بطرس دانيال يكتب: أتحبنى؟
ما أجمل وأعمق كلمات القديس بولس الرسول عندما ينصح قائلاً: «لا تَدَعِ الشَّرَّ يَقهَرْكَ، بل كُنْ بالخيرِ للشرِّ قاهِراً» (رومية 21:12). نحن نعيش فى عالمٍ مشحون بالخصام والتوتر ورفض كل مَنْ يختلف معنا سواء فى الدين أو المعتقد أو اللون أو الجنس أو الفكر أو الذوق وغير ذلك. مَن منّا لا يعرف المهاتما غاندى رجل السلام العظيم، والذى صنع مجد وعظمة الهند واستقلالها، ورسول اللا عنف والحُب والتعاطف؟ كان يحكى فى مذكراته اليومية عن موقفٍ حدث معه فى الطفولة وقد آلمه كثيراً، وهو الحوار والنقاش الذى دار بينه وبين أمّه وكان مضمونه التالي: «تجنّب يا بُنى، هذا المنبوذ ولا تلمسه!» – «ولكن، لماذا يا أمى الحبيبة؟ هل ارتكب ذنباً، هل كذب على أحدٍ؟». –«كلاّ يا بُنيّ!» – «إذاً، هل سرق أو اختلس ممتلكات غيره؟» - «لا، بل هو رجل نبيل العاطفة، ذو خُلق عالية». – «إذاً، ما معنى أمركِ لى بأن أتجنّبه؟!» – «إن دين الهندوس ينهانا عن لمس المنبوذين». لكن الصبى غاندى لم يقتنع بمنطق أمه هذا، وقد لاحظ أن أطفال المنبوذين، ودعاء ومخلصون، فما معنى تجنّب الهندوس لهم وازدرائهم بدون سبب معقول؟ لذلك قرر الصبى غاندى فى يوم من الأيام ودون علم الأسرة، أن يتقابل مع أحد أطفال المنبوذين حسب معتقد الهندوس، فدنا منه وأمسك بيده بكل لطفٍ، ثم رفعها إلى فمه وقام بتقبيلها، ثم عاد إلى المنزل فى قمّة السعادة، وكان يشعر فى دخيلة نفسه بأنه قام بعملٍ عظيم، لا يقلّ أهمية عن أعمال أولئك القديسين الذين كانت تتحدث أمّه عن كفاحهم المجيد ضد قوى الشر، وكان يتمنّى أن يصبح على مثالهم. ومما لا شك فيه أن تصرّف غاندى هذا نحو المنبوذين، غمره ببركاتٍ ونِعم السماء، حتى أنه نال مكافأة عظيمة وهى حُب واحترام العالم كلّه له. فالإنسان النبيل هو الذى يعتبر جميع الناس أخوةً له ويقبلهم على اختلافهم عنه وعلى علّاتهم والأخذ بيدهم للنهوض بهم، واحترامهم فى كل حين. وكل مَنْ يحترم الآخر، سينال احترام وحُب الجميع، وإن قام أحد الأشخاص بإهانته أو إيذائه؛ فلا يعاديه ولا يكرهه؛ بل يحبّه. فالإنسان المهذّب والكريم الأصل، يغضى عن الإهانة، لا لعجزٍ منه، بل رحابة صدر وسموّ، بينما غير المهذّب يرد الإهانة أضعافاً مضاعفة، وفى هذه الحالة نستطيع التمييز بكل وضوح بين المؤدب وغير ذلك لأنه ليس كالحِلم، والصفح والملاطفة لإطفاء الحقد فى القلوب والنفوس، والقضاء على العداوة وقلب العدو إلى صديق مُحب مخلص. جميعنا يعلم بأن البغض لا يلحق الضرر بالغير فقط، إذ يجعل منه هدفاً لأحكامنا الزائفة بحقّه، وتشويه سمعته، وتحاملنا عليه، حتى يصل بنا الحال للانتقام منه، ولكن إذا تملّك البغض منّا وعشش فى قلوبنا، يصبح أيضاً وكأنه سرطان ينهش فينا كل العواطف والأحاسيس الإنسانية، كما أنه يشوّه شخصيتنا الحقيقية ويغيّر من تصرفاتنا، لأنه يختمها بختم الكراهية والحقد والبغض والشماتة، وتكون النتيجة المحتومة ألا وهى إفساد حياتنا وحرماننا من السعادة ولذة الحياة الهانئة السالمة. وكما يقول المفكر الشهير La Bruyère: «إن لم تكن على استعداد لاحتمال كل الطباع الفظة التى تملأ العالم، فأنت نفسك لست رضىّ الأخلاق، أو تحتاج إلى دروس فى التهذيب». فكل شخصٍ ينبض قلبه بعواطف النبل وسمو الأخلاق والتعالى عن الصغائر، يهتم برسالته الإنسانية، واضعاً كل همّه وتفكيره فيها، حتى أنه لا يجد متسعاً من الوقت للاهتمام بحقدٍ أو خصومة أو إهانة أو ثأر من الآخرين. إذاً لا يستطيع أحدٌ أن ينكر بأن محبة الناس شرط لابد منه، شئنا أم أبينا، لنوال بركة الله ورضى المجتمع، والمحبة المطلوبة هى المحبة الصادقة فقط، وكما يعلّمنا السيد المسيح قائلاً: «فإن أحبَبتُم مَنْ يُحِبّكُم، فأيُّ فَضْلٍ لكم؟ لأن الخاطئين أنفُسَهم يُحبُّون مَنْ يُحبُّهم (لوقا 32:6). فلا يوجد سلاح أمضى من سلاح المحبة، أى مقاومة الشر بالخير، ومقابلة الإساءة بالصفح، والامتناع عن إيذاء الآخرين. فالمحبة أقوى من البغض، واللين أصلب متانة من العنف. إذاً محبة الغير وصية صعبة ومُلْزمة، ولا يكفى الإقرار بالإساءة التى ألحقناها بهم؛ بل يجب التعويض والمصالحة. كما يجب علينا ألا نتخذ تصرّف الغير، قاعدة لسلوكنا معه، فنقابل الحسنة بمثلها، ونُكيل الصاع صاعين للإساءة. جميعنا ملتزمون بحُب الناس، لأننا بحاجة إلى محبتهم، فالمحبة تجعل الحياة أسهل وأحلى وأهنأ. ونختم بكلمات أمير الشعراء: «خُلقتَ كأننى عيسى، حرامٌ على قلبى الضغينة والشماتُ».