حكم تاريخى.. 6 نقاط لسد الفراغ التشريعى لتنظيم عملية الإفتاء

حوادث

ارشيفية
ارشيفية


أثار مشروع قانون تنظيم دار الإفتاء المزمع مناقشته فى مجلس النواب في جلسة عامة لأخذ الرأي النهائي عليه، جدلًا واسعًا في الأوساط الأزهرية، وقد أثارت بعض الفتاوى الضالة في الآونة الأخيرة لغطًا كبيرًا في المجتمع المصري مثل فتوى نكاح الزوجة الميتة وجواز معاشرة البهائم وغيرها.

ولوقف نزيف مثل تلك الفتاوى الشاذة  رؤى تنظيم عملية الإفتاء بتدخل تشريعي عاجل بإعادة تنظيم دار الإفتاء بوضع قواعد عامة مجردة تحكم دار الإفتاء، ويلعب القضاء المصرى الشامخ دورا بارزا في معاونة المشرع عن طريق مناشدته  في أحكامه عن أى قصور في التنظيم التشريعى لموضوع معين بمناسبه ما يعرض عليه من أقضية. 

وهناك بعض الأحكام القضائية الرصينة تتميز بالعمق القانونى والدقة الفقهية والرؤى الوطنية واستقراء المستقبل، وفى هذا السياق أصدر القاضى المصرى  المستشار الدكتور محمد عبدالوهاب خفاجي نائب رئيس مجلس الدولة إبان رئاسته لمحكمة القضاء الإداري بالإسكندرية الدائرة الأولى بحيرة حكما قضائيا سابقا، تناول فيه فكرة التعاون بين المؤسسات الدينية بعضها البعض دون احتكار لإحداها على الأخرى.

ويمكن تلخيص هذا الحكم التاريخي في 6 نقاط  على النحو التالى : 

أولًا: عن النص الدستورى على دور الأزهر هل هو دور احتكارى للأزهر فقط أم تشاركى تتعاون معه فيه المؤسسات الدينية الأخرى كوزارة الأوقاف ودار الإفتاء :  

قالت المحكمة  " أنه إذا كان  الدستور جعل من الأزهر الشريف هيئة إسلامية علمية مستقلة وجعله  المرجع الأساسى فى العلوم الدينية والشئون الإسلامية، وأناط به مهمة مسئولية الدعوة ونشر علوم الدين واللغة العربية فى مصر والعالم مما يؤكد عالمية رسالة الأزهر، إلا أن الأزهر الشريف يظل هيئة إسلامية علمية، ويعنى أنه لا قداسة فى الإسلام، ولا عصمة لأحد إلا للرسول الكريم فيما يبلغ به عن ربه، والحق أنه ليس بالأزهر الشريف وحده يقع عبء نشر الدعوة الإسلامية  ، بل يشاطره فى ذلك بدور جوهرى وفعال وزارة الأوقاف ودار الإفتاء، وإن لم ينص على ذلك الدستور المصرى، بخلاف الدساتير العربية، التى أناطت بمهمة نشر الدعوة لوزارة الاوقاف وحدها بتلك البلاد، وذلك  نظرا لعدم وجود الأزهر الشريف بتلك  الدول، والذى تنفرد به مصر دون العالم، فكان طبيعيا أن يفرد الدستور المصرى  للأزهر الشريف نصا خاصا دون أن يوازيه نص دستورى أخر فى تنظيم العمل الدعوى لوزارة الأوقاف والعمل الافتائى لدار الإفتاء المصرية.

وليس معنى ذلك إغفال دور وزارة الأوقاف ودار الإفتاء فى النشاط الدعوى والإفتائى، فتنجلى بذلك غُمة ما يمكن نسبته من خلل دستورى  وهو ليس بخلل بل تكريما للأزهر لا يتضمن حرمانا لسائر المؤسسات الدينية الأخرى من أداء دورها، وترتيبًا على ذلك يجب أن يسود التعاون بين المؤسسات الدينية جميعها للاضطلاع بدورها كل فى مجاله دون احتكار دينى لجهة ما."  

ثانيًا: وعن الفراغ التشريعي وليس الشرعي لعملية الإفتاء وخلو القانون من تعريف المجتهد والمواصفات اللازمة فيه: 

قالت المحكمة فيه: " إن المشرع الوضعي لم يضع تعريفًا للمجتهد، كما أن هناك فراغًا تشريعيًا – وليس شرعيًا - بشأن إيجاد تنظيم تشريعي متكامل لعملية الإفتاء في المجتمع المصري وهو ما يسبب مشكلات جمة – باستثناء ما تقوم به دار الإفتاء المصرية – فظل الإفتاء ليس حكرًا على أحد، فكل مسلم بلغ في علوم الشريعة الإسلامية مبلغ التخصص وتوافرت في حقه أهلية الاجتهاد من حقه الفتوى والأمر يحتاج إلى تنظيم تشريعى بقواعد عامة مجردة ، أما من يتصدى للفتوى من غير المتخصصين أو ممن ينقصهم إتقان التخصص فإنه ليس بأهل للفتوى ولا يجوز له ذلك.

إلا أن علماء الأمة قديمًا وحديثًا تواترت آراؤهم على وجوب توافر مواصفات محددة في المجتهد الذي يجوز له أن يفتي للناس في أمور دينهم ودنياهم، ونهى غير المتخصصين الذين لا تتوافر في شأنهم أهلية الاجتهاد أو ممن ينقصهم إتقان التخصص عن التجرؤ على الاجتهاد والإفتاء بدون علم، لما يترتب على ذلك من مأس دينية ودنيوية أو الإساءة إلى الإسلام وتشويه صورة المسلمين بين مختلف الشعوب، وتأسيًا بمسلك كبار الفقهاء الأوائل الذين أسسوا مدارس فقهية لها مناهجها العلمية فكانوا يتحرجون من الفتوى على عكس الأمر الحاصل الاَن من تجرؤ غير المتخصصين على الإفتاء الذين يجب عليهم الابتعاد عن دائرة الاجتهاد، حتى لا يصعب الأمر على المتلقى فى اختيار من يتلقى منه الفتاوى مما يقتضى تنظيم دار الإفتاء بنصوص قاطعة على ممارسه دوره وتحديد مجالاته".

 ثالثًا: وعن تفضيل الاجتهاد الجماعى على الاجتهاد الفردى فى المسائل الخلافية: 

قالت المحكمة " يجب أن يقتصر الإفتاء على العلماء الثقات الذين يجيدون الغوص فى بحر الاجتهاد المتلاطمة أمواجه القادرين على استنباط الحكم الشرعى المؤسس على فقه سليم، وبُحت أصواتهم عن مدى حاجة المسلمين فى كل مكان إلى الإفتاء السليم الذى يربط بين العقيدة الصحيحة ومستجدات العصر فى ظل الثورة العلمية التكنولوجية وما أفرزته من قضايا مستجدة، وأنه عندما تقدمت العلوم وتنوعت التخصصات فإن المسألة التى تتعدد فيها وجهات النظر وتختلف فيها الرؤى تكون بحاجة إلى نظر جماعى، أى الاجتهاد الجماعى لا الاجتهاد الفردى، تأسيسًا على أن المسألة الواحدة التى تنازعتها فتويان فإن الأمر يقتضى ترجيح واختيار الفتوى الأصوب والأرجح.

فالمسائل الخلافية التى تتعدد فيها اَراء العلماء لا يجوز أن ينفرد بالإفتاء فيها فقيه واحد، فيكون الاجتهاد الجماعى هو السبيل الوحيد للإفتاء فيها للعامة لترجيح واختيار الفتوى الأصوب والأرجح، فليس كل ما يعلم بين العلماء المتخصصين يقال للعامة وإلا أحدثوا فتنة وإثارة للبلبلة وعدم استقرار المجتمع الدينى".

رابعًا: وعن وجوب أن يكون باب الاجتهاد مفتوحا لا يوصد ليساير مستجدات العصر: 

أكدت المحكمة " أنه بات من الأصول العامة الخالدة ما بقيت الحياة قائمة أن طبيعة الشريعة الاسلامية تقتضى أن يظل باب الاجتهاد فيها مفتوحا لا يوصد بحسبان أنها الشريعة الخاتمة لجميع البشر وبمراعاة أنها صالحة للتطبيق فى كل زمان ومكان وفى أى مجتمع، لكونها المنظمة لعلاقات الناس ومعاملاتهم فى شتى مناحى الحياة وعلاقتهم جميعا بالخالق سبحانه وتعالى، فكان لزاما أن تحمل خاصية بيان الأحكام الشرعية لكافة مستجدات الحياة فى جميع جوانبها.

هكذا تظل حاجة أتباعها إلى الاجتهاد قائمة باستمرار لتساير مستجدات العصر فيصبح الخطاب الدينى متجددا يافعا معبرا عن كل بيئة مهما أختلفت الأوطان، ويتعين مناشدة المشرع إلى ايجاد تنظيم تشريعى عاجل لعملية الافتاء فى المجتمع المصرى بتنظيم دار الإفتاء لتلافى الاَثار السيئة وإحداث البلبلة فى نفوس العامة، وعلماء الدين كافة يعد إليهم بتجديد الثقافة الإسلامية وتجريدها من اَثار التعصب الدينى الناجم عنه الانحراف فى الفكر المذهبى والسياسى وأن الإسلام لم يعرف ما يسمى بالفريضة الغائبة فى تكفير المسلم وقتل البشر باسم الدين . " 
خامسًا : وعن شروط تنظيم عملية الإفتاء فى الفقه الإسلامى: 

قالت المحكمة " أن شروط الإفتاء ليست بالأمر اليسير فى الفقه الاسلامى حتى يمارسه العوام وإنما هو أمر بالغ الصعوبة والدقة يستفرغ فيه المجتهد وسعه لتحصيل حكم شرعى يقتدر به على استخراج الأحكام الشرعية من ماَخذها واستنباطها من أدلتها على نحو يشترط فى المجتهد شروطًا للصحة أهمها أن يكون عارفا بكتاب الله ومعانى الاَيات والعلم بمفرادتها وفهم قواعد اللغة العربية وكيفية دلالة الألفاظ وحكم خواص اللفظ من عموم وخصوص وحقيقة ومجاز واطلاق ومعرفة أصول الفقه كالعام والخاص والمطلق والمقيد والنص والظاهر والمجمل والمبين والمنطوق والمفهوم والمحكم والمتشابه وهى مسائل دقيقة للغاية تغم على عموم الناس  من ادعياء الدين وطالبى الشهرة ومثيرى الفتنة والدين منهم براء.

وهى فى الحق تستلزم التأهيل فى علوم الدين، مما تناشد معه المحكمة المشرع بضرورة تجريم الإفتاء من غير أهله المتخصصين بدار الإفتاء التى تخاطب كل مسلم فى العالم وليس مصر فحسب، ومناشدته كذلك بصدد قانون ممارسة الخطابة بتجريم استخدام منابر المساجد والزوايا لتحقيق أهداف سياسية أو حزبية أو للدعاية الانتخابية حتى ولو كان مرخصا له بالخطابة، وهو الأمر الذى خلا منه قرار رئيس الجمهورية المؤقت رقم 51 لسنة 2014 بشأن ممارسة الخطابة والدروس الدينية فى المساجد وما فى حكمها، لأن استخدام الخطيب للمنبر فى غير أهداف الخطابة والانحراف بها فى اتون السياسة سعيا لتأييد طرف ضد أخر، يجعله قد خالف شروطها ، والقاعدة الفقهية تقرر أن المسلمين عند شروطهم، خاصة فى ظل الظروف العاتية التى تواجه العالم لمحاربة الإرهاب ودعاة الفكر الشيطانى التكفيرى، وتبذل فيه مصر وحدها بحكم ريادتها للعالم الإسلامى غاية جهدها لمواجهة هذا الإرهاب للحفاظ على كيان المجتمع واستقراه ورعاية المصالح العليا للأمة".

سادسًا: وعن الاجتهاد وعلاقته بالمذاهب الفقهية باعتباره إحدى وسائل تجديد الخطاب الدينى  كأمر ثابت فى الشريعة الإسلامية وأحد مصادرها: 

قالت المحكمة" أن المقرر شرعا أن الاجتهاد - باعتباره إحدى وسائل تجديد الخطاب الدينى - أمر ثابت فى الشريعة الاسلامية بل يعد أحد مصادرها، كما تعتبر المذاهب الفقهية نتاج هذا المصدر، واختلاف فتاوى الفقهاء فى المسألة الواحدة يعد أبرز شكل من أشكال الاجتهاد، وبمراعاة أن نطاق هذا الاختلاف يقتصر على الفروع فقط دون ثوابت الشرع الاسلامى المقررة بأدلة قطعية والتى تشمل الأصول والمبادئ أو الاعتقاد، ويعد الاختلاف بين المذاهب الفقهية – كما قيل بحق – رحمة ويسرا بإتباع الدين الاسلامى.

وفى ذات الوقت تعتبر ثروة تشريعية كبرى محل اعتزاز وفخار الحضارة الاسلامية، ومنبع الاختلاف فى استنباط الأحكام يرجع إلى تفاوت قدرات العقول البشرية والأفكار فى فهم وإدراك أسرار التشريع وعلل الأحكام الشرعية وانعكس ذلك فى فتاويهم التى حوتها كتبهم وأقولهم وكشفت عن الرؤى المختلفة بينهم بسبب تعدد مداركهم وتنوع مشاربهم، لذا قيل بحق من لم يعرف اختلاف الفقهاء لم يشم رائحة الفقه، ومن ثم فإن فتاوى الفقهاء لا تعدو أن تكون مجرد اَراء اجتهادية متفاوتة فى درجات الترجيح بين راجح ومرجوح، ولا تلزم إلا صاحبها، وغير ملزمة للغير بحسب الأصل ويجوز لقائلها الرجوع عنها إلى رأى فقهى أخرمما يتوجب تنظيم عملية الإفتاء".

إن هذا الحكم التاريخى من القضاء الإدارى بالاسكندرية برئاسة القاضى المصرى الدكتور محمد خفاجى المعروف عنه التأصيل العلمى والفقهى لأحكامه في مناشدة المشرع بتنظيم دار الإفتاء وعملية الإفتاء برمتها يضع المسئولية على عاتق مجلس النواب بفض الاشتباك بين علماء الدين والأزهر والتعاون بين المؤسسات الدينية بالتدخل لضبط تنظيم عملية الإفتاء عن طريق وضع قواعد عامة مجردة لتعريف المجتهد وأيضًا تجريم الافتاء من غير أهله المتخصصين الذين يخاطبون كل مسلم فى العالم وليس مصر فحسب وتنظيم دار الإفتاء المصرية خاصة فى ظل الظروف العاتية التى تواجه العالم لمحاربة الإرهاب ودعاة الفكر الشيطانى التكفيرى، وتبذل فيه مصر وحدها بحكم ريادتها للعالم الإسلامى غاية جهدها لمواجهة هذا الإرهاب للحفاظ على كيان المجتمع واستقراه ورعاية المصالح العليا للأمة.