بطرس دانيال يكتب: ليتنى طفل!

مقالات الرأي




يقول السيد المسيح: «الحقَّ أقولُ لكم: إن لم تَرجعوا فتصيروا مثل الأطفال، لا تدخُلوا ملكوت السماوات» (متى 3:18). مما لا شك فيه أننا جميعاً تابعنا بمرارةٍ فى الفترة الماضية تكرار الانتهاكات ضد الأطفال سواء بالقتل أو الاغتصاب أو السرقة أو الضرب المُبرح أو استخدامهم فى التسوّل، ولكن ما يحزننا ويؤلمنا أن معظم هذه الحالات تصدر من الوالدين أو المربيين. وإذا علم هؤلاء معنى براءة الأطفال وحُبّهم الصادق للجميع، لاختلف الأمر. يقول الكاتب Bernanos: «لعبة قيمتها ثلاثة قروش تستطيع أن تملأ قلب الطفل بسعادةٍ لا حَدود لها، بينما الشاب حتى لو امتلك لعبة بمئات الجنيهات، من الممكن أن يقف أمامها غير مبالٍ. لماذا؟ لأنه فقد روح الطفولة». لنتأمل جميعاً طفلاً يلهو على شاطئ البحر وفى يده جاروف ودلو، باذلاً قصارى جهده ليبنى بيتاً على الرمل، ثم تأتى الأمواج وتمحوه، ولكنه يكرر هذا مرات عديدة دون ملل أو كلل أو يأس، حتى أنه لا يفقد سعادته، لأن روح الطفولة متحررة من كل شىء وخلاّقة وتلقائية وبسيطة ومرحة وكلها نشاط وحيوية، ولكنه عندما يكبر تُسيطر عليه أمور الدنيا بكل تعقيداتها، إلى أن يفقد هذه الصفات الحميدة، لذلك يجب على الوالدين أن يزرعا فى أطفالهما دائماً هذه الروح البريئة مهما تقدّم بهم العمر، موضّحين لهم أن هذه الصفات ليست عيباً أن تلازمنا مدى الحياة. فإذا أردنا أن نصبح بسطاء كالأطفال، يجب علينا ألا نتعامل مع الناس بوجهين، أو نتصرف بغموضٍ خوفاً من أن يُفتضح أمرنا، وأن نقاوم الكذب والخداع، وأن نرفض الكبرياء فى حياتنا. ومن العجيب أن الطفل يجد كل شىء فى اللاشىء، بينما الكبير يرى اللاشىء فى كل شىء. وهذا واقع حياتنا، فبالنسبة للطفل تكفيه عصا المِكنسة ليجعل منها حصاناً يمتطيه، وقليل من الرمال ليبنى بها قصراً، أو ورقة ليصنع منها مركبة، ولكن عندما يكبر لا يعجبه العجب حتى لو امتلك قصوراً فخمة، أو سافر لكل أنحاء العالم، وإن حصل على كل ما يرغب فيه، فما السبب؟ لأن أى عمل أو لهو بدون روح لا يساوى شيئاً، ويصير التملك فقراً، والوجود عدماً، والعالم واقعاً بدون أى معنى، لذلك يجب علينا أن نعود لروح الطفولة البريئة التى نرى بها كل شخص جميلاً ومُحبّاً، وكل شىء لذيذاً وعذباً. فالطفل يكفيه حبلاً ليقفز من عليه ويلهو به، تكفيه بعض الأوراق والألوان ليرسم كل ما يدور فى ذهنه من خيال، كما أن الطفل بحاجةٍ إلى ابتسامة صافية بسيطة وليس للحروب والدمار، إنه بحاجةٍ إلى قول الحقيقة لا الكذب والرياء. إذاً الطفل يعيش الحياة بكل تلقائية وبراءة، لنَدَعْه فى عالمه الحر ويختبر بنفسه جوهر الأشياء، نحرره من الخوف ولا نكبّله بقوانين وقواعد كثيرة. ما أجمل هذه الأمنيّة التى تفوّه بها الأب Turoldo: «يارب، أرجع إلىّ صفاء الطفولة، اجعلنى أصير طفلاً يتذوّق حلاوة الأشياء، وطعم الخبز والماء، لأننى مع الوقت فقدتُ المشاعر الأولى، ونجّنى يارب من اللامبالاة». فاللامبالاة تجعلنا سطحيين، أُناساً فاقدى لون وطعم الأشياء، ولا يهتمون بجوهر الأشياء. لا نتعجب عندما نلاحظ وجود انسجام ومحادثات طويلة بين المسنّين والأطفال، لأنهم يتصادقون بسهولة، فى حين أن الشباب والبالغين ينظرون إلى كبار السن نظرة شفقة معتبرين إياهم عبئاً عليهم إن كانوا مرضى، وأحياناً يتهرّبون منهم، كما أنه من الوارد أن يحدث مثل هذا من الأبناء تجاه والديهم الذين تقدّموا فى العمر، لذلك نلاحظ أن معظم المسنّين يلجأون إلى الأطفال ويصادقونهم حتى يجدوا معهم السعادة الحقيقية ويشعرون بآدميتهم. إن الأطفال يتميّزون بالتلقائية ولا يَخْفون الحقيقة، إذاً يجب علينا ألا نستهزئ ببراءتهم وتصرفاتهم التى يقومون بها أمام أعيننا، ولا نعتبر أحاديثهم ساذجة، لأن فى داخلها تكمن الحقيقة بلا رياء أو غش أو خداع. كم من المرات التى وضع فيها الأبناء والديهم فى موقف ٍمحرج، بسبب عبارة صدرت من أفواههم بعفوية، لأنهم يختلفون عن الكبار الذين يُغلّفون بكل عناية كلامهم وأحاديثهم بغطاء النفاق والكذب والمجاملة؟ فالأطفال هم أمانة فى أعناقنا، وقد مَنَح الله الخالق الوالدين هذه النعمة، ليسعيا دائماً فى محبتهم وتربيتهم التربية الصالحة بالمَثَل الصالح أولاً، ثم بالنصائح البنّاءة. إذاً... نطلب من الله أن يمنحنا قلباً وديعاً كالأطفال، وأن يهبنا قلباً كريماً فى عطائه، مرناً للتفاهم، قلباً مُخلصاً وسخيّاً لا ينكر أى جميل قُدّم له، قلباً لا يختزن حقداً أو شراً.