د. نصار عبدالله يكتب: أيلول الأسود
رغم أن كل الشهور لا تخلو من ذكريات كوارث حلت بمصر وبالأمة العربية عموما، إلا أن شهر أيلول (الاسم السريانى لشهر سبتمبر) هو من أكثر تلك الشهور اكتظاظا بالذكريات الحزينة والكارثية، بدءا من انفصال سوريا عن مصر وانتهاء أول مشروع وحدوى عربى كان يبدو مبشرا وناجحا، لولا أن تآمرت عليه الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل وجندت من أجل القضاء عليه كل الدول العميلة لها فى المنطقة العربية التى مولت عملية الانفصال من أموالها هى، لا من أموال أمريكا وإسرائيل !! وهكذا أثبت العرب مرة أخرى أنهم يفضلون البقاء ضعفاء مفتتين قانعين بما تجود به عليهم القوة الكبرى فى العالم التى لم تصبح قوة كبرى إلا بفضل اتحاد أجزائها ( وهو ما تأباه على سواها )!، كذلك فمن الذكريات الأليمة لشهر أيلول هى تلك المجازر التى ارتكبها الجيش الأردنى ضد المقاومة الفلسطينية التى أصبحت فى عام 1970تمثل تهديدا حقيقيا لإسرائيل، وإن كانت الأمانة تقتضى أن نذكر أنها أصبحت فى نفس الوقت تهديدا حقيقيا لسلطة الدولة الأردنية ذاتها مما جعل الاصطدام بين القوتين أمرا حتميا، وقد بذل الرئيس الراحل المصرى جمال عبدالناصر الذى لم يكن مجرد رئيس فحسب، ولكنه كان يمثل زعامة حقيقية للأمة العربية بأسرها، بذل جهدا كبيرا لإيقاف القتال وحقن الدماء العربية فى وقت كان الأطباء يوصونه فيه بالراحة التامة، وقد كلل جهده بالنجاح، لكنه كلفه حياته ثمنا لذلك فغادر دنيانا فى 28 سبتمبر 1970 مضيفا إلى ذكريات أيلول الحزينة ذكرى أليمة جديدة!. ربما يجادل البعض بأن سبتمبر (أيلول )، وإن كان حافلا بذكريات الآلام إلا أنه حافل أيضا بالإنجازات العظيمة!، ويستشهدون على ذلك بقوانين الإصلاح الزراعى التى صدر أول قوانينها فى 9 سبتمبر 1952 وحدد الحد الأقصى لملكية الفرد الواحد بمائتى فدان فى وقت كانت فيه ملكيات بعض الأفراد تصل إلى آلاف الأفدنة، وأحيانا عشرات الآلاف، وطبقا لذلك القانون (الأحرى طبقا للمرسوم بقانون لأنه لم يصدر من السلطة التشريعية الدستورية!) فقد كان من المفترض أن تستولى الدولة على القدر الزائد عن الحد الأقصى وتقوم بتوزيعه على المعدمين من الفلاحين الأجراء، وقد قامت الدولة بالفعل بالاستيلاء على القدر الزائد، لكن ما تم توزيعه على المعدمين من الفلاحين كان أقل بكثير من عشرة فى المائة من الأرض المستولى عليها!، وظلت الهيئة العامة للإصلاح الزراعى مستحوزة على ما يزيد على تسعين فى المائة من تلك الأراضى، وبدلا من تمليكها للفلاحين قامت بتأجيرها لهم، وهو ما كان يفعله الملاك السابقون الذين وصفوا إذ ذاك بالإقطاعيين!، وهو وصف غير دقيق علميا، لأن النظام الإقطاعى هونظام يتسم بسمات خاصة عرفته أوروبا فى العصور الوسطى مختلف فى سماته تمام الاختلاف عن سمات الملكيات المصرية الكبيرة فى مصر التى كانت ملكياتها قد بدأت فى التآكل نتيجة لتفتت الملكية بين الورثة جيلا بعدجيل، فضلا عن أن بعض أصحاب تلك الملكيات كانوا قد بدأوا فى تفتيت ملكياتهم بأنفسهم تيسيرا لبيعها بعد أن فضلوا الانفصال عن الريف والإقامة فى المدن...ومع هذا فإننا إذا سايرنا الوصف الذى أطلق على الملاك الكبار بأنهم إقطاعيون، فإن الإصلاح الزراعى نفسه قد تحول فى الواقع إلى إقطاعى، بل إنه أصبح هو الإقطاعى الوحيد فى مصر وما زال كذلك إلى الآن !! وأصبح موظفو الإصلاح يقومون بتحصيل الإيجارات من واضعى اليد مع فارق وحيد هو أن الإيجارات قد أصبح لها بحكم القانون حد أقصى لا يمكن تجاوزه، ورغم أن الحد الأقصى للإيجار هوميزة إيجابية لا يمكن إنكارها بالنسبة لواضع اليد، إلا أن هذه الميزة الإيجابية تقابلها سلبيات كثيرة، يتمثل أولها فى أن الذين يقومون بالربط والتحصيل هم موظفون لا يعنيهم من أمر الأرض المملوكة للدولة شيئا، خلافا للملاك القدامى الذين كانوا دائمى الرعاية لأراضيهم وصيانتها وتحسينها ضمانا لتأجيرها بسعر أعلى، غير أن الفارق الكارثى يتمثل فى أن موظفى الإصلاح يمتلكون سلطة توقيع الحجز الإدارى على المتأخرين فى سداد الإيجار، والزج بهم من ثم فى غياهب السجون إذا ما تأخروا فى سداد ما هو مستحق عليهم، وهم باعتبارهم موظفين ليسوا أصحاب قرار مثل الملاك القدامى الذين كانوا يستطيعون التفاهم أو الانتظار، أما الموظفون فهم لايملكون إلا تطبيق اللوائح والتعليمات وإلا تعرضوا للمساءلة من رؤسائهم، وكانت النتيجة هى دخول آلاف الفلاحين إلى السجون بفضل الإصلاح الزراعى الذى يفترض أنه قد أنشئ لصالحهم..ترى هل هناك بعد ذلك من هم ما زالوا يصرون على أن الإصلاح هواستثناء من سواد أيلول الأسود.