منال لاشين تكتب: زوجة مولانا 1 | فى رحاب مولانا

مقالات الرأي




عندما تذبح الذبائح كان لمولانا نصيب الأسد من الكبد والعكاوى والمخاصى

مولانا أنقذ والدتى من ارتداء الخمار وأفتى لوالدى بجواز خروجها سافرة

كانت أمى تقطع الحمامة ثلاث قطع وتطعم مولانا وهو ما لم تكن تفعله مع أبى شخصيًا

1- القاعة الشرقية

كنا فى عيد الأضحى ببيت العائلة فى العزبة نلعب فى حديقته، وكان أبى يصرخ فى الجزارين، خلصوا الكبدة والعكاوى والكوارع والمخاصى بسرعة حتى تلحق تروح لمولانا، اعترض أخى الصغير: أنا بحب الكبدة، فتدخلت أمى قائله: سيبوا كيلو ولا اثنين من الكبدة، الشيخ بيروح له ذبايح كثيرة، لم أكن أعرف المخاصى والعكاوى، فسألت عمتى، فردت ضاحكة: أنتِ صغيرة على الحاجات دى، ولكننى كنت واثقة أنها حاجات غالية لأن أبى مُصر على إرسالها لمولانا، منذ يومين أرسل أبى سيارة تحمل عجلين وعدة خراف ليوزعها مولانا على المريدين والمحتاجين بمعرفته.

كان مولانا موجودا فى حياته حتى ولو كان على سفر، كان وجوده وفتاويه متداخلا ومتقاطعا فى حياتنا مثل العاشق والمعشوق فى الأرابيسك الذى يزين القاعة الشرقية المخصصة لزيارات مولانا التى لم تكن تتجاوز الـ12 مرة فى العام. القاعة الشرقية وملحقاتها تشغل مساحة شقة كاملة فى الشقق الأربع التى خصصها أبى لنا فى عمارتنا، وأتى بمهندس لتصميم القاعة وملحقاتها وإدماجها مع باقى البيت.

للقاعة الشرقية ثلاثة أبواب.. أقصى اليمين باب صغير لأمى تدخل وتخرج منه فى هدوء وبجواره كرسى مخصص لها. على أقصى الشمال باب أكبر لدخول مولانا والمريدين، فى الحائط الغربى باب يدلف على غرفة مكتب أرابيسك أيضا، وهذا المكتب مخصص لمولانا حين يريد الانفراد بأحد الضيوف أو يطلب منه أحد فتوى خاصة فى مشكلة شخصية، ويوجد حمامان أحدهما للنساء والآخر للرجال، وقد علقت عليهما أمى صورًا مثل الفنادق والمطاعم تميز حمام النساء من الحمام الرجالى، فى آخر القاعة برافانات خشب أرابيسك، تستخدمها أمى للفصل بين الرجال والنساء إذا صلى مولانا بهم، وأمام القاعة مساحة واسعة مفصولة بحاجز من الخشب والزجاج، وفى كل ناحية غرفة سفرة كبيرة 12 كرسياً، واحدًا للنساء والآخر للرجال، أما مائدة السفرة الخاصة بمنزلنا فهى فرنسية وتتكون من 24 كرسياً.

وفى صدر القاعة مصطبة بها وسائد من قماش الخيامية الذى يستخدم فى شهر رمضان، وهذه المصطبة عريضة لتتيح لمولانا أن يجلس ويمد قدميه المتعبتين، وهناك كراسى أرابيسك بمساند للكبار، وكراسى أرابيسك تفتح وتغلق لاستيعاب الضيوف، وفى نهاية الممر غرفة تحوى كنباً يتحول لسرير للطوارئ.

ما بين آخر برافان وخلف باب أمى مساحة تكفى للاختباء وسماع ورؤية كل ما يدور خلال زيارات مولانا. كنت مفتونة تماما بهذا العالم السحرى الذى يدور فى القاعة الشرقية بين مولانا ومريديه، وأحب مراقبة أمى فى هذه الليالى.ترتدى أمى عباءة واسعة وغالبا من الكتان، ولا تحب الزينات الذهبية على العباءة، وشالًا حريريًا أو قطنيًا يغطى شعرها، ويترك مساحة ببعض الخصلات أن تظهر وتحيط بوجهها الجميل.دائما أمى أحلى من أى امرأة سواء فى القاعة، تظل أمى تترك القاعة للاطمئنان على العشاء أو متابعة ما سيقدم لمولانا وضيوفه، وفى الغالب كان مولانا يقطع الدرس أو الكلام ليوجه التحية لأمى على كرمها، لابد من تقديم خمسة أو ستة مشروبات ساخنة فى الزيارة الواحدة، وأمام الكراسى أطباق من الكريستال الأصلى مملوءة بكل أنواع المكسرات الشرقية والغربية، وأطباق أكبر عليها نوعان أو ثلاث من فاكهة الموسم، وأطباق مربعة مملوءة بالتمر المستورد، ثم تخرج أمى وتعود ويأتى بعدها رجل يحمل صينية كبيرة من الفضة بها أطباق من المهلبية أو الرز باللبن أو الجيلى، وفى رمضان قمر الدين، لأمى طريقة جميلة لتزيين الأطباق، فهى تضع المكسرات فى الأسفل ثم الوسط وأخيرا قطعة واحدة من الفستق الأخضر وحوله حبات من الصنوبر على شكل وردة، ما أن تمر ساعة حتى تعاود أمى الخروج، وتعود ومن بعدها نفس الرجل يحمل صينية أخرى من الفضة بها أطباق صغيرة بالساليزون والفطائر المملحة، ويعيد مولانا الثناء على كرم أمى.

بعد كل هذه المشروبات والمكسرات والمهلبية والفطائر التى أتى عليها مولانا ومريدوه أتصور أنهم يعانون من وجع البطن، ولكن ما أن تدخل أمى وتقول لمولانا العشا جاهز، حتى يهب مولانا متجاهلا ورم قدميه ويهرول المريدون نساءً ورجالا.

أطباق العشاء يجب أن تكون متنوعة من اللحوم والطيور، وعلى الرغم من أن أمى تحضر أنواعاً مختلفة من الشوربة والسلطات والمحشى والمكرونات، إلا أن الجميع كانوا يركزون على اللحوم.على كل مائدة ديكين رومى أحدهما فى أقصى اليمين والآخر فى الشمال، وهناك طبق فخارى ملون كبير مملوء باللحم المسلوق، ومن الجانبين البط والحمام، تقف أمى بجوار مولانا وتعطيه حمامة رغم أن الأخرى فى فمه، تقطع أمى لمولانا الحمامة على ثلاث قطع، وهو أمر لا تفعله حتى مع أبى، وتقول لمولانا: كل يا شيخنا أنا بحمرك الحمام فى الفرن عشان يبقى خفيف على معدتك، فيرد مولانا ضاحكا: كل أكلك خفيف على المعدة يا ست سميرة، بارك الله فيك، من باب الذوق تمر أمى بين المائدتين وتدعو النساء والرجال لتناول الطعام، فلا يرد عليها أحد لأنهم مشغولون بالتهام اللحم، تعيد أمى النظر للسفرة، فتنادى الطباخ، فيأتى بمزيد من اللحم أو الحمام والبط.

بعد العشاء يعود الجميع إلى القاعة الشرقية، ولاتمهلهم أمى.. يأتى الشاى والقهوة العربى، ومعهما صوانى فضية كنافة وبسبوسة بالقشطة، ثم أطباق من عصير الفاكهة الطازج.

تنتهى الزيارة بدعاء مولانا لأبى وأمى وإعجاب الجميع بكرمها، وما أن يغادروا حتى انسل إلى غرفتى سريعا قبل أن تغلق أمى بابها فى القاعة.أسمع صوت أمى وهى تقول لنا جميعًا: داخلة أنام ومش عايزة حد يصيحنى الصبح إلا لما أنا أصحى.

كانت أمى تتفنن فى إعداد عشاء زيارات مولانا، مرة خروف كامل يعده الطباخ على أزر بالمكسرات والخلطة، وعلى أطراف الصينية ينام الحمام المحمر فى تواضع أمام حجم الخروف.

ومرات أخرى طواجن العكاوى والبامية باللحم الضانى وصوانى اللحم بالبصل أو بالبطاطس.

ولكن فى زيارات مولانا الخاصة لنا كانت أمى تعد له البوفتيك والحمام وشرائح الكبدة الطازجة كما يحبها.لم يكن مولانا يميل للمأكولات البحرية إلا الجمبرى الجامبو مشوى أو مقلى، وكان يتعامل معه مثل التسالى أو الأولدفير، ولكن أمى أقنعته بتذوق الإستاكوزا، فوقع فى غرامها، وكان يطلب من أمى أن ترسل له أطباق الاستاكوزا فى منزله، ولكنها لم تنجح فى جعله يحب أنواع الجبن الفرنسية أو حتى الجبن السورى، وكان مولانا يمازحها: يا ست الستات مليش أنا فى الحاجات الفرنساوى زيك.

2- بنت الفرنساوية

كان لقب أمى فى العائلة أو العزبة بنت الفرنساوية، فأمها فرنسية وجدتها إيطالية، أما والدها فهو مصرى من أصول تركية، لم تعتنق جدتى الإسلام وذهبت أمى إلى مدارس الراهبات، ولكن أمها حرصت على تعليمها أمور دينها، ولم ترث أمى جمال أمها الفرنسى فقط، فقد كانت مزيجاً رائعاً وساحراً من كل جمال العالم، فتنت أبى منذ وقع بصره عليها.تعارفا بطريقة غريبة، كانت أمى تعبر الشارع فصدمتها سيارة وفرت مسرعة، لكن أبى أمر سائقه بالوقوف ونظر للاطمئنان والمساعدة، سألها بالإنجليزية عن حالها وما أصابها، فاجابته بالعربية: الحمد لله، نظر أبى حوله فوجد مطعماً أمامه فعرض عليها أن يدخلا لترتاح وتدخل الحمام لأن وجهها كان مغطى بتراب وطين خفيف، مد يديه إليها وقال لها: ندخل المطعم ده ترتاحى والسواق هيجيب لحضرتك الشنطة والحاجات اللى وقعت منك، وافقت أمى ودخلت الحمام وحين عادت بهت أبى وظل فاتحا فمه من الدهشة، انتبه إلى جمالها.عيونها زرقاء ولكنها محاطة برموش بنية كثيفة، ورغم حجابها إلا أنه يكشف تقاسيم جسدها الرائع الشرقية، طويلة بقدر معقول، شعرها كستنائى ذهبى كالشمس لا يستطيع أى سحاب أن يحجبها، طلبا عصير فواكه ثم قهوة عربى، وعرف قصتها، والدها غنى لا يزال يملك عزبتين قاما بزيادة مساحتهما بعد موت عبد الناصر، وجد جدها لأبيها كان شيخ الأزهر(......)، ولا هى مخطوبة ولا متزوجة، فقط أنهت دراستها الثانوية، ولم ترغب بدخول الجامعة، وتفكر فى إقامة مشروع تجارى، يبدو أن أمى عندما عرفت ظروف أبى اكتشفت أنها وجدت المشروع المناسب لحياتها، أمى شخصيتها قوية حتى أمام مولانا، لم تكن تناديه مثل الجميع بمولانا، ولكن تقول له يا شيخ أو شيخنا، وكانت الوحيدة المسموح لها أن تجلس مع مولانا فى غرفة المكتب أو القاعة الشرقية تناقشه، وكانت تمازحه وهذه مرتبة لم يفكر أبى فى الحصول عليها، كان مولانا دائم القول إن النساء مصابيح البيوت، فترد أمى ضاحكة: وأنت بيتك مليان مصابيح من كل شكل يا شيخنا، فيضحك مولانا ويرد عليها: سامحك الله ياست الستات، وحين أوغرت عماتى ونساء العائلة لأبى بضرورة أن ترتدى أمى النقاب رفضت فلجأ أبى للشيخ، واشتكى أن زوجته تحرجه أمام عائلته.ردت أمى: لقد اتفقنا وأنا لا أطيق الخيمة دى نفسى بيروح، فهب مولانا للدفاع عنها، وقال لى غاضبا: منذ متى يا حج عزت نهتم بكلام الخلق، زوجتك لديها عذر صحى والضرورات تبيح المحظورات، ضحكت أمى ضحكتها المموجة وقالت، ربنا ما يحرمنى منك يا شيخنا، ولم يعد أبى أبدا لحكاية الخمار لا مع أمى ولا معى، فقد كان يخشى أن يغضب مولانا.

3- نص سلفى

كان أبى متدينا ويتبع طريقة مولانا، ولكنه لم يكن سلفياً كاملا، كان يرتدى البدل والملابس الحديثة ولا يطلق لحية كثيفة، وكان يرفض تعيين النساء فى شركته، ويبحث عن البيزنس الحلال، تقريبا كان نص سلفيا، ولم يطلب منه مولانا غير ذلك، وحين قابل أبى أمى للمرة الأولى، كان أبى متزوجا ولديه أربعة أبناء ذكور، زوجه أبوه من ابنة عمه وهو دون العشرين، لأن الزواج عصمة للشاب، والده وأسرته هما أكبر عائلة فى العزبة القريبة من النيل، وبيتهما هو الأكبر ولو أرادا مقعد مجلس الشعب لأخذاه بسهولة، ولكنهما لايحبان لا العمل السياسى ولا الأضواء، يومها قال أبى لأمى: تصورى لم أتم الأربعين بعد ولدى ما شاء الله أولاد فى طولى ورجالا. أعجبها أبى بشعره الأسود الفاخر وسمرة بشرته وطوله الفارع، عرفت أمى خلال اللقاء المعلومات الأساسية عن أبى وعائلته.أنهم تجار لحوم وهو لديه مصنع لتصنيع اللحوم، وعرض عليها أبى أن يوصلها للبيت، وقال لها: أنا هاقعد جنب السواق وحضرتك اتفضلى اقعدى براحتك ورا، وافقت أمى وسارت بهما السيارة فى اتجاه مصر الجديدة، فى موقع ما طلب من السائق أن يبطء، وأشار لأمى على قطعة أرض فضاء واسعة ومسورة وقال لها: دى أرضى والعزبة ورا مسافة عشر أو 15 دقيقة، كانت هناك لافتة كبيرة مكتوب عليها الملك لله أرض ملك الحاج عزت..، واصلت أمى سماعه بابتسامة شجعته على البوح بكل تفاصيل حياته، وأهمها بالطبع تدينه وعلاقته القوية بمولانا، سألته أمى: الشيخ إخوانى، فنفى أبى بسرعة: لا الإخوان بتوع دنيا وسلطة أما مولانا فسلفى اختار الجهاد من أجل الإسلام والمسلمين وترك الدنيا وما فيها من أجل مهمته، وأضاف أبى بفخر: هو بيحبنى قوى وأنا والحمد لله موضع ثقته.حين وصلت السيارة إلى فيللا أسرة أمى طلبت منه التوقف والخروج، وكان أبى يشعر بخجل ومتعرق، قادته هى ببساطة إلى باب الفيللا ثم غرفة الضيوف واستأذنت، وخرجت لأبيها وقالت له بصوت مسموع: بابا معايا ضيف، فرد جدى: يا أهلا وسهلا، دخل جدى وجدتى وخالى، وسمعا قصة إنقاذ أبى لأمى، فتعالت نظرات الإعجاب وكلمات الترحيب، وأصر جدى على تناول أبى الغداء معهم كأقل واجب. على الغداء قال أبى إن أصله من الصعيد وعائتله تغطى ثلاث قرى كاملة ولذلك سمى المركز على اسم عائلته، رد جدى: الصعايدة أصل مصر وأحسن ناس، وعلى الغداء تجنب أبى أى إشارة لزواجه وأبنائه الأربعة، غداء فعشا كان أبى قد وقع فى غرام أمى حتى شوشته، مما سمح لأمى أن تفرض شروطها كاملة عليه، فقد انهزم أمام سحرها وجمالها ورفع راية الاستسلام، أولا لا خمار لها أو لبناتها، وستظل بحجابها الذى تعودت عليه، ألا يكون لها أى علاقة بالعزبة أو ضرتها، كان أبى ينوى بيع أرض النيل بعد أن سقعها مدة كافية، ولكن أمى أصرت على بناء عمارة لها النصف فيها ولا تسكنها عائلته أو أولاده مبررة (أريد أن أربى أبنائى كما تربيت أنا) عاد أبى المهزوم يجر أذيال الخيبة، فلابد أن مولانا سيرفض أن يتزوج هذه الشابة، ولكن مولانا فاجأه، بأن المهم أصلها الطيب وأنها تصلى وتصوم ومحجبة، وردد مولانا على مسامع أبى الحديث الشريف: إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، وطار أبى من الفرحة كما طار إلى مصر الجديدة لطلب يد أمى، فقد مات والده، وأصبح هو صاحب الأمر والنهى فى العائلة، قابلتهما مشكلة صغيرة، أبى يريد أن يتزوج الأمس قبل اليوم، وأمى مصرة على ألا تدخل العزبة، واقترح مولانا أن يحصلا على شقة فى المهندسين أهداها له أحد مريديه، أكد مولانا الشقة جاهزة من مجاميعه وانتو أول ناس تدخلوها، وتزوجا بها حتى ينتهى بناء العمارة، وقال لأبى سرا: من الأفضل أن تبعد النار عن البنزين، فى العزبة لديك زوجتك الأولى، وأخواتك البنات سيضايقهن جمال زوجتك الجديدة وتعليمها وعائلتها، كما أثنى مولانا على فكرة أمى فى بناء عمارة فاخرة لأن العقارات تحقق أعلى ربح، وحلال.تزوجا فى حفل كبير بفيللا أسرتها وسافرا للإسكندرية لقضاء أسبوعين عسل، ولم تترك أمى نفسها تحمل حتى تم بناء العمارة وإعداد شقتها الكبيرة، اختارت أمى أن تبيع لشخصيات بعينها حتى لو أنزلت فى السعر أو باعت الشقة بالتقسيط، كان هناك رئيس نيابة وزوجته الشابة مثل أمى، ودكتور فى الجامعة الأمريكية وزوجته وأولاده، وسفير بالخارجية كان عائدا من سنوات خدمة فى إحدى الدول الأوروبية، واشترى صديق خالى وهو موظف كبير فى السفارة الفرنسية شقة، وأبقت أمى عدة شقق لتأجيرها بالدولار للسائحين العرب والأجانب.أما نصيب أبى فقد استخار الله وسأل مولانا، فقال له: سأرسل لك عدة معارف ممن أثق فى دينهم، ولا نزكى على الله أحدا، ولكن من بين السكان الذين أرسلهم مولانا ضابط كبير فى الداخلية وآخر فى هيئة رقابية، ولكن أبى التزم بتنفيذ أوامر مولانا، فقد كان أبى يعتبر كل ما يصدر عن مولانا فتاوى واجبة الطاعة، لقد كان تعلق أبى بمولانا شديدا حتى أنه علق على الحائط صورة كبيرة له، وأخرى لوالده.

4- مولانا الآخر

كان مولانا متوسط الطول ولكن سمنته المفرطة تجعله يبدو قصير القامة، وجهه أبيض مشوب بحمرة ولمعان قوى لا يتناسب مع عمره الذى تخطى السبعين عاما مثلما يقول أبى وهو يردد الدعاء بطول العمر لمولانا. تحمل ملامح وجهه طيبة الأجداد وتطيعه ملامحه فتلين إن لانت كلماته وتغلظ لو أغلظ مولانا الحديث. يرتدى عمامة بيضاء تخفى صلعة مدورة تتوسط رأسه، ويخرج من العباءة بعض شعيرات بيضاء، ولحيته البيضاء كبيرة جدا وتحتاج إلى حلاق ماهر، فى الغالب يرتدى مولانا جلباباً أبيض فوقه عباءة، ولكنه فى أحيان نادرة جدا يرتدى بدلة فالضرورات تبيح المحظورات، ولابد من الاعتراف بأن البدلة أفضل عليه، فساقا مولانا نحيفتين جدا، ويزيد من ملاحظة نحافتهما أنه سمين من الوسط، ورغم احترامى له فلم أستطع أن أمنع نفسى من التفكير أن ساقيه تشبهان ساق الديك الرومى الذى تربيه عماتى خلف البيت الكبير.يمشى مولانا بخطى بطيئة لا أدرى عن مهابة أو مرض.

ذات مرة تسللت أنا وصديقتى زينب للقاعة، زينب ابنة جارنا رئيس النيابة الذى أصبح الآن قاضياً، وزميلتى فى المدرسة، ولكن زينب لسانها طويل ولاتؤمن بمولانا، ومع ذلك تتسلل معى للقاعة للفرجة من باب الفضول، حين استقررنا فى مخبأنا، كان مولانا نائما بدون عباءة يرتاح قليلا قبل وفود المريدين، كان الصمت يلف القاعة إلا من أنفاس مولانا المصحوبة بصوت خشخشة ضعيفة، فجأة جرت زينب ولحقت بها إلى غرفتى.كانت زينب تضحك بصوت عالٍ، سألتها فى غضب: بتضحكى ليه، قالت وهى ما زالت تضحك: الراجل بتاعكم دا فكرنى بالضفدعة اللى شرحناها فى المدرسة من يومين. نهرتها: أنت اتجننتى إزاى تهينى مولانا، فقالت: أنت عمياء يا زينة فعلا جسمه شبه الضفدعة كله بطن، تحسى إنه طلع له رجلين وأيدين ورأس. تشاجرنا وعلا صوتنا هددتها أنا أقاطعها وطردتها من البيت، وهددتنى بأن تخبر البنات فى المدرسة أننى أقبل يد مولانا، مع الشجار جاءت أمى مسرعة، فحكينا لها ما حدث، ابتسمت أمى وأمسكت بأذن كل منا وقالت: أولا انتو الاتنين غلطوا عشان بتتجسوا على إنسان، ثم تركت أمى أذنى وقالت لزينب: أنت بقى غلطتى مرتين، مرة عشان تتريقى على إنسان ودا حرام وعيب. شيخ وزير خفير دى خلقة ربنا، والثانية عشان قلتِ إنك هتقولى حاجة شوفتيها فى بيت صديقتك والبيوت أسرار، طأطأت زينب رأسها وقالت لأمى: آسفة يا طنط مش هاعمل كدة تانى، فجأة أمسكت أمى أذنى: وقالت عيب أنك تطردى صديقتك. أنا هابعت لكم الغدا وأعملوا الواجب ثم العبوا، فى المساء وعندما مشيت زينب وكنت على وشك النوم لم أستطع أن أمنع نفسى من المقارنة بين مولانا والضفدعة ولكننى استغفرت ربنا بسرعة وقرأت المعوذتين.

لم تكن زينب وحدها التى تسخر أحيانا من مولانا، أخى الكبير أيضا لم يكن يحبه ولا يصدقه ولكنه لم يكن يجرؤ على المجاهرة برأيه أمام أبى وعائلته، كان أخى يقول فى غياب أبى: الشيخ ده كل شوية يتزوج بنت صغيرة ويطلقها حرام، فترد أمى: أبوك لو سمعك هيخلى عيشتك طين، ولكن أخى الأكبر كان يثور كلما أعطى أبى أموالا كثيرة لمولانا، كل زكاتنا وصدقاتنا تذهب إلى مولانا، بالإضافة إلى نفحة سنوية من أرباح أبى لا تقل عن 10%، يسأل أخى مستنكرا: هو شريكنا ولا إيه؟ لا يرد أحد على سؤاله وهو نفسه يعلم أنه سؤال بلا إجابة.

مرة تجرأ أخى الأكبر وسأل أبى: مش أحسن يا بابا نطلع الزكاة والصدقة لأهلنا فى الصعيد حالهم يصعب على الكافر والأقربون أولى، فرد أبى: دا عهد بينى وبين مولانا، ومع ذلك صار أبى يعطى شقيقى الأكبر مبلغا سنويا لتوزيعه على أهلنا فى الصعيد، وبضغط من أمى أصبح أبى يتكفل شهريا بعدد من الأسر وعدد آخر من العمليات الجراحية لهم، كنا نتصور أن أبى فعل ذلك عن قناعة، ولكننا اكتشفنا أن أمى فكرت فى ترشح أخى الأكبر فى دائرتنا فى الصعيد ويصبح نائباً قد الدنيا، رفض أبى الفكرة: مالنا ومال السياسة، ولكن عندما عرضت أمى الفكرة على مولانا وقف معاها، وقال لأبى: يا حاج عزت المسلم القوى خير من المسلم الضعيف، فخضع أبى لمشيئة مولانا. زادت أمى من معونات الصعيد من مالها الخاص، وتكفلت بتجديد مستشفى المركز وبناء مدرسة، وبالطبع ترميم كل مساجد المركز.أصبحنا نذهب للصعيد من حين إلى لآخر، ويجلس أبى وإخواتى فى المضيفة التى أعيد بناؤها على طراز عربى وأصبحت جاهزة لاستقبال العشرات من الضيوف.

لم يعجب هذا الهجوم القاهرى نائب الدائرة التى اشتم رائحة المنافس، فراح يحرض إمام المسجد وكان له مريدون على أبى، وفجأة انتشرت منشورات مجهولة تشير إلى أن أبى منافق وزوجته أجنبية كافرة وتشرب الخمر، حزن أبى وشكى لمولانا، فقال له: لا تحزن سأتصرف، فى زيارتنا التالية للصعيد والتى كانت بناء على أوامر مولانا لأبى فوجئنا بتغير الحال، كان شيخ الجامع فى انتظارنا ومعه مجموعة من مريديه يرتدون جلابيب قصيرة ولهم لحى كبيرة مثل مولانا، ورحبوا بأبى وأخواتى ترحيبا حارا واعتذروا عما فعل السفهاء منهم.

هذه الحادثة أكدت عندى أن كلمة مولانا مسموعة فى مصر كلها، وأنه يحبنا خاصة أنه غضب غضبا شديدا لما قيل عن أمى.

ولكن رغم ذلك أصر أخى الأكبر على رأيه، خاصة عندما أرسل أبى لمولانا عقب عودتنا من الصعيد هدية كبيرة من سبائك الذهب، والنبى قبل الهدية.

بدأ موقف أخى الكاره لمولانا يتشكل منذ كان صغيرا، عندما حكت له عماتى عن موقف مولانا من بناء أبى لمسجد كبير فى الدور الأرضى من عمارتنا، كان أبى قد رأى رؤية فى منامه أنه يبنى الدور الأرضى كله مسجدا، على اليمين المسجد وعلى الشمال مركز دينى، وأفزعت هذه الفكرة أمى لأنها كانت تفكر فى استغلال الدور الأرضى بشكل تجارى.كانت أمى متأكدة أن عماتى وضرتها يسخنان أبى فى هذا الأمر نكاية فيها، عندما عرض أبى الخلاف على مولانا وأكد أنها رؤية، وقال: رؤية يا مولانا، أطرق مولانا برهة ثم سأل أبى: هل توضأت وصليت بين كل حلم وآخر، فرد أبى لا، فقال مولانا: إذن هذه ليست رؤية فالرؤية لها شروطها، وأعلم يا حاج عزت أن الله أمرنا بأن نعمر الأرض مثلما أمرنا أن نعمر بيوته، وأنك تجزى إن شاء الله فى الحالتين، فلا بأس من أن تبنى مسجدا على جزء من الدور الأرضى.لم ينطق أبى، ولم تكتف أمى بذلك، بل أصرت على أن يكون باب المسجد على الشارع الجانبى حتى لا يشوه المصلون من الأحياء الشعبية منظر العمارة.

عندما سمعت أمى هذه القصة من أخى غضبت وسألته: وأنت عرفت منين الكلام ده دا أنت مولود هنا..هم عماتك مش هيبطلوا يجيبوا فى سيرتى، اعتذر أخى لأمى وقال لها: يا ماما أنا لا أقصد أزعلك بس إزاى شيخ ويرفض بناء مسجد كبير ومركز إسلامى، لم ترد أمى على أخى وغادرت الغرفة، فقال له أخى الأوسط: يا غبى أنت مش عارف أن عماتك وقريبنا بيلسنوا على ماما ويقول إن مولانا لا يرفض لها كلمة ولا يرد لها طلبا.. أجاب أخى الأكبر ولكن بصوت منخفض: ودا كلام صحيح عمرك شفت شيخ وسلفى يوافق على اللى الحاجات اللى فى جناح ماما الخاص.

ليس لأمى جناح نوم خاص، ولكن لها غرفة كبيرة تدخلها من غرفة نومها ولها باب آخر، فى الغرفة بيانو لتعزف عليه أمى أحيانا، ومكتبة صغيرة أكثر كتبها روايات بالفرنسية والإنجليزية، وجهاز تسجيل استبدلته أمى بكمبيوتر لسماع الأغانى.، ثومة وعبدالوهاب والفرنسية إيديت بياف.

كانت صديقات أمى يجلسن فى هذا الجناح فى الزيارات، ولكن أمى تختلى بنفسها كل يوم ساعة أو أكثر فى هذا الجناح، وتخرج منتعشة وكأنها نامت عشر ساعات، لم نسمع أبى يعترض مرة واحدة على البيانو ولا الروايات، وحتى عندما أصرت أمى أن أتعلم العزف على البيانو لم تستشر أبى لأن تربية الأولاد من اختصاصها طبعا لبنود اتفاقية الزواج.

كان أخى الأصغر لا يظهر موقفا معينا من مولانا، بل كان يتجاهل وجوده إلا عندما يطلبنا أبى للقاء مولانا وتقبيل يديه، ومرة تسلل أخى الأصغر معى إلى القاعة، ورغم صغر المخبأ فقد اتسع لنا. رأينا أبى ومولانا لوحدهما ومعاهما شنط جلدية بها رزم أموال ولكنها لم تكن جنيهات، كنت أعرف الدولار، ولكن كان أمامها رزم أخرى بعضها ملون بأزرق أو برتقالى خفيف من طرفه، وعلى الورقة صورة امرأة شعرها قصير وترتدى تاجاً وتبتسم بالعافية، كدت اسأل أخى، ولكننى خفت أن ينبه الصوت أبى أو مولانا لوجودنا، كان أبى يشتكى لمولانا أن الحاج مصطفى يرسل له ورقاً صغيراً دولارات، فقال مولانا بحزم: لا، رجع له الورق الصغير الاتفاق على الورق الكبير، لم أفهم شيئاً، وغادرنا أنا وأخى مخبأنا، فى غرفة المعيشة سألت أخى عن الست اللى بتبتسم بالعافية، فقال: يا جاهلة دى ملكة بريطانيا صورها على كل فئات عملة الإسترلينى.قلت له: طيب تعرف يعنى إيه ورق صغير وورق كبير، فسكت برهة، وقال: بصراحة لأ بس أظن كده إن الورق الكبير هو ورقة الـ100 دولار، والصغير دا العشرة والعشرين.

حاولت النوم ولكننى كنت مشتتة الفكر.. لماذا رفض مولانا بناء مسجد فى الدور الأرضى للعمارة، ولماذا يوافق أمى على كل ما تقوله.. والأهم لماذا يرفض مولانا وأبى الورق الصغير وهل هما شريكان فى التجارة أم فى الجهاد فى سبيل الله؟ ويعنى إيه الجهاد فى سبيل الله؟ هل وهب مولانا نفسه للدعوة كما يؤمن أبى، أم أنه يعيش عيشة فاخرة ويتزوج كثيرا ويأكل بشراهة ويأخذ أموال أبى ومريديه.. أيهما أصدق أخى الكبير أم أبى؟

من أنت يا مولانا؟