بطرس دانيال يكتب: الحياة ليست خلوداً.. بل طريقاً له
يقول يشوع بن سيراخ: «فى جميع أعمالِكَ اُذكُر أواخِركَ فلن تَخطَأ أبداً» (36:7). نحن نتحدث عن موت الآخرين، ولكن نتجنّب التفكير فى ساعة موتنا، ومن الممكن أن تكون هذه اللحظة الحاسمة التى نتجاهلها أو نعتبرها بعيدة المنال، أقرب مما نتخيّل، فالحكيم هو مَنْ يفكر دائماً فى ساعة النهاية لأنها تمنحه درساً ضرورياً لمعنى الحياة. ذهب الفيلسوف الشهير ديوجين إلى المقابر، وبدأ يجول بنظراته فى الجماجم الموجودة هناك، وإذ فجأةً وقف أمامه الإسكندر الأكبر أعظم الملوك فى تاريخ البشرية، لأنه كان يبحث عن ديوجين طمعاً لسماع حكمةً منه، وعندما رآه فى هذه الحالة، خاطبه ملاطفاً: «ماذا تفعل هنا يا ديوجين؟» أجابه: «أبحثُ عن جمجمة والدك الراحل». - ولكن الموت لا يفرّق بيننا جميعاً، فكيف تهتدى إليها؟» - هذا ما يجب أن تتذكره يا إسكندر، لأنك غالباً ما تتجاهله!». إنه درسٌ فى غاية الأهمية لكل واحد منّا، حتى نتذكر ساعة الموت دون خوف وهلع منها، لأن فكرة الموت إن واجهناها بصدق نيّة وحكمة، لن تنغّص حياتنا؛ بل توقظ ضمائرنا إلى تقدير الحياة والوقت، واستثمار إمكانياتنا وقدراتنا، وستصبح حياتنا أفضل بكثير، لأننا سنسعى لعمل الخير، ونبدأ فى البنيان والتفكير فى الآخرين، لا فى أنفسنا فقط. ولنتعلّم من الموسيقار النابغة موتسارت Mozart عندما قال: «بما أن الموت هو المصير المحتوم لكل كائنٍ حى، فأنا أَلِفتُ فكرته إلى درجة أنها لم تعد مخيفة بالنسبة لى، بل أصبحت ينبوع تعزية وعذوبة وحافز نشاط وحيوية. كما أحمد الله الذى منحنى نعمة الاقتناع بأن الموت هو مفتاح سعادتنا الحقّة، فلا أذهب إلى فراشى مرةً واحدة، دون الاعتقاد بأنه رغم حداثة سنّى، من الممكن ألا أستيقظ من نومى فى صباح اليوم التالى. ومع ذلك لا أحد من أصدقائى أو معارفى يستطيع القول بأن فكرة الموت أحزنتنى لحظةً واحدة. بل أرفع كل يوم آيات الشكر لله على هذه السعادة، وأتمناها بكلِّ صدقٍ لسائر البشر أخوتى». ما أعمق كلمات الموسيقار موتسارت الذى مات فى ريعان الشباب، ففكرة الموت لم تضع حاجزاً بينه وبين عبقريته الموسيقية؛ لكنها أضفت على حياته سعادةً ومتعة، دافعة إياه للعمل الجَدّى واستثمار موهبته ووقته. لأن الحياة الحقّة التى تليق بالإنسان، لا تعنى أن يخلد إلى الراحة ويحصد ما لم يزرع، ويتذوق ثماراً جناها غيره، متقلباً على سرير الكسل والخمول، أو مكتفياً بأقل جهد، ويكون همّه الأول والأخير إمتاع ذاته وإضاعة الوقت فى اللهو والترفيه، لكن الحياة الجديرة بالإنسان، هى ألا يخلد للراحة، ولكن يبذل ما فى وسعه ليثمر ثماراً تليق به وبالآخرين. جميعنا يعلم جيداً بأنه لن يبقى سوى ما أتيناه من أعمال فى سبيل الله والآخرين، وكل هذا يمنحنا رضى القلب فى حياتنا، وعذوبة الطمأنينة ساعة موتنا، ورجاء السعادة فى الآخرة. فإذا كانت حياتنا قصيرة وأيامها معدودة، ورحلتنا فى هذه الدنيا ليست طويلة، إذاً أفضل مقياس لها الأعمال الخيّرة والذكريات الحسنة والخالدة. والإنسان الحكيم هو الذى يعرف كيف يقضيها فى أعمال الخير والبر ومخافة الله ومساعدة الغير، لأن الله تعالى سوف يطالبنا بما فعلناه فى هذه الحياة سواء كان خيراً أم شراً، لأننا خُلقنا لتمجيده ولخير الآخرين. فالحياة نعمة من الله ورسالة يجب أن نقوم بها بكل إخلاصٍ وتفانٍ، لذلك يجب على كل واحدٍ منّا أن يترك أثراً وبصمة قبل أن يغادر هذه الحياة، كما أننا نعيش على آثار وبصمات من سبقونا، الذين تركوا تراثهم وحفروه على صفحات التاريخ. وكما يعلّمنا القول المأثور: «إن مقياس الحياة ليس فى طول بقائها؛ ولكن فى قوة عطائها». كل هذا لا يمنعنا أن نفكّر فى دُنيانا دون أن ننسى آخرتنا، لأن الله لم يخلقنا لنضع كل اهتماماتنا فى هذه الدُنيا فقط؛ ولكن لنحبّه ونعبده ونخدمه فى الآخرين. إذاً يجب أن نتذكر دائماً بأننا ضيوف ومسافرون نحو الأبدية، لذا يجب علينا ألا نصير عبيداً للعالم، ويصل بنا الحال لنسيان الله وغاية وجودنا على هذه الأرض، وكما يعلّمنا السيد المسيح: «ماذا ينفعُ الإنسان لو ربح العالم كُلّه وخَسِرَ نفسه؟ وماذا يُعطى الإنسان بدلاً لنفسه؟» (متى 26:16). فالله خلقنا لنعيش بعقلنا وقلبنا وروحنا له، وللبشر أخوتنا بكل ما نقدّمه لهم من خيرٍ وتضحية. ونختم بالقول المأثور: «إن الناس نوعان: موتى فى حياتهم، وآخرون فى باطن الأرض أحياء».