د. رشا سمير تكتب: «بنت الخياطة» ونساء فى ذاكرة الحروب
حين تكتب المرأة عن الوجع، تئن الحروف تحت وطأة القلم.. حين تصرخ المرأة تتقهقر الجيوش وتموت الصراعات.. حين ترسم المرأة بريشة الإبداع تنحنى الزهور أمام إجلال الرتوش.. حين تروى الجدة يستمع الأحفاد وينسجون من بين الحكايا عمرا من الذكريات.
فى رواية (بنت الخياطة) الصادرة عن دار هاشيت أنطوان (نوفل) بلبنان، دار النشر المحترمة التى تنتقى أعمالا مهمة ومؤثرة لتكون منفذ وصوت الكثير من الأقلام والأوجاع العربية حول العالم.
فى هذه الرواية تتناول الروائية والحقوقية جمانة حداد فى 252 صفحة من القطع الطويل، أربع شخصيات نسائية، كما تُلقى الضوء على محطات دامية وصراعات موجعة على مدار قرن من الزمان، حيث ترنح الشرق من حرب إلى أُخرى.. بداية من الحرب العالمية الأولى عام 1914، وتليها مذبحتا الأرمن والآشوريين عام 1915، مرورا بالحرب الكونية الثانية 1939 إلى احتلال فلسطين عام 1948، وأخيرا إلى الحرب الأهلية اللبنانية التى أدمت القلوب عام 1976، ووصولا إلى الحرب الأهلية السورية عام 2011.
هنا تؤكد جمانة الكاتبة والمترجمة والصحافية اللبنانية بقلمها الثائر أن الرجال هم من يخوضون الحروب والنساء هن من يخسرن الأهل والأحبة وينكسرن تحت وطأة المعتدى..
1- نساء الوجع
الرواية تحكى ملحمة تاريخية طويلة.. بطلاتها نساء من كل شكل ولون يجمعهن قاسم مشترك..
يحاربن الوجع والظلم والقهر.. على مدار الصفحات تستعرض مآسى المجازر والحروب وما تتعرض له هؤلاء النسوة من تعذيب نفسى واغتصاب جسدى وانتهاك للكرامة تحت وطأة القصف والقتال..
تحاول جمانة حداد لكونها ناشطة حقوقية أن تضع ألف خط تحت حقوق النساء وقضاياهن، بشكل ربما جعل الكلمات ممزوجة بحدة وصراخ جعل بعض النقاد يتهمونها بتعصب أعمى وزائد للنساء، وهو ما أراه محمودا لأنها استطاعت أن تصف بجدارة هذا الجانب الآخر من الحرب غير تلك التى يسقط فيها فقط شهداء من الرجال، ويقتسم فيها المنتصرون الغنائم.
نساءٌ فى حلب، نساءٌ فى عنتاب، نساءٌ فى القدس وفى الشام وفى بيروت.
يبدأ كل فصل من فصول الرواية بورقة من أوراق الكوتشينة، تليها اسم بطلة الحدوتة وصفاتها بحسب ورقة اللعب.. ويليها جزء من قصيدة لشاعرة من نفس جنسية بطلة الفصل.. وهو ما يبدو فى بداية الكتاب مبهما وصعبا فهمه ثم مع تتابع الفصول يتدارك القارئ تيمة التتابع.
على سبيل المثال، بداية فصل «سيرون» يبدأ بمقطع للشاعرة الأرمنيّة «زابل خاندجيان»، وفصل «شيرين» بمقطع للشاعرة اللبنانية «إيتيل عدنان»، وفصل «ميسان» بمقطع للشاعرة الفلسطينيّة «فدوى طوقان»، وفصل «جميلة» بمقطع للشاعرة السوريّة «سنية صالح».
(أنا الأرمنيّة، الفلسطينيّة، اللبنانيّة، السوريّة، أنا الجدّة والأمّ والابنة والحفيدة، أنا الرحم المدوّدة، الدورة التى بدأت بالانتحار، وانتهت بالانتحار.. كم من ميتات بعد عليّ أن أحصى، كم من حيواتٍ عليَّ أن أرثى قبل أن أستحقّ الضوء؟).
2- سيرون الأرمنية
(أنا سيرون الأرمنيّة، وكيلةُ الذلّ فى الصحراء. ليس فى ذاكرتى إلّا أعمارُ التيه والإهانة والانحلال والموت ، ليس فى جسدى إلّا رائحة المنى والمقابر والقيح والدم المتخثّر).
تبدأ الرواية مع «سيرون» الجدّة الكبرى، التى وُلدت فى عنتاب عام 1912، لتشهد وهى طفلة المجازر التى ارتكبها الأتراك بحق الأرمن، شهدت بعينى البراءة مقتل والدها وأخيها، واغتصاب أمّها وأختها، وحمل أمّها بطفلٍ من جندى تركى، وكيف أخذوه عنوةً منها حين وُلد، ليكبر فى تركيا بعيداً عنها.
3- ميسان الفلسطينية
(أنا ميسان الفلسطينيّة، ابنة الأرض المذهّبة بالشمس، صاحبة العين التى تقاوم المخرز، لن أسلّم مفاتيح البيوت، ولن أغلق الشرفات، ولن أغادر، حتى أشهد العودة إلى الأرض).
ميسان البطلة الفلسطينية التى هى رمز لأرض المقاومة، تقف شامخة مثل فلسطين لتروى عنها المأساة، تخفى ميسان أسرارا فى جعبتها، منها سر يتعلق بموت أختها وهى طفلة، ومأساة أخرى أكثر وحشية تتعلق بتعرضها لتحرش جنسى أحدث شرخا فى نفسها، هكذا سكنت المآسى ضلوع ميسان حتى أنهكت قواها.
4- شيرين اللبنانية
(أنا شيرين اللبنانيّة، أشرب خراب لبنان وآلامه، ليعود القمر يزهو فوق جباله، من دون أن يعترى لحمه الأبيض جرحٌ أو هوان).
هنا ترتحل بنا الروائية عبر الحرب الأهلية التى استنزفت جمال لبنان وموارده وتركته خرابا، لبنان قلب الشرق وعروسه، من خلال أبطال وأحداث فقدوا حيواتهم وأحلامهم.
5- جميلة السورية
(أنا جميلة السوريّة، حارسة الوديعة، أرفع دمى فى وجه الليل ليكون جمرةً تحرق يد القاتل. أردموا السماء عليَّ، اجعلونى تحت غيومٍ دائمة، ومدِّدونى فى شرايين الماء لكى أنهمر).
انطلاقا من سطور هى محور القصة وفحواها، يغوص القارئ فى تفاصيل تاريخية ومعلومات تدفع القارئ للبحث عن تلك الأحداث التى ربما لا يعرف الكثيرون عنها.
■ ■ ■
الرواية تصل فى النهاية إلى نقطة مهمة أو خلاصة تؤكد أن الأجيال الجديدة ربما تنسى الجروح المفتوحة والمكائد الطويلة من أجل غد جديد، من أجل حُب يولد أو فجر يلوح فى الأفق البعيد، فالحرب التى ذبحت مشاعر سيرون الجدة وأنهكتها لم تعد سيرون الحفيدة السورية تُبالى بها، فأحلام جيلها اختلفت وإيمانها بالقضايا الإنسانية أصبح له أبعاد أخرى.. وربما كانت القلادة الفولاذية هى الرمز الحقيقى لهذه الفكرة، تلك التى توارثتها أعناق بناتها وحفيداتها، غير مكترثة بالهويات التى تناوبت على بطاقاتهن العرقية وهويتهن..
هذا يذكرنى بالقضية الفلسطينية وحالها اليوم وكيف ضاعت بين جيلين، جيل عاش الصراع وهو رافض للتطبيع مهما كان الثمن، وجيل صغير لا يهمه سوى أن يعيش ويستمتع ويحلم تاركا وراءه الضغائن والقضايا حتى ولو كانت قضايا الأوطان!.
حاولت أن أجيب عن سؤال طاردنى طوال فترة القراءة، وحتى بعد أن قمت بالبحث عن جمانة حداد وسيرتها الذاتية لأتعرف أكثر على قلم لم أعرفه عن قرب.. لماذا اختارت الروائية هذه الفكرة؟ لماذا اختارت هذا الموضوع دون غيره؟ الحروب والنساء والوجع؟
وكانت الإجابة هى ما كتبته الروائية فى نهاية الرواية، حين قررت أن تعرى نفسها أمام القارئ وتحكى بكل فخر عن تاريخ أرغمها على البوح.. وأنا أصفق لها إذ اختارت أن تكتب بصراحة دون خوف من نقد أو تجريح، وعلى ما يبدو لى من خلال تاريخها النضالى أنها سيدة قوية لها صوت واثق، لم تخش يوما أن تتحمس لقضية ما، وعلى الرغم من اختلافى معها فى رأيها بصدد بعض القضايا التى دافعت عنها طويلا إلا أننى أحترم شجاعتها وقلمها وصوتها العالى..
فى نهاية الرواية، كتبت جمانة تحت عنوان (استطراد غير ضروري) ولو أنى أراه ضروريا، تقول:
(كانت جدتى لأمى فى اعداد الناجين من المجزرة الأرمنية، لكن ليس تماما، ثمة مبالغة فى زعم أنها نجت، انتحرت جدتى فى بيروت سنة 1978 وكانت فى السادسة والستين، وكنت أنا فى السابعة، على غرار ضحايا كُثر آخرين، هى قُتلت أيضا ولكن مع تأخير تقنى، لقد زرع المجرمون قنبلة موقوتة داخل قلبها وروحها فى ذلك اليوم اللعين، ثم انفجرت القنبلة بعد عقود).
6- سلاما على لبنان
الحقيقة أن أسلوب جومانة حداد يتسم بالسلاسة والنعومة فى التعبير عن التفاصيل الصغيرة قبل الكبيرة وما يجىء على لسان الأبطال من أحداث ومعلومات..
الراوى العليم هو الصوت الأعلى فى الرواية، إلا أن الكاتبة طرحت تجربة متفردة فى ترك مساحة لأبطالها للروى والحديث عن أنفسهم، مما جعل أصوات البطلات يتداخل ويضيف فى السرد مع صوت الراوى العليم بطريقة متفردة.
لغة السرد لغة ناعمة وهادرة فى آن واحد.. جمانة روائية تمتلك زمام المفردات واللغة بين أصابعها وتطوعها بسلاسة وبلاغة..
من قلبى سلام للبنان ولمبدعيه ومثقفيه، الحقيقة أن الأقلام اللبنانية أقلام تستحق القراءة لأن لديها المختلف لتقوله.. هكذا تعودنا من لبنان الوطن الذى حمل أبناؤه الجراح فى نفوسهم طويلا واستطاعوا أن ينقلوها على الورق ببراعة لتنتقل إلينا فى صورة رائعة.
تحية تقدير للروائية جمانة مراد التى أدخلتنى فى عالم مختلف وحقيقى، وتحية لدار هاشيت أنطوان على انتقاء أعمال تستحق النشر.