بطرس دانيال يكتب: سحر المحبة
يحثنا السيد المسيح بقوله: «وصيتى هى: أحِبُّوا بَعضكم بعضاً كما أحَببتُكم. ليس لأحَدٍ حُبٌّ أعظم من أن يبذل نفسه فى سبيل أحبَّائِه» (يوحنا 15: 12-13). يُحكى أن طفلةً صغيرة كانت تعبر جسراً مع والدها، وعندما خاف الأب على ابنته من السقوط، قال لها: «امسكِ بيدى جيداً حتى لا تقعِ فى النهر». فقالت له الطفلة: «لا يا أبى العزيز، لن أفعل ذلك، ولكن أمسك أنت بيدى»، وكان هذا الرد عجيباً جعله يسأل وهو فى غاية الدهشة والتعجب: «هل يوجد فرق بين أن تمسكين أنت بيدى أو أمسك أنا بيدكِ؟» أجابت الطفلة بكل ثقةٍ: «نعم هناك فرق كبير، فإذا أمسكتُ أنا بيدك، من المحتمل أن أفقد توازنى وتنفلت يدى فأسقط فى النهر، لكن إذا أمسكتَ أنت بها، فلن تدعها تفلت من يدك أبداً!». نتعلّم الكثير من هذه الأمثولة الرائعة، فكل شخصٍ يُحب حُبّاً صادقاً ويثق فى مَنْ يُحب، يترك له حياته فى طمأنينةٍ، وهذا ما نفعله مع الله عندما نضع جميع أمور حياتنا بين يديه واثقين فيه. مما لا شك فيه أن المحبة فضيلةٌ عظيمة، بل أعظم الفضائل، كما أنها خيرٌ لا يوازيه أى شىء، لأنها تخفف دون سواها كل ما كان عبئاً ثقيلاً بالنسبة لنا، وتسهّل كل ما كان شاقاً وصعباً، وتبدّل مرارة الحياة إلى عذوبة وحلاوة. إذاً المحبة هى تاج جميع الفضائل وأقوى من الخوف، لأن مَنْ يخاف أو يشك فى الآخر، لم يُحب بعد، ولم يعرف معنى وقيمة المحبة، وكل ما يُطلب منّا هو أن نُحب بصدقٍ وبدون رياء، لأن المحبة الحقيقية تطرح الخوف جانباً. فالله نبع المحبة يُحبّنا جميعاً بالرغم من ضعفاتنا وأخطائنا وعدم استحقاقنا، لكن الإنسان يضع حدوداً وشروطاً لمحبته، ويفصل بين مَنْ يستحق المحبة ومن لا يستحقها، كما أنه من الممكن أن يتراجع عن محبة أشخاص كان يحبّهم فى الماضى أكثر من غيرهم. للأسف يغلب على محبتنا التذبذب والتراجع والشروط التى تكون لصالحنا فقط دون مراعاة المحبوب. لكن المحبة الحقيقية سحر يسيطر على عقل الإنسان وكيانه من أجل شخصٍ آخر، إنها لحنٌ عذبٌ، ننصت إليه حتى ننسى كل همومنا وتهدأ نفوسنا ونحيا فى سلام وطمأنينة. إن المحبة لا تموت أبداً، من المؤكد أننا خُذلنا فى حُبّنا وصداقتنا، ولكن كل ما قمنا به بإخلاصٍ فى محبتنا يظل دائماً أبداً، تكفينا أمانة الحُب التى تُعبّر عن معدننا وجوهرنا وشخصيتنا. يقول الشاعر الإيطالى دانتى فى الكوميديا الإلهية: «المحبّة التى تُحرّك الشمس والنجوم»، فبدون الحُب يصير كل ما نفعله ونقوم به، مملاً ومزعجاً، كما أن الأعمال البسيطة التى لا تكلّفنا جهداً أو وقتاً أو مالاً؛ نراها شاقة ومُتعبة، فالأسرة والأصدقاء والدراسة والعمل، بدون حُب يصبحون عبئاً ثقيلاً لا يُحتمل، وواجباً مفروضاً علينا يطاردنا نهاراً وليلاً. ولكن بالحُب يتحوّل كل شىء إلى سعادةٍ وسرور، كما أننا لا نشعر بالوقت أو التعب فى كل ما نقوم به. فالمحبة الحقيقية لا تضع مقاييس المكسب والخسارة مع من تُحب، ومن يفكر خلاف ذلك، لن يستطيع أن يُحب حقاً، لأن المحبة هى الجوهرة الوحيدة التى تزداد قيمتها بالقسمة والتوزيع. خلاف ذلك تحتاج المحبة الحقيقية إلى الوقت لتصل لمرحلة النضج يوماً بعد يوم، فالوقت يُعطى الفرصة لآفاق أوسع وثراءٍ أعظم فى العلاقة بين المحبِّين. كم من الصداقات والزيجات كان مصيرها الفشل والصراع والانتهاء، لأنها بُنيت على أساسٍ هش؟! لكن المحبة الحقيقية التى تُعطى أهمية للوقت، تنضج وتتغيّر للأفضل، لأن هذا لا يتم فى أيام قليلة أو أسابيع أو شهور. للأسف نحن نعيش فى عالم السرعة حتى فى الحُب الذى لا نعطيه وقتاً كافياً للتعرّف على الآخر، ونقبله بما هو عليه. كما أن البعض يثقون فى لقاءٍ عابر، أو حوار سطحى، أو لحظات خاطفة، معتبرين أن هذا يصل بهم إلى مرحلة الكمال فى الحُب. لكن المحبّة الحقيقية لا تقف عند حدّ، ولا تشعر بثقل، ولا تبالى بتعب؛ بل تقوم بأشياء تفوق طاقتها. فالذى يُحب حقاً يباشر أعمالاً يعجز عن القيام بها من كان خالياً من المحبة. إذاً يجب أن نتخلّى عن حُب التملك، ونتحلّى بنعمة العطاء، كما أن المحبة الحقيقية الصادقة لا تفتش مطلقاً عن عيوب الغير، بل تحاول سترها. ونختم بكلمات الشاعر أحمد رامى: «الحُب كشجرة ورد كلما ذبلت زهرة انبثق برعم».