د. رشا سمير تكتب: أنت تريندنج إذن أنت البريمو!
فى مرحلة ما من تاريخ مصر العظيمة بل ومن تاريخ العالم كله كانت القيمة الحقيقية للبشر تأتى من أفكارهم وأفعالهم وما قدموه للمجتمع لإعلاء شأنه.
أتصور أن زعيم الأمة سعد زغلول وقف فى وجه المستعمر الإنجليزى دون أن يهلل له مريدوه على الـ«فيسبوك»، وأن أحمد عرابى الذى وقف فى ساحة عابدين لم يلجأ لـ «تويتر» ليقول كلمته الشهيرة «لقد ولدتنا أمهاتنا أحراراً ولن نستبعد بعد اليوم».. وحين أخذت ملك حفنى ناصف على عاتقها تأسيس «اتحاد النساء التهذيبى» الذى يهدف إلى توجيه المرأة إلى ما فيه صلاحها لم تكن تُقدم برنامجا على قناة فضائية متخصصة فى الطبخ.. ولا كانت المذيعة المحترمة ليلى رستم الحاصلة على ماجستير فى الصحافة من جامعة نورث وسترن بالولايات المتحدة الأمريكية، تقدم حلقة إلا وكان لها محتوى ثرى ومردود ثقافى له قيمته، ودون أن تسعى لتصدر الـ«انستجرام» بعدد المتابعين.
هكذا كان العظماء الذين شكلوا وجدان الشعب المصرى وثقافته، يوم كانت البرامج والإعلام والمحافل الأدبية لها معنى وتأثير حقيقى، أما اليوم فقد تحول الواقع إلى ابتذال بلا حدود ومحاولات فارغة من الكل للظهور، ومن ثم برامج بلا فحوى يقدمها من لا يعون قيمة الكلمة ولا تأثيرها على المجتمع بأكمله، تحول الأمر إلى سباق محموم للوقوف تحت الأضواء، أصحاب الأقلام يتسابقون من أجل الوصول إلى قوائم الأكثر مبيعا حتى وإن كان على حساب صورتهم المهنية وقيمتهم الأدبية، المهم أن تصل كتبهم إلى أيدى القُراء حتى وإن لم يقرأوها!..
والإعلاميون يبحثون عن عدد متابعين بالملايين، فهذا يثرثر وذاك يُطبل، وهذه كل إمكانياتها ارتداء الملابس وتسريحات الشعر والتصوير يوميا على الانستجرام وكأنهم عرائس باربى..
حتى أن المواضيع التى تدور حولها البرامج كل يوم هى نفس المواضيع التافهة المكررة وكأنهم يقدمون للمُشاهد «أكلة بايتة وهو مُجبر على تقبلها بل والثناء عليها!
الزواج والطلاق والخيانة والتجميل ومعركة الرجل والمرأة.. وبس خلاص!
ثم وُلدت الظاهرة الأعجب، ظاهرة التريندات على التويتر، أنت تريندنج إذن أنت ناجح! وأنت تافه إذن أنت تريندنج!..
عائلة الكاردشيان هم الأكثر ترندينج على مواقع التواصل الإجتماعى على الرغم من كونهم نموذجا للفشل والتفكك الأسرى، خيانات وطلاقات وتحولات جنسية وابتذال غير عادى، ولكنهم تريندنج!.
أما فى مصر فقد انحدر الوضع من سئ إلى أسوأ، وخصوصا فى مجال الإعلام..
منذ سنوات اعتلى منابر الإعلام والفكر فى مصر من لا يمتلك مقومات الحديث، لا علم ولا ثقافة ولا حتى قبول، فأصبح وجود أبواق إعلامية متخصصة فى الهذى والهرى وتخريب للمجتمع من نوع جديد، وهؤلاء على الشاشة مؤثرون ولهم مصداقية (بكل أسف) عند الشباب الساذج والجاهل ومن يعانون من غياب القدوة.
المساحة المطروحة أمام كل من لا يمتلك الفكر ولكن يمتلك الصوت، مساحة تتسبب فى كارثة حقيقية يجب أن يراجع المسئولون عن الإعلام أنفسهم فيها.
كل فترة يظهر شخص ما على الساحة بمقولة غوغائية أو تصريح سافر أو رأى تافه، لكنه يتطرق وبقوة إلى مواضيع حساسة قادرة على إشعال فتنة مجتمعية لا تنطفئ بسهولة.. مثل الشذوذ وحرية التعبير عنه، وحجاب المرأة، التطرف الدينى، التحرش، التنمر وغيرها من المواضيع التى قد تجعل من قائلها تريند على مواقع التواصل الاجتماعى، وهذا بالتبعية يعنى متابعات ولايكات ومن ثم هدايا دعائية من شركات التجميل والملابس وغيرهم، وبالتالى إعلانات على الصفحة وسبوبة فلوس لا بأس بها حتى ولو كان الثمن جثة المجتمع.. .
والمحتوى؟!.. المحتوى.. صفر!
هذا ما أصبح مؤخرا هو حديث الساعة، وما جعل من الكثيرين أبطالا بلا بطولة..
وحيث إنه لا أمل فى أن يُراجع هؤلاء أنفسهم، فأنا أدعو القراء والمشاهدين أن يجتهدوا فى معرفة الفرق بين الحقيقى والمزيف، وألا يصدقوا كل ما يشاهدونه، فالتمثيل لم يعد فقط حرفة الفنانين!.
وأسفاه على زمان أصبح فيه التريندنج هو العنوان الوحيد للنجاح!.