فخ السادات والدعم العربي.. مشاهد لا تنسى من حرب أكتوبر
على الرغم من مرور 47 عاما على حرب أكتوبر، التي أعادت لمصر عزتها وكرامتها، حين ثأر أبناؤها جنود الجيش المصري، من عدوهم الإسرائيلي، واستردوا أرض سيناء المحتلة، لا تزال الحرب تبوح بالعديد من المشاهد، التي لا تنسى، والتي يسجلها التاريخ، ويتحاكى بها الجميع، في كل عام يمر، وفى كل ذكرى تحل، حين تروى بطولات أبناء الجيش، وقادة مصر، وداعميها من الأشقاء العرب، الذين اصطفوا لنصرتها ومساندتها في أحد أهم المعارك التي دارت بين العرب وإسرائيل.
وفيما يلي من سطور، ترصد "الفجر" مشاهد بارزة في التاريخ، الذي يشهد ببسالة الجندي المصري، وحكمة القيادة السياسية والعسكرية، وشهامة العرب:
خطة الخداع الاستراتيجي
تعد خطة الخداع الاستراتيجي التي وضعتها القيادة السياسية، ممثلة في الرئيس محمد أنور السادات، وتم تنفيذها بالتنسيق مع الأجهزة المعنية بالقوات المسلحة، والمخابرات، وغيرها، أحد أبرز مشاهد حرب أكتوبر 1973، فكانت فخ السادات لطمأنة العدو الإسرائيلي.
,نجح الرئيس السادات في خداع العدو الإسرائيلي، خصوصا في الفترة التي سبقت الحرب، من خلال تحركات عدة، كان هدفها تشتيت العدو الإسرائيلي، وتضليله.
وكان من بين أبرز التحركات المصرية المخادعة، الإعلان عن احتمالية خوض مصر للحرب، حتى إذا ما استنفرت إسرائيل قواها، واستدعت قواتها الاحتياطية لمواجهة الجيش المصري، وحين تتهيأ وتقف على أهبة الاستعداد، يأتي القرار المصري بتأجيل الحرب، وهكذا تتوالى المعلومات المضللة، التي أربكت العدو، مرات ومرات، حتى اطمأن قلبه إلى أن مصر لن تخوض حربا ضده، ولن يتعدى دورها القيام بمناورات.
واستمرت القيادة السياسية المصرية في تنفيذ خطة الخداع الاستراتيجي، فتارة يتم تسريب معلومات إلى الجانب الإسرائيلي بأن مصر ستبدأ إجراء مناورات شاملة، وليس حربا، في الفترة من 1 وحتى 7 أكتوبر، وتارة أخرى يتم الإعلان عن تسجيل الضباط الراغبين في تأدية مناسك الحج، ونشر أسمائهم في وسائل الإعلام، ثم الإعلان عن تنظيم دورات رياضية عسكرية، ثم الإعلان عن السماح لسائر المصريين بالسفر لتأدية الشعائر، حتى إذا اطمأنت إسرائيل، وظنت كل الظن أن مصر لن تخوض الحرب، جاء قرار العبور، الذي شاركت فيه جميع أسلحة الجيش، من قوات برية وبحرية وجوية ودفاع جوى، بتنسيق كامل متكامل، وبخطة محكمة، كل في توقيته، فبدأ الطيران في تمام الساعة 2 في ضرب 56 هدفا في عمق سيناء، وشارك في الضربة 220 طائرة مصرية، حققت أهدافها بضرب مطارات واحتياطات العدو، وعادت بخسائر بسيطة جدا تقدر بـ2.5%، وبعد انتهاء الطيران من مهمته في 53 دقيقة، بدأ 1500 مدفع، في عمل تمهيد نيراني متتالٍ على خط بارليف، ثم حملت قوات المشاة 750 قاربا مطاطيا ونزلت إلى قناة السويس، قبل أن تفرغ المدفعية من ضرباتها، وقبل ذلك بيوم استطاعت أفراد من قوات الصاعقة عبور قناة السويس سباحة، والوصول إلى مخازن النابالم وتعطيلها.
