حسن إسميك يكتب: السعودية... قائد إقليمي ورؤية عربية
نقلا عن موقع "إيلاف" الإلكتروني:
كيف لي أن أكتب عن السعودية دون أن تعود بي الذكرى إلى سنوات الطفولة، ودون أن أسترجع في مخيلتي صور مدرسة تحفيظ القرآن الكريم التي كنت طالباً فيها خلال مرحلة التعليم الابتدائية.
واليوم أود أن أسجل هذه الذكرى للتاريخ، وأنا أرى بعض أبناء جلدتي يتناولون السعودية بألسنتهم متناسين ما قدمته وما زالت تقدمه لقضية فلسطين وشعبها وقياداتها، متأسفاً على كل هذا الجحود والنكران، سائلاً بني أرضي: ألم يقل الرحمن في "الرحمن" (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان، فبأي آلاء ربكما تكذبان).
ولست أكتب هنا في معرض الدفاع عن السعودية، فقد قيّض الله لها من أبنائها من يدافع عنها أفضل الدفاع وأحسنه، وهذا ما سمعته ورأيته بأم عيني في مقابلة الأمير بندر بن سلطان على العربية، وهو السياسي المخضرم وحفيد الملك المؤسس للدولة الثالثة، وصاحب الدور المهم في تبني القضايا العربية وعلى رأسها القضية الفلسطينية خلال فترة تعيينه سفير المملكة في واشنطن، فكان السياسي المحنك الذي استطاع التصدي للسياسة الإيرانية وأذنابها في المنطقة العربية، ولا عجب أن تعتبره طهران خطراً على أجنداتها لما له من تأثير على القرار الأمريكي إزاء المنطقة خلال السنوات السابقة.
وللحق أعترف أني دهشت من صراحة الأمير السفير وعفوية حديثه، ودقته وعنايته في اختياره الفاظه وتراكيبه وتعابيره خاصة وأنه أكد أكثر من مرة أنه يريد الوصول بحديثه هذا إلى المواطنين السعوديين ليعرفوا ما قدمته السعودية لأشقائها، حتى لو اضطره الأمر لكشف ما لا يُكشف عادة في دهاليز السياسة. ولكن يبدو أن الوقت قد حان من وجهة نظره لنعرف جميعاً ماذا قدمت السعودية للفلسطينين، وبماذا ردّ بعض قادتهم بالمقابل، إذ يكفي أن يعرف الجميع أن السعودية كانت كلما تقدمت من الفلسطينيين خطوة، ابتعدوا عنها باتجاه إيران وتركيا خطوات، حتى بلغوا درجة في النكران لم تعد تنفع معها رحابة صدر أو مسامحة أخوة.
لقد استطاع الأمير بندر أن يوصف الداء الذي ابتليت به فلسطين أدق توصيف، حين أكد على عدالة قضيتها وسوء وكذب المحامين عنها، الأمر الذي فوّت عشرات الفرص التي لو استفيد منها كما ينبغي لكانت الكفة أميل للفلسطينيين مما هي عليه الآن، ولكن التاريخ لن يهادن أحداً، ولن يتجنى بالظلم إلا على من ظلم نفسه.
وعلى ذمة التاريخ، يكفي أن نتأمل اليوم أين وصلت السعودية، وأين وصلت بالمقابل القضية الفلسطينية، لنحكم بالتالي على ولاة هذه وعلى ولاة تلك، إذ مقابل الخسارات المتتالية التي شهدتها أرض أولى القبلتين في السنوات الأخيرة، نجد أن أرض الحرمين الشريفين قد شهدت تحولات جذرية في أدوارها الإقليمية منذ تولي الملك سلمان مقاليد الحكم مطلع العام 2015، فارضة نفسها كلاعب إقليمي بمرتبة "قائد"، وسعت لتأطير وتوجيه سياسات المنطقة بما يضمن التوازن والاستقرار، مستخدمة بذلك كل ما تفرضه السياسة من أدوات، سواء باللين والقوة الناعمة غالباً،، أو بالحزم وصلابة الموقف أحياناً قليلة، فعالجت كل داء بالمبضع المناسب له، دون أن تسمح للتعفنات السياسية التي انتشرت حولها بالوصول إلى أجزاء الجسد السليم.
يدرك القادة السعوديون اليوم حجم الثقل الجيوسياسي الذي وصلت إليه المملكة، مما يوجب عليهم التقدم بفاعلية حيال القضايا المعلقة في المنطقة والسعي الدؤوب لما يخدم المصالح العربية عامة والسعودية خاصة، وذلك من خلال قيادة المحور العربي لتحقيق التطلعات العربية والمستقبلية، إذ من غير الممكن تحقيق الإنجازات الداخلية فيما النار تشتعل في حقول الجوار، فكان لابد من إعادة الاعتبار إلى القوتين الناعمة منها والخشنة، فكانت "عاصفة الحزم" ضد ميليشيات الحوثيين باليمن، لوضع حدّ لتنامي النفوذ الإيراني في الحديقة الخلفية لدول لخليج، هذا النفوذ الذي أراد ركوب الحصان الحوثي الطروادي، والسيطرة على العمق الإستراتيجي لدول مجلس التعاون والتحكم بمضيق باب المندب ذي الأهمية الفائقة، وإذا كان البعض ينتقد هذه العاصفة وحزمها، فأنا أنتقد تأخر هبوبها، الذي زاد من قوة الحوثيين وتسليحهم، عدا عن الصراع بينهم وبين القاعدة الذي أخذ بعداً عقائدياً هدد من خلاله النسيج الاجتماعي لليمن، ولاشك عندي بأن قرار الحرب قرار صعب وقاس، لكن ما هو الخيار الممكن برأيكم أمام دولة أعلنت أنها متحكمة بأربع عواصم عربية هي: بيروت ودمشق وبغداد وصنعاء! هل الحل بتركها تتمدد إلى العاصمة الخامسة والسادسة والعاشرة؟ رد السعودية كان أن الحرب هي إحدى أدوات السياسة، ولكنها أداة أخيرة عملاً بمبدأ: "آخر العلاج الكي".
مثلت السياسة الحازمة للملكة تجاه اليمن ، ضرورة ماسة للقائد الإقليمي حتى يَسنُد ظهره على مِسند صلب دون أن تنال منه طعنة "جنبية" من فوق حزام أو كلمة مسمومة من تحت "بَطُّولة"، فحماية الظهر في الصراع السعودي-الإيراني أساسية لمواجهة أذنابها وأحزابها المنتشرة في الشمال من بغداد إلى بيروت.
أما على الساحة العراقية الأبعد جغرافياً، فسنجد أن المملكة تسعى لإيجاد توافقات بين القوى العراقية تمنع الإنقسام وتوقف نزيف الدم، مع العمل على ردم الفجوات التي ملأت النسيج العراقي بعد سنوات من فعل معاول التهديم الإيرانية فيه.
أما في لبنان، فلاتزال سياسة المملكة أكثر هدوءاً وتروياً بسبب حساسية البطانة السياسة والاجتماعية والثقافية هناك، خصوصاً مع تنامي التهديد العسكري لحزب الله وغلبة كفته على حساب كفة المواطنة والعيش المشترك، بما يهدد السلم الأهلي والحالة الوجودية لبقية شركاء الوطن.
والموقف من الأزمة السورية فقد بدا اليوم أكثر وضوحاً وجلاء، حيث بدأ تنسيق سعودي-روسي غير مسبوق، مما يشير إلى وضع المملكة ثقلها هناك، سعياً لإبعاد إيران وميليشياتها عن الساحة السورية ولإيقاف الخطر العثماني الجديد الطامع في الأرض العربية وإستعادة أمجاده المسحوقة. والأهم من هذا وذاك سعي المملكة للحد من تفاقم المعاناة على الشعب السوري الذي تجرع مرارة الخوف وغياب الأمن والتهجير.
ورغم ذلك كله، ما زالت السعودية تتعرض إلى العديد من الاتهامات والأقلام المسمومة التي تحاول الطعن في بُعديها العربي والإسلامي، وفي دورها الحضاري والتراثي والثقافي الفاعل والمؤثر. ويكفي دليلاً على ذلك ما لاقته الرياض لعشرات السنين من اتهامات بالسلفية والتكفيرية والتعصب، ثم لما خطى الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده الأمير محمد بن سلمان خطواتهم الواثقة نحو الانفتاح وإعلان عصر سعودي جديد وواعد، عادت الأقلام المسمومة ذاتها لتتناولهما بتهم الخروج عن الدين والشريعة وهدي العقيدة. ومع ذلك فأنا لا أجد غرابة في مثل تلك الاتهامات والأقلام، خاصة وأنَّ لكل منها أهداف وغايات خفية أو مفضوحة، لا تذهب للطعن في ظهر المملكة وحسب، بل وفي عمقنا العربي والإسلامي أيضاً.
ورغم ذلك.. ولأن السعودية ليست دولة منعزلة أو هامشية، ولن ترضَ بتحديد دورها أو الحد من تأثير نفوذها القوي والعادل، فإن فهم سياساتها اليوم يتطلب نظرة بانورامية سريعة على دول عالمنا العربي الذي ننتمي إليه، فمصر ذات الثقل العربي الكبير تخوض حالياً أكبر تحدياتها الاقتصادية وتسعى تحت قيادة الرئيس السيسي أن تشق طريقاً وتضع قدماً على ضفة الأمان الاقتصادي وتدعيم بنيتها التحتية، وهي طريق طويلة رغم حجم الإنجازات، فيما تعيش معظم دول المغرب العربي مرحلة إعادة ترتيب بيوتها الداخلية، عدا عن الصراع الدموي في ليبيا والذي تغذيه مصالح دول الشرق والغرب، فيما تغوص سورية والعراق ولبنان أكثر في مستنقعات أزماتهم التي أثقلت كاهل شعوبهم وملأت قلوبهم إحباطاً.
يترافق هذا المشهد مع أطماع تاريخية إيرانية وتركية تتربص بالعرب شراً، وتنتهز كل فرصة لطعن هذا الجسد الممزق، وعليه فإن الثقل العربي الذي يمكن التعويل عليه والتعلق به، هو ثقل الشراكة الخليجية عالية المستوى والتي تقودها المملكة العربية السعودية بمؤازرة حثيثة من الإمارات العربية المتحدة التي دعمت ريادة الدور السعودي كأخ أكبر مخول لقيادة دفة السفينة العربية وحمايتها من الغرق الأخير، وهو أمر يتطلب منا كمثقفين وسياسيين وأبناء أرومة واحدة أن ندعمه ونشد أزره، فلا نكون كالريح المعاكسة لأشرعتها، وقد علمنا التاريخ أننا أمة واحدة.. نرتفع سوياً أو نسقط سوياً.
أخيراً، لقد كانت المملكة داعماً أساسياً لقضايا العرب عموماً وللقضية الفلسطينية خصوصاً، فسعت دوماً لخلق مبادرات السلام وإنهاء معاناة شعبنا الفلسطيني، وقد تحملت نتيجة مواقفها تلك الكثير من العتب واللوم والمكابرة من بعض الفلسطينيين وبعض العرب، فماذا كانت نتيجة المكابرة سوى استنساخ التغريبة الفلسطينية بأشكال عربية جديدة وأمام محتلين جدد، وهل المطلوب من الرياض أن تسير مغمضة العينين خلف الرؤوس العربية الحامية، وهي تشاهد شتات الشباب العربي في دول اللجوء والمهجر، أم المطلوب منها أن تنتظر أمواج اللطم حتى تغزو شواطئها؟! إن للملكة دوراً عربياً وإسلامياً تضطلع به، لن تغفل عنه ولن تفرط فيه، والمطلوب منها اليوم أكثر من أي وقت مضى هو مواصلة قيادة الدفة العربية وإعادة الشمل العربي، وتعميم رؤية 2030 لتكون رؤية عربية إسلامية لمستقبل يتمناه الشباب العربي المسلم، بدلاً عن تلك الرؤى المشوشة التي لم تجلب علينا سوى الآلام والدمار.
حمى الله السعودية وأهلها وولاة أمرها، وحفظ استقلالها وسيادتها ووحدتها، وليعلم العرب جميعاً أن أي مكروه يصيبها أو شر يحيق بها، سيصيب العرب جميعهم، فيفشلوا وتذهب ريحهم.