عادل حمودة يكتب: حكاية مدرسة وخمس أرامل فى الفيوم!

مقالات الرأي



الرئيس يطالب باحترام القانون وكبار رجال التعليم يضربون بالأحكام النهائية عرض الحائط

رئيس الهيئة يعرض إعادة 40% من المساحة للورثة ووضع يده على الباقى

مدرسة بنيت منذ 92 سنة لم يبق منها سوى 9 فصول تهدد حياة التلاميذ وتهدّم سورها وبلا دورة مياه وهيئة الأبنية التعليمية تسعى للاستيلاء عليها بحجة المنفعة العامة 

مساحة تزيد على 1110 أمتار تقدر الوزارة ثمنها بــ 4 ملايين جنيه

هل تناسب مدرسة عمرها 92 سنة مواصفات الوزير فى تغيير العملية التعليمية بالإنترنت؟

لم تكن العلاقة بيننا سمنًا على عسل بل كانت حربًا على ملل.

لكن أشهد أن الدكتور كمال الجنزورى وهو رئيس وزراء وقف إلى جانب الحق فى القضية التى تناولتها بحدة فى «روز اليوسف» يوم 27 يناير 1997.

طالبت الحكومة بأن تتوقف عن تفريخ الكلمات والبيانات مادامت غير قادرة على تنفيذ ما تطرحه من شعارات.

«لقد أصابتنا الحكومة بصداع مزمن من كثرة الكلام عن قانون جديد للإيجارات، وشقت رأسنا بسيف الحديث عن العدالة المفقودة فى إيرادات المبانى والمساكن، حيث أصبح ملاكها فقراء لكن هذا الكلام الذى يوجع القلب سرعان ما يصبح مثل دموع تماسيح عندما تصبح الحكومة هى المستأجر».

والواقعة التى تناولتها فى الفيوم وأبطالها خمس أرامل هن ورثة الدكتور أحمد رشيد الذى كان عضوا فى مجلس الشيوخ ونقيب أطباء الفيوم ورئيس جمعية الهلال الأحمر وكان أيضا أول من أدخل التعليم الثانوى للبنات فى الفيوم (عام 1936) وكان ينفق على جمعيات تحفيظ القرآن والإسعاف ويتولى رعاية الأديرة القريبة من الفيوم.

ترك الدكتور أحمد رشيد ثروة من العقارات لبناته الخمس لكن تلك الثروة التى تقدر بعشرات الملايين مؤممة بعقود إيجار أبدية لجهات حكومية.. هناك مدرسة تستأجرها وزارة التربية والتعليم مقابل 31 جنيهًا فى الشهر، وهناك مدرسة أخرى لا تدفع فيها أكثر من 8 جنيهات فى الشهر، وهناك عقارات أخرى ترفع ما يحصل عليه الورثة شهريا إلى 111 جنيها نصيب كل أرملة منهن 22 جنيها لا تكفى لشراء دواء واحد من الأدوية الضرورية لعلاج أمراض ما بعد السبعين.

وبالقطع ليست هذه الحالة هى الحالة الوحيدة من نوعها.. هناك فى الواقع عشرات وربما مئات الحالات المشابهة لمواطنين أثرياء مع وقف التنفيذ.. مليونيرات لا يجدون ثمن العيش الحاف.

إن أثرياء زمان كانوا لا يستطيعون العيش فى مجتمع لا يقدرون على تطويره ولو ضحوا بمكاسب مادية، وهو ما جعل الدكتور أحمد رشيد يفعل ما فعل ولكنه لم يتصور أنه سيحدث لبناته ما حدث.

وما إن نشر المقال حتى فوجئت بالدكتور كمال الجنزورى يتصل بى تليفونيا مؤكدا أنه تأثر مما قرأ وأنه سوف يبادر بحل المشكلة بنفسه رغم أعبائه الكثيرة.

وأرسل لى خطابا جاء فيه على لسانه: «أن الحكومة يجب أن تكون قدوة فى تنفيذ القانون وأنها لا تستمر إلا برضاء الناس عنها وأن الموظف العام هو خادم الشعب وليس سيدا ولا مسيطرا عليه».

وأصدر الرجل بصفته العليا قرارا يعيد العقارات التى تستأجرها الحكومة إلى أصحابها لو شيدت الحكومة مبنى بديلًا عن المستأجر أو لو تهدم المبنى ولم يعد صالحا لتقديم الخدمة المكلف بها.

نشر القرار فى الجريدة الرسمية ونالت الحكومة وقتها استحسانًا شعبيًا لم يتصوره رئيسها على حد اعترافه علنًا.

تصورت أن مشكلة الأرامل الخمس حلت واستفدن من القرار وعاد إليهن ما ورثن من عقارات كانت مؤجرة للحكومة.

ولكن بعد نحو 23 سنة فوجئت بأن مشكلة ورثة الدكتور أحمد رشيد لم تحل تماما.. توفيت الأرامل الخمس ونجون من متاعب الحياة وتركنها للورثة الأكثر عددا والأقل حظا.

فى يوم 11 يناير 1948 أجر الدكتور أحمد رشيد لوزارة التربية والتعليم العقار رقم (3) فى الشارع الذى يحمل اسمه فى الفيوم ليصبح مدرسة عمرها يزيد على 92 سنة.

تعرض المبنى بسبب القدم إلى انهيارات متتالية ولم يبق من أدواره الأربعة سوى الدور الأرضى وتهدم السور المبنى بالطوب ودورات المياه وانكمشت المدرسة إلى 9 فصول بعد أن كانت 40 فصلا.

وصدرت ثلاثة قرارات إزالة للمبنى: القرار رقم 370 لسنة 1973 والقرار رقم 404 لسنة 1977 والقرار رقم 17 لسنة 2000 وحسب القانون فإن هلاك العين أزال الرابطة الإيجارية وأصبح فسخ العقد إجباريا لعدم وفاء المبنى بالغرض المستأجر له، كما أنه أصبح خطرا على حياة التلاميذ.

فى جلسة 8 يونيو 2004 أقرت لجنة فض المنازعات التابعة لوزارة العدل فى الفيوم بفسخ عقد الإيجار وتسليم المبنى للورثة.

لكن مديرية التعليم فى الفيوم لم تقبل بالقرار ونجحت فى إقناع رئيس الحكومة (الدكتور أحمد نظيف) بإصدار قرار يوم 9 نوفمبر 2008 (رقم 2966) ينزع ملكية مبنى مدرسة النقراشى الابتدائية للمنفعة العامة بدعوى أن بها كثافة طلابية عالية (!!) ولا يوجد بديل.

كان القرار لافتًا للنظر لصدوره من رئيس حكومة يؤمن بالخصخصة ويطالب برفع وصاية الحكومة على القطاع الخاص.

واجه الورثة القرار فى المحكمة الإدارية دائرة الفيوم (أرقام 1738 / 9 ق و2182 / 9 ق) مطالبين بإلغائه وتسليم العقار إليهم.

بتاريخ 29 مايو 2012 قضت الدائرة باعتبار قرار رئيس الحكومة كأن لم يكن.

وطعنت وزارة التربية والتعليم (أرقام 26434 / 58 ق و26782 / 58 ق) أمام الدائرة (11) فى المحكمة الإدارية العليا وانتهى تقرير مفوضى الدائرة بقبول الطعن شكلا وفى الموضوع الرفض وإلزام الطاعنين بالمصاريف وتأييد الحكم بإلغاء قرار رئيس مجلس الوزراء بالاستيلاء على المدرسة وما يترتب عليه من آثار.

فى خلال تلك الفترة سارعت جهات حكومية فى إجراءات نزع الملكية، وقدرت 4 آلاف جنية عن المتر، وكذلك ما تبقى من منشآت المدرسة ومساحتها 1110.4 متر مربع أى 4 ملايين جنيه (أقل من ثمن شقة متوسطة) علمًا بأن المدرسة مقامة على أكبر شارع فى الفيوم وعرضه 50 مترًا.

طعن الملاك فى القيمة المقررة ورفعوا 3 قضايا أحيلت إلى لجنة الخبراء بناء على طلبهم وأوقفت محكمة الفيوم نظر قضايا التعويض لحين فصل المحكمة الإدارية العليا فى طعنى الوزارة.

وقضت المحكمة الإدارية العليا بإلغاء قرار رئيس الحكومة بالاستيلاء على المدرسة للمنفعة العامة وما ترتب عليه من آثار.

وحاول الملاك التفاوض مع مدير هيئة الأبنية التعليمية فى القاهرة لتسليم المدرسة إليهم بناء على هلاكها وحكم المحكمة الإدارية العليا، فطلب منهم التنازل عن 60% من مساحة المدرسة على أن يسلمهم باقى المساحة، وأيدت هيئة الأبنية التعليمية فى الفيوم الاقتراح.

ولا تزال هذه الدراما البيروقراطية مستمرة رغم ما فيها من أمور تسبب الغم قبل أن تثير السخرية.

مدرسة بلا دورة مياه صحية وليس لها سوى سور من الخشب وتهدم معظم مبناها ولم يبق فيها سوى 9 فصول وحياة التلاميذ فيها معرضة للخطر والموت تحت أنقاضها وكثير منهم يسجل غيابا مستمرا، ويصعب على المعلمين تأدية رسالتهم وهم يشعرون بأنهم فى مكان غير آدمى، وهيئة تعليمية تعرض الاستيلاء على 60% من المساحة دون مبرر وإلا سعت إلى نزع الملكية بدعوى المنفعة العامة رغم أنها ليست حالة من الحالات الواجبة والضرورية لنزع الملكية.

والأهم أنه فى الوقت الذى يعلن فيه الرئيس احترامه لمبدأ سيادة القانون فإن فى وزارة التربية والتعليم ــ الوزارة المكلفة بتربية التلاميذ على احترام القانون والخضوع له ــ من يرفض تنفيذ القانون ويتجاهل أحكام المحكمة الإدارية العليا ويتحايل عليها بحجة المنفعة العامة.

والأخطر من ذلك أن حالة المدرسة (الخرابة) لا تتناسب مع خطة الوزير طارق شوقى لتطوير العملية التعليمية مستخدما وسائل التكنولوجيا الحديثة (الكمبيوتر والآى باد والواى فاى) فهل تتوافر فى مدرسة تستخدم دورة مياه خشبية شبكة الإنترنت الضرورية؟

وأتصور أن الوزير لا يعرف بتلك الحالة المثيرة لكثير من علامات الاستفهام: لم لا يحترم موظفوه الكبار أحكام القانون النهائية؟ ألا يعلم أنه مهدد بالحبس لو لم تنفذ؟ ولم كل هذا القتال من جانب وزارته على تسعة فصول قابلة للانهيار؟ هل يساوى الجهود المبذولة من المديرين والموظفين والمحامين والمال المبدد على القضايا التى لا تنتهى كل ما سيحصلون عليه لو كسبوا فى النهاية؟

وبينما تتعامل الجهات الحكومية مع أصحاب العقارات التى تستأجرها منذ عشرات السنين بتعنت نجدها مؤيدة لرفع إيجارات المساكن القديمة لصالح ملاكها لعلها تعوضهم عن ظلم يشعرون به.

أليس على الحكومة ــ المثل الأعلى - أن تبدأ بنفسها؟

إن إعادة الحق للأرامل الخمس أو لورثتهن فى هذه القضية الإنسانية ستكون بداية حكومية جديدة لإعادة النظر فى الحالات المتشابهة تنفيذا لشعار سيادة القانون الذى يؤيده ويسانده ويدعمه ويصر عليه الرئيس نفسه.