بطرس دانيال يكتب: المنافق بين التكلّف والتصنّع

مقالات الرأي




كان السيد المسيح يكشف رياء الكتبة والفريسيين موبّخاً إياهم هكذا: «الويلُ لكم أيها الكتبة والفِّريسيّون المراؤون، فإنكم أشبه بالقبور المكلّسة، يبدو ظاهرها جميلاً، وأما باطنها فممتلئ من عظام الموتى وكل نجاسة. وكذلك أنتم، تبدون فى ظاهركم للناس أبراراً، وأما باطنكم فممتلئ رياءً وفسقاً» (متى 23: 27-28). نحن نعيش عصراً تغلب عليه المظاهر الخادعة والإعلانات والشعارات حتى يقع فى فخاخها الكثيرون. لماذا تنساق الغالبية العظمى خلف رذيلة الرياء والنفاق؟ من المؤكد ستكون الأسباب متعددة من شخصٍ لآخر، على سبيل المثال نجد مَن يريد أن يصل إلى هدفه بالتسلّق على أكتاف الآخرين، ومَن يريد أن يظهر فى أبهى صورة أمام الناس حتى لا يكتشفوا عيوبه، ومَن يريد أن يحصل على منصبٍ أو مالٍ أو شهرة أو غير ذلك. فى روايةٍ للكاتب Gunther Gress يتساءل: «هل شاهدنا ما وراء أى منصة؟ إذاً يجب على الجميع أن يتعودوا على رؤيتها قبل أن يجلسوا أمامها. ومن يشاهد خلف المنصة سيتحصّن ضد أى طقس سحرى يتم عليها بطرقٍ مختلفة». علينا أن نفهم هذا الكلام بطريقةٍ عملية لندرك خطورة الرياء الدائم والخداع المستمر اللذين يضرا الآخرين، فهو يشبّهه بطريقةٍ ساخرة بالمنصة، لنتخيّل جميعاً عندما يتم دعوتنا لحضور مناسبةٍ ما ونجلس أمام المنصة المزيّنة بالقماش الأنيق والمقاعد الفخمة والشعارات الزاهية والزهور، فمن السهل الوقوع فى شِباك المُحَاضِر أو المتكلّم عندما يمسك بالميكروفون ويبدأ فى إعلان حقيقة ما يدعو إليه ويتفاخر بصدقه وينشر وعوده. ولكن إذا تفحّصنا ما وراء هذه المنصة ستظهر لنا حقائق أخرى مختلفة تماماً، لذلك يجب ألا ننخدع سريعاً بالمظاهر البرّاقة لمن يدّعون الكمال، وهذا التدريب ضرورىٌ فى أيامنا هذه لأننا ننخدع بالدعاية والإعلانات والمظاهر السطحية والتصنّع. وكما يقول المثل: «تستطيع أن تخدع كل الناس بعض الوقت، وتستطيع أن تخدع بعض الناس كل الوقت، ولكنك لا تستطيع أن تخدع جميع الناس كل الوقت». هناك أشخاص مقتنعون تماماً بأن الرياء هو امتياز وقوة لا عيب فيه، لذلك يحاولون أن يسقونه للآخرين، ويزينونه حتى يظهر أنيقاً مُقْنِعاً سواء فى الكلام أو الابتسامة أو السلوك اليومى، هؤلاء لا يفرّقون بين الفضيلة والرذيلة، معلنين أن الكمال يكمن فى الحل الوسط، ولكن هذا «الوسط» بالنسبة لهم هو النقطة التى يصلون إليها لأنها موضع راحتهم ورضا الناس عنهم. لكن ليس من الضرورى أن يكون الحل الوسط هو الكمال والاعتدال والحق كما يدّعون، لأننا لا نستطيع أن نختار «الوَسَط» بين الخير والشر، الحق والضلال، العدل والظلم، بل يجب أن نميّز بين كل هذه الأمور، ونتحلّى بالفضيلة والخير والحق والجمال. ونقرأ فى الرواية الشهيرة «الخطاب القرمزى» للكاتب Nathaniel Hawthorne: «لا يستطيع أحد أن يظهر بوجهٍ أمام ذاته لوقتٍ طويل، وبوجهٍ آخر أمام الناس، لأنه حتماً سيصل إلى اللحظة التى لا يستطيع فيها أن يميّز أيهما الوجه الحقيقى وأيهما المزيّف»، هذه الكلمات هى اتهام قاس ضد الرياء والنفاق، ونجد تنبيهاً وتحذيراً مهمين بأن الخداع من الممكن أن يستمر لفترة ما، ولكن اليوم أو الغد سينكشف ما بداخل الإنسان ويظهر على حقيقته ويتعرّى أمام الجميع. مما لا شك فيه أن الجميع لديهم أسرار خاصة بهم، ومن الممكن أن الغالبية تظهر بوجهين، الأول وهو العام الذى تظهر به أمام الناس، والثانى الحقيقى الدفين تكشفه لذاتها، ولكن كل هذا حتماً سينكشف يوماً ما، لذلك من الأفضل أن نعوّد أنفسنا على التصرف والظهور بالوجه الحقيقى أمام الجميع حتى لا نفقد ثقة الآخرين فينا. تحذرنا الكاتبة الفنلندية Leena Lander : «العقاب يصل بالإنسان للخنوع والرياء، فالتظاهر أو التكلّف هو بعيد كل البعد عن الحقيقة، ومن هنا يبدأ الإنسان بالتكلّف ليرضى الآخرين، وينتهى به الأمر ليكذب على ذاته»، إذاً يجب أن نعى تماماً بأن التخويف الدائم للأطفال لا يساعد على التربية الصحيحة والسليمة، كما أنه لا يبنى شخصية حقيقية واضحة، نحن نعلم أن العقاب مهم جداً فى مواقفٍ ما، وهذا يحثنا عليه أيضاً الكتاب المقدس، ولكن ليس المقصود به الترهيب والتخويف اللذين ينتج عنهما القلق والكآبة والخداع للدفاع عن النفس، ويصل بالإنسان أن يتصرف كالحرباء التى تغيّر جلدها لتجنب الأذى ويضل الآخرين حتى يصل إلى اللحظة التى فيها يجهل حقيقة ذاته، فالتصنّع ينتج عنه إنساناً مزيّفاً بوجهين، وفى نهاية المطاف يصل بصاحبه إلى تصديق الأكاذيب التى اخترعها وابتكرها. ونختم بكلمات الشاعر الفرنسى Paul Valery: «أن تكون أنت... يا لها من مهمة شاقة».