد وما لاقوه على أيدى الجماعات المتطرفة الداعشية..المدينة السورية التى حاصرتها داعش فى 2014 وحررها المقاتلون الأكراد..قلت عن تلك الرواية:

(وجعى الخاص وذاكرتى التى لا تنام، لو لم أكتبها لكان أمامى طريقين أحلاهما مُر..إما الانتحار أو الجنون)!.

■ الصراع بين الأجيال المتمسكة بالماضى والأجيال التى تتوق للحرية، الكردى الثائر والكردى الخائن كان تيمة فى بناء الشخصيات.. حدثنى عن تلك المرارة التى تحدثت بها عن الرواية، ولماذا قررت أن تكتب عن «كوبانى» واتهمك البعض بأن أراءك السياسية أو صوتك أعلى من صوت القارئ؟ لماذا؟

- لأن كوبانى دون شك هى رواية وجعى الخاص، أتألم عندما أتحدث عن تلك الرواية وعن كوبانى بشكل عام ، فكوبانى كمدينة خاضت حرباً شعواء ضد ميليشيات داعش من عفرين وحتى سنجار..كوبانى خاضت حربا غير متكافئة ضد هذا التنظيم الأسود، وضحى الكرد بآلاف المقاتلين والمدنيين الشهداء من أجل تحرير أنفسهم والآخرين، ودفع عائلات داعش عن مُدنهم وقُراهم، الكرد لم يستقبلوا هذا التنظيم فى بيوتهم أبدا، ومازال الكثيرون من الأصدقاء والأهل مفقودين ومعتقلين ومختطفين، خمسمائة شخص فقط من كوبانى وحدها، من هذا البلد الصغير. لم يكن أمام الكرد سوى القتال، سواء اختاروا القتال أو أجبروا عليه، الشعب الكردى لم يختر القتال أبدا فى تاريخه، فالكرد شعب مسالم يريد العيش فى سلام، يرقصون ويحتفلون.

لم يكن أمامى سوى أن أصرخ من أجل مسقط رأسى الذى دفع أبناؤه ثمناً باهظاً، أهل كوبانى اليوم أصبحوا فى طى النسيان وباتوا مُهجرين، سمعت منذ أيام أن هناك قصفاً من قبل تركيا على عين عيسى، وكوبانى الآن مهددة باحتلال تركى جديد على يد الجيش التركى وفصائل المرتزقة المرتبطين بهم مثل ما حدث فى عفرين..

هكذا خففت الكتابة عنى وجعلتنى أزيح من على صدرى الحزن والهموم وأنا أرى وطنى يتمزق..الكثير من أهلى وأصدقائى جرحوا وفقدوا وقتلوا..

أخى توفى وهو بعيد عن كوبانى بحسرة العودة إلى كوبانى، ويوم حُررت كوبانى توفى ولحسن الحظ نقلوا جثمانه فى نفس اليوم ليدفن فى كوبانى وكانت تلك الحادثة هى شرارة كتابة الرواية.

■ رواية (عشيق المترجم) تذهب أحداثها إلى وقت كانت الإمبراطورية العثمانية فيه هى العالم الثانى المقابل للرومان والفرنجة فى القرن السابع عشر..

الرواية تدور على لسان الراوى العليم «عشيق رشدى» مدون تاريخ ومترجم، يكتب المخطوطات وقصته منذ هاجر والده من باب الأستانة إلى حلب، وكيف ليونس الإسبانى الخطاط أن يحكى له حكايته ويقرر رشدى كتابتها مثل ألف ليلة وليلة، وتسليط الضوء على حبه لإستير اليهودية..شخصيات مرسومة بدقة وروعة، كيف جاءتك تلك الفكرة المتفردة وكيف رسمت الشخصيات بتلك الدقة؟

- عندى رسالة من خلال كتابة هذه الرواية أردت أن أوصلها للقارئ، أردت أن أقول إن بلادنا ليست محصورة على عرق واحد فقط بل هى موزايك جميل، من أرناؤوط وأكراد وألبان ويهود.. هذه نقوش على جدارية الشرق المُسلم، فلماذا نبرز طرفاً واحداً ونهمش باقى الأطراف؟.

هى فكرة تعدد الأعراق وكانت تيمتها التسامح، فكل هذه الشخصيات تلعب دوراً فى تسامح الشعوب مع الأديان..من أول الكردى الذى يعشق عربية ويتعرض للجنون..

أردت أن أشير إلى أن التسامح هو الحل.