وهكذا كانت خطة الخداع الاستراتيجي أحد أهم أسباب النصر، عملا بالمثل القائل "الحرب خدعة"، والتي ساهم في تنفيذها أيضا جنود الجيش، الذين بدأ بعضهم، قبيل الحرب بساعات، في غسيل الملابس ونشرها، بينما قام آخرون بممارسة الرياضة ولعب كرة القدم، على مرأى ومسمع من جنود العدو، على الرغم من علمهم المسبق بخوض المعركة، لكنهم نفذوا التعليمات التي وردت إليهم بالحفاظ على سرية الأمر.
"إسرائيل بلعت الطعم"
على الجانب الآخر، في إسرائيل، كانت رئيسة الوزراء، جولدا مائير، خارج إسرائيل، ثم عادت في يوم 4 أكتوبر، وعقدت اجتماعا مع قيادات الحكومة والجيش، لتدارس الموقف الخاص بمعلومات كانت قد وصلت إليها قبل الحرب بـ5 أشهر، مفادها قيام مصر وسوريا بتعزيز تواجد قواتها على الحدود.
وفى اعترافاتها، قالت جولدا مائير، إن الرأي الذي التف حوله الجميع أن الموقف العسكري يتلخص في أن إسرائيل لا تواجه خطر هجوم مصري - سوري، وأن القوات المصرية المحتشدة في الجنوب، لا يتعدى دورها القيام بالمناورات المعتادة، لذلك كان هناك إجماع على أنه لا ضرورة لاستدعاء الاحتياطي من القوات الإسرائيلية، ولم يفكر أحد في أن الحرب وشيكة الوقوع بعد ساعات قليلة.
وتثبت اعترافات جولدا مائير نجاح خطة الخداع المصرية، التي ثبتت أمام العدو، ولم تثر الشكوك ولو للحظة، حتى باغتت القوات المصرية عدوها في معركة العزة والكرامة.
وفى الساعة الرابعة من صباح يوم السبت السادس من أكتوبر، تلقت جولدا مائير معلومات عن هجوم مشترك تشنه القوات المصرية والسورية، بعد ظهر نفس اليوم، مما دعاها إلى عقد اجتماع لاستعراض الموقف، لكنها قالت، في اعترافاتها: "كان هذا اليوم الوحيد الذي خذلتنا فيه قدرتنا الأسطورية على التعبئة بسرعة"
واجتمعت جولدا مائير بزعيم المعارضة مناحم بيجين، ثم إنها عند الظهر، اجتمعت بالحكومة الإسرائيلية، للبحث في تعبئة قوات الاحتياطي، وفجأة وقبل انتهاء ذلك الاجتماع، اندفع سكرتيرها نحوها، ليبلغها بأن الهجوم قد بدأ، وفى نفس اللحظة سُمِع صوت صافرات الإنذار في تل أبيب وبدأت الحرب.
وهنا قالت مائير، في كتابها "حياتي": "ليت الأمر اقتصر على أننا لم نتلق إنذارات في الوقت المناسب، بل إننا كنا نحارب في جهتين في وقت واحد، ونقاتل أعداء كانوا يعدون أنفسهم للهجوم علينا من سنين، كان التفوق علينا ساحقًا من الناحية العددية، سواء من الأسلحة أو الدبابات أو الطائرات أو الرجال، كنا نقاسى من انهيار نفسى عميق، لم تكن الصدمة في الطريقة التي بدأت بها الحرب فقط، ولكنها كانت في حقيقة أن معظم تقديراتنا الأساسية ثبت خطؤها، فقد كان الاحتمال في أكتوبر ضئيلًا".
الدعم العربي
ولن ينسى التاريخ أبدا للدول العربية، دعمها لمصر في حرب العزة والكرامة التي تخوضها ضد إسرائيل، لانتزاع أرضها المحتلة من براثن الاحتلال الصهيوني، إذ هبت الدول العربية كافة، واستجمعت قواها، لنصرة مصر، وقطع الإمدادات عن إسرائيل وعن داعميها، حتى انتصرت مصر واستطاعت قلب موازين القوى العالمية.
وها هي المملكة العربية السعودية تعلن على لسان ملكها، فيصل بن عبد العزيز، وقف صادراتها من البترول إلى الغرب، وهو ما أدى إلى أمة طاحنة في قطاع الطاقة لدى الغرب، وتبعتها في ذلك الكثير من الدول العربية، التي حرصت على قطع البترول عن إسرائيل وداعميها، كورقة ضغط عليهم، ساهمت إلى حد كبير في تسهيل مهمة مصر.
ولم يكف العرب عن مساندة مصر، حين تبرعت دول عدة بمبالغ مالية لصالح مصر، بينما قامت الجزائر ممثلة في رئيسها آنذاك الهواري بومدين، الذي سافر إلى موسكو، في نوفمبر 1973، ودفع 200 مليون دولار إلى الاتحاد السوفيتي، ثمنا لأي أسلحة أو ذخائر قد تحتاج إليها مصر أو سوريا، بواقع 100 مليون دولار لكل دولة، بينما انتفضت شعوب عربية عدة لجمع الأموال والتبرع بالدم لصالح الجيش المصري، في ملحمة عربية يخلدها التاريخ.
كما لم يقتصر الدور العربي على قطع البترول عن العدو والتبع بمبالغ مالية، فحسب، وإنما امتد إلى إرسال عتاد عسكري، من طائرات ومقاتلات وغيرها، إلى جانب إرسال قوات، إلى الجبهتين المصرية والسورية، للمعاونة في الحرب، والدخول ضمن تخطيط الخطة "شامل" للقضاء على الثغرة.
جنود لا يهابون الموت
وبإمعان النظر في المشاهد التي لا تنسى من حرب أكتوبر، نجد أن الجندي المصري، وسلوكه في التعامل مع الحرب، ومع المعلومات التي تصله، والأوامر العسكرية التي يتلقاها، أحد أهم تلك المشاهد.
ففي حين كان جميع الجنود يمكثون في مواقعهم، ينتظرون بفارغ الصبر، تلك الساعة التي يؤذن لهم فيها بالعبور، وانتزاع الأراضي المحتلة من براثن إسرائيل، بعد تدمير خط بارليف الذي قالوا عنه إنه لا يقهر، تأتى إليهم التعليمات، قبل يوم واحد من الحرب
وفى يوم الجمعة، الموافق الخامس من أكتوبر 1973، التاسع من شهر رمضان، صدرت أوامر من قادة بالجيش إلى جنودهم، بألا يصوموا يوم غد السبت، السادس من أكتوبر، العاشر من رمضان، وأن يتناولوا طعام الإفطار الذي سيتم إحضاره، لأنهم سيخوضون معركة ضد العدو الإسرائيلي، مع ضرورة الإبقاء على سرية تلك المعلومات حتى لا تصل إلى العدو.
وبالفعل، تناول الجنود طعام الإفطار، وعندما حانت ساعة الصفر، بدأ الطيران في ضرب 56 هدفا في عمق سيناء، وشارك في الضربة 220 طائرة مصرية، حققت أهدافها بضرب مطارات واحتياطات العدو، وعادت بخسائر بسيطة جدا تقدر بـ2.5%، وبعد انتهاء الطيران من مهمته في 53 دقيقة، بدأ 1500 مدفع، في عمل تمهيد نيراني متتالي على خط بارليف، ثم حملت قوات المشاة 750 قارب مطاطي ونزلت إلى قناة السويس، قبل أن تفرغ المدفعية من ضرباتها، وقبل ذلك بيوم استطاعت أفراد من قوات الصاعقة عبور قناة السويس سباحة، والوصول إلى مخازن النابالم وتعطيلها.
ولم يكن الجنود المصريون يهابون الموت، لكنهم كانوا يرجون من الله الشهادة، ومن دونها قتال الأعداء وإلحاق أكبر قدر من الخسائر في صفوفهم، وبفضل من الله، ثم بعزيمة خير أجناد الارض، تمكنوا من اقتحام مانع قناة السويس الصعب، واجتياح خط بارليف المنيع، وإقامة رؤوس جسور لها على الضفة الشرقية من القناة، بعد أن أفقدت العدو توازنه في 6 ساعات.