محمد مسعود يكتب: أساطير الدراما 9.. «الراية البيضا» زمن فضة المعداوى

مقالات الرأي




محمود مرسى رفض شخصية «مفيد أبوالغار» قائلا: « الدور حلو.. لكن فضة هى البطلة.. أعتقد جميل راتب يقدر يعمله كويس»

الفنان كمال الشناوى أكد قبل وفاته أن المخرج عرض عليه لعب الدور.. ومحمد فاضل: «محصلش» 

سناء جميل تخوفت من دور المعلمة وقالت لمحمد فاضل: «عندك 100 واحدة غيرى ممكن تعمل الدور ده» 

أسامة أنور عكاشة لسناء جميل: «أنا كاتبه عشانك».. فردت: «كنت سأترك هذا العمل العظيم وأنا عينى فيه» 

يسرا المرشحة الأولى لدور «أمل صبور».. وحضرت بروفات لمدة شهر ثم اعتذرت عن العمل بسبب تصوير 30 يوما متواصلة فى عمان وسمية الألفى البديلة

جورج سيدهم اعتذر عن العمل بسبب ارتباطات مسرحية.. فذهب دور «مطاوع» لمحمود الحدينى

محمد فاضل كاد يتسبب فى وفاة سناء جميل بسبب فنجان قهوة.. وسيد زيان يتسبب فى بكائها ساعات

إغلاق كامل لكورنيش الإسكندرية لمدة 60 دقيقة بسبب مشهد النهاية

بعد الانفتاح الاقتصادى العشوائى فى سبعينيات القرن الماضى، نمت فى المجتمع المصرى طبقة الهرم المقلوب، صار من يملك المال هو السيد.. والسائد، لم يعد للثقافة أو المثقفين أو الحضارة أى دور فى هذا المجتمع الاستهلاكى، بعد أن ذبحتهم سكاكين المال السهل.. وهدمتهم معاول الأعمال المشبوهة. وعلى ذلك، كان لقضية المواجهة بين الجهل والثقافة، أوجه عدة.. ترجمها الكاتب الكبير الراحل عميد الأدب التليفزيونى أسامة أنور عكاشة فى رائعة « الراية البيضا» التى أخرجها المخرج الكبير محمد فاضل لحساب الشركة العربية للإنتاج الإعلامى التى يملكها الراحل الشيخ صالح كامل.

استلهم أسامة تفاصيل المواجهة من قصة حقيقية، كانت بطلتها سيدة سكندرية تعيش فى منطقة السيالة وتعمل فى الخردة، وكان النزاع على فيللا حقيقية تم هدمها بالفعل فى عام 2010.. أى بعد نحو 28 سنة من نبوءة الكاتب فى ملحمته الدرامية التى عرضت للمرة الأولى فى 18 إبريل 1988 على شاشة قناة أبوظبى.

1- البداية

كان المخرج الكبير محمد فاضل.. والكاتب أسامة أنور عكاشة يقيمان فى بناية واحدة، فاضل فى الدور الرابع، بينما يسكن أسامة الدور السادس، ولعل هذا ما أسس لصداقة من نوع خاص علاوة على العشرة والجيرة، لكن كونهما محترفين.. كل فى مجاله.. لم تتدخل الصداقة فى عملهما.. أو كما قال المخرج الكبير محمد فاضل: «وقت الشغل مفيش لا صداقة ولا عشرة.. فى عمل فنى هو صاحبه من البداية.. ويكون لنا وجهتا نظر.. قد تتفق أو تختلف.. المهم أن نلتقى وأن يقنