د. نصار عبدالله يكتب: فى ذكرى مولد محفوظ

مقالات الرأي




كانت مفاجأة لى عندما زرت كولومبيا عام 2000 ممثلا لمصر فى المؤتمر العالمى للشعر الذى يعقد فى كل عام فى الاستاد الرياضى لمدينة مديلين، كانت مفاجأة بالنسبة لى أن أكتشف أن كل من التقيت بهم من شعراء وكتاب أمريكا اللاتينية لا يعرفون شيئا عن مصر سوى أنها البلد الذى أنجب جمال عبدالناصر ونجيب محفوظ !!، وكلهم تقريبا قد قرأوا جميع أعمال محفوظ المترجمة إلى اللغة الإسبانية، أما الذين يجيدون منهم لغات أخرى غير الإسبانية ( غالبا :الفرنسية أوالإنجليزية) فقد قرأوا منها بتلك اللغات مالم يقدر لهم أن يقرأوه بالإسبانية...، وكلما عرف أحدهم أننى من مصر فإن السؤال الذى كانوا يوجهونه إلىَّ هو : هل قدر لك يوما أن تلتقى بمحفوظ؟ وما هو شعورك عندما التقيت بهذا الكاتب العظيم؟ وعندما كنت أجيبهم بأننى ألتقى به أسبوعيا لأنه يعقد جلسة مفتوحة فى كازينو قصر النيل يلتقى فيها بأصدقائه وبكل من يرغب من قرائه كانت تعتريهم الدهشة البالغة لهذا المسلك الذى لم يعهدوه فى كاتب بحجم نجيب محفوظ، وكان الكثيرون منهم عندئذ، ومن غيرهم أيضا يسارعون بتحرير رسائل منهم يعربون فيها عن إعجابهم بفنه الروائى العبقرى ويطلبون منى أن أحملها له شخصيا لدى عودتى إلى القاهرة مقرونة بتحياتهم وأمنياتهم له بدوام عطائه الفنى الرفيع، وقد حملتها إليه فعلا فى جلسته وتلوت على مسامعه مختارات منها وهو ما جعله يشعر بالسعادة الغامرة حيث بدا هذا واضحا على ملامح وجهه، ولعل واحدة من أهم تلك الرسائل كانت تلك الرسالة التى كتبتها «عايدة بيراجا» وهى شاعرة من السلفادور تجمع بين كونها شاعرة وكونها مقدمة برامج تليفزيونية فضلا عن كونها أيضا ممثلة مسرحية من ممثلات الصف الأول فى السلفادور، وقد قالت فى رسالتها لمحفوظ إنها شعرت بالزهو وهى تقرأ الثلاثية عندما عرفت أن إحدى الشخصيات الرئيسة فى الرواية تحمل نفس اسمها وهو عايدة!!، وأنها يكفيها فخرا أن اسم «عايدة» قد ورد فى أحد أعمال محفوظ،....الغريب أن أحدا ممن التقيت بهم من أدباء أمريكا اللاتينية لم يكلمنى عن الأهرامات أو أبى الهول ولكنهم كلمونى فقط عن عبدالناصر ونجيب محفوظ، وكأن هذين الاسمين يمثلان فى وجدان مثقفى أمريكا اللاتينية ما تمثله الأهرامات وأبو الهول فى وجدانات بقية شعوب العالم وهو أمر طبيعى فأغلب شعوب تلك القارة تغلى غضبا إزاء محاولات هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية على مقدراتها ومن ثم فقد تحول اسم عبدالناصر إلى رمز للتصدى لمحاولات الهيمنة الأمريكية، وبعبارة أخرى فقد أصبح فى وجداناتهم هو البديل المعاصر لأبى الهول، أما نجيب محفوظ فقد أصبح هوالمعادل الموضوعى للبناء الشامخ الذى لا يبارى، أى أنه ببساطة أصبح هو الهرم المعاصر الذى ينبغى أن يفخر به كل مصرى،...يبقى أن أقول إنه حتى ذلك العام الذى زرت فيه كولومبيا لم أكن يخطر ببالى أن نجيب محفوظ بجلال قدره هو واحد من قرائى إلى أن فاجأنى بعد ذلك بسنوات حوار أجراه معه الكاتب الصحفى سامى كمال الدين منشور فى أحد أعداد مجلة «السياحة» المصرية وهى مجلة تطبع على ورق فاخر (ليس غريبا أن ينشر الحوار مع محفوظ فى مجلة سياحية، فقد أصبح محفوظ كما أوضحنا منذ قليل معلما سياحيا مصريا معاصرا لا يقل روعة عن أهرامها الخالدة)...فى ذلك الحوار وجه سامى كمال الدين وهو صحفى ينتمى إلى محافظة قنا الحافلة بالآثار، وجه إلى نجيب محفوظ السؤال الآتى : من تفضل من كتاب الجنوب؟...ويجيب محفوظ: تابعت يحيى الطاهر عبدالله وأمل دنقل، وهما عظام لا مثيل لهما ولا يتكرران، كما أحب شعر نصار عبدالله، وشعره حلو وهو ينتمى إلى المدرسة العقلانية الجميلة... يالها من شهادة رائعة تجىء من كاتب رائع تفوق فى أهميتها رغم إيجازها كل ما حصلت عليه من شهادات، وتتفوق على كل ما كتب عنى من دراسات، وما أجرى عن أعمالى المتواضعة جدا (خاصة إذا ما قورنت بأعمال العمالقة الكبار) ما أجرى عنها من رسائل للماجستير أو للدكتوراه، وما أكثر تلك الرسائل لكنها ليس لها عندى نفس الوقع الذى تركته جملة واحدة مختصرة، لأن قائلها هو نجيب محفوظ.