منال لاشين تكتب: 50 عامًا على رحيل الجسد (2) | عبد الناصر الزعيم الصعيدي
رفض إذاعة التسجيلات السرية لزوجة النحاس باشا مع سكرتير عام الوفد حرصا على سمعة الزعيم الوفدى
رفض أن تخطب منى ابنته لشاب لأنه اعتبر أن الموافقة على الزواج تعد سرقة لخطيب فتاة أخرى
أوقف علاقة أحد قيادات الثورة بشقيقة الملك فاروق رغم موافقتها وانزعج لتقرير عن علاقة صديقه هيكل بإحدى الملكات السابقات
عبد الناصر لعمه: عايز تفضحنى وتسرق أرض الدولة
الدكتور على الجريتلى هو اقتصادى مصرى بارز ومن أوائل المصريين والعرب الذين عملوا فى المؤسسات الدولية، كان وزيرا فى إحدى حكومات الثورة، ولكنه استقال اعتراضا على الخط الاشتراكى للدولة، إذن هو رجل اختلف مع عبد الناصر اقتصاديا ولم يستفد منه، وهذا وذاك يجعل شهادته غير مجروحة.
حكى الدكتور الجريتلى هذه القصة للكاتب الكبير الراحل أحمد بهاء الدين، بعد موت عبد الناصر، حيث قابل الدكتور الجريتلى أحد كبار المصرفيين السوسريين وقال له إن الأمريكان دوخنا بسببكم، سأله الجريتلى لماذا، فأجاب الرجل: طلبوا منا البحث عن حسابات سرية لجمال عبد الناصر ولم نجد شيئًا، وكان الجريتلى هو رئيس اللجنة التى حققت فى مزاعم الرئيس السادات بأن هناك مليون دولار قد اختفوا فى عهد عبد الناصر، وقال الجريتلى بالحرف للأستاذ بهاء: كنت واثقا من النتيجة فعبد الناصر أكثر كبرياءً من أن يفسد، قالها باللغة الإنجليزية، والمعنى واضح فكبرياء عبد الناصر يمنعه من الفساد أو الخطأ.
وملاحظة الدكتور الجريتلى صحيحة 100% ويمكن أن تضىء مناطق أخرى فى حياة عبد الناصر، أن عبد الناصر هو الرئيس المصرى الوحيد الذى جاء من صعيد مصر، حيث الكبرياء والحفاظ على السمعة جزء لا يتجزأ من شخصية الصعيدى الصالح، والترفع عن الصغائر مع الخصوم سمة من سماتهم، وعبد الناصر لم ينس يوما أخلاق الصعايدة، رغم كل الشائعات الحقيرة التى روجها الإخوان وعملاء الأمريكان عنه، فإن عبد الناصر تعامل بشرف الصعايدة مع الخصوم وبعدالة مع الأصدقاء، لم يقبل أن يجرح خصومه، وبالمثل لم يرض بالسكوت على تجاوزات أقرب المقربين، فى حياة عبد الناصر لم تجد هفوات أو زلات بعض الرجال، هذا الرجل تزوج وأخلص لزوجته لأنه رجل لا يقبل التجاوز الأخلاقى، وبنفس القوة يحمى شرف الآخرين حتى لو وضعتهم الأقدار فى طريقه أو بالأحرى فى مواجهته.
1- زعيمان فى المواجهة
فى الربع ساعة الأولى من عمر ثورة يوليو فتح أعضاء مجلس قيادة الثورة الخزنة السرية للبوليس السياسى، ووجدوا أوراقًا وتسجيلات لعدد من خصوم الملك فاروق، وكان من الأوراق والمستندات تقارير عن بعض بنات وزوجات سياسيين بارزين كانت معدة لاستغلالها فى تشويه صورة هؤلاء السياسيين أو الضغط عليهم، وكان من أبرز وأخطر هذه المستندات مجموعة تسجيلات تخص زعيم الوفد والأمة النحاس باشا، كانت المكالمات بين زوجته زينب الوكيل وسكرتير عام الوفد فى ذلك الوقت فؤاد سراج الدين باشا، وكانت المكالمات كثيرة وتشى بعمق العلاقة بين الزوجة والزعيم الشاب فؤاد سراج الدين، وتظهر المكالمات السرية مدى تغلغل نفوذ زوجة النحاس باشا فى حزب الوفد، ودورها فى تصعيد فؤاد سراج الدين فى الحزب رغم وجود رفاق النحاس وسعد زغلول، والأخطر أنه كان يمكن تأويل المكالمات على نحو يسىء إلى السيدة وزوجها الزعيم النحاس باشا، بالنسبة لأى ثورة وليدة، فإن هذه التسجيلات تعد كنزًا من السماء، ولذلك اقترح بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة إذاعة هذه التسجيلات ليعلم الشعب أن زوجة النحاس كانت تدير الحزب، ولكن عبد الناصر رفض استخدام هذه الهدية، وقال لرفاقه إن النحاس زعيم وطنى رغم كل الأخطاء، ولن نسمح بتشويه صورته، وكان القرار إعدام هذه التسجيلات وغلق هذه الصفحة تماما، ولكن يحلو لبعض أعداء ثورة يوليو وزعيمها أن يشوهوا الحقائق ويتحدثون عن اضطهاد جمال عبد الناصر للنحاس باشا والتنكيل به، وللعلم فإن النحاس باشا قد صدر قرار بتحديد إقامته بمنزله أو بالأحرى قصره، مع تحديد معاش شهرى كبير له، واتحدى أن تجد ثورة فى العالم عاملت قادة السياسة السابقة بمثل هذا الاحترام، لم يسجن النحاس إلا أياما، ولم يعدم أو ينفى خارج البلاد، وهذه هذه الاختيارات الثلاثة التى تعرفها أى ثورة فى العالم، وكانت المشكلة الوحيدة بين الثورة والنحاس هى زوجته زينب الوكيل، فقد كان النحاس طوال عمره رجلا زاهدا، ولم يرزق بأولاد، ولذلك كان المعاش كافيا لحياة كريمة للرجل وزوجته، ولكن زوجته اعتادت على الحياة ببذخ، ولذلك كانت تفتعل الأزمات المالية مع مجلس قيادة الثورة للحصول على أموال إضافية، وزعمت زينب الوكيل أنهما لم يجدا مالا لشراء أدوية النحاس باشا، ولكن ابن شقيقتها أصدر كتابا عن اضطهاد الثورة للنحاس وزوجته، وجاء بالكتاب أن زينب الوكيل وضعت جنيهات ذهبية فى أيدى النحاس باشا عند وفاته، وهى عادة تنم على الثراء وليس الفقر والحاجة، وإذا كان النحاس لم يكن يجد سعر الدواء، فقد كان أولى بزوجته أن تبيع الجنيهات الذهبية لشراء الدواء لزوجها، ولكنها افتراءات على الزعيم جمال عبد الناصر، وبعد وفاة النحاس باشا حاولت زينب الوكيل الهرب إلى أوروبا بحجة العلاج، فرفض مجلس قيادة الثورة سفرها وأمر بعلاجها فى أفضل المستشفيات المصرية،
2- سرقة الخطيب
كرجل صعيدى ذو كبرياء رفض عبد الناصر أن يحقق السعادة لابنته على حساب فتاة أخرى، لم يجد فى الشاب الذى يترك خطيبته من أجل أخرى كبرياء أو شهامة، والحكاية أن ابنة جمال عبد الناصر الصغرى منى تقدم لخطبتها شاب عربى، وكان الشاب من أسرة ثرية جدا وسيوفر لابنة عبد الناصر مستوى معيشة يفوق مستوى أسرتها، وعلم عبد الناصر أن الشاب كان قد خطب فتاة مصرية وتركها من أجل ابنته، فما كان منه إلا أن رفض الشاب، ففى عرف الصعايدة الصالحين تعد قبول هذه الخطوبة بمثابة سرقة، نعم سرقة خطيب فتاة أخرى
3- فضيحة طه
طه لمن لا يعرف هو أحد أعمام الزعيم جمال عبد الناصر، تفتكروا ما هى الفضيحة التى رأى عبد الناصر أن عمه طه تورط فيها، وورط الزعيم معه، الفضيحة التى أشعلت غضب عبد الناصر على عمه الشاب، مثل كل المحافظات كانت هناك أرض طرح البحر فى أسيوط، وقام عدد من المواطنين بالاستيلاء على هذه الأرض، وتوزيعها على أنفسهم، وكان نصيب عم عبد الناصر طه ثلاث أفدنة، وعندما علم محافظ أسيوط فى ذلك الوقت بأن الرئيس عبدالناصر من المستفيدين من أرض طرح البحر أجاز ما فعله المواطنون، وعلم عبد الناصر من مصادره الخاصة بالواقعة، فسافر إلى أسيوط وتشاجر مع عمه واتهمه بأنه فضحه، وأمره بإعادة أرض الدولة، فى هذا الموقف يستخدم عبد الناصر تعبير الفضيحة لأن سرقة أراضى الدولة هى عار إذا انتشر تسبب فى فضيحة سمعة الصعيدى، فعبد الناصر كان شديد الحساسية ليس تجاه الفساد فحسب، بل بكل ما يعلق بسمعته ما يشينه أو يجلب له العار.
4- التزام أخلاقى
لم يقف التزام عبد الناصر الأخلاقى عنده فقط، بل كان يلزم أصدقاءه ورفاقه بنفس معاييره الأخلاقية، رجل صعيدى يحترم زوجته ولا يرضى بها بديلا، وبالمثل لا يجد للزواج مؤسسة بديلة، رفض عبد الناصر علاقة أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة بأميرة من شقيقات فاروق، وكان موقفه حاسما يجب قطع هذه العلاقة، وذلك على الرغم من أن الأميرة كانت موافقة على العلاقة لأنها أرادت أن تستغل نفوذ الرجل لتهريب مجوهراتها وأموال زوجها، وربما يرى البعض أن موقفه كان نابعا من خوفه على سمعة الثورة فقط، ولكن الالتزام الأخلاقى كان مبدأ راسخا عند عبد الناصر، فقد وصل لعبد الناصر ذات مرة تقرير يتهم صديقه الكاتب الكبير الراحل محمد حسنين هيكل بأنه يقابل بانتظام ملكة سابقة تعيش فى مصر، فقابل الأمر بنفس الانزعاج، وذلك على الرغم من أن الأستاذ هيكل لم يكن قد تزوج من ناحية، وموافقة الملكة بل سعيها للكاتب الكبير من ناحية أخرى، رغم هذا وذاك كان عبد الناصر مصرًا على أن يبقى الصعيدى الصالح ذو الدم الحامى والكبرياء والبعد عن الشبهات والالتزام تجاه أسرته وزوجته بنفس قوة التزامه أمام شعب مصر والشعوب العربية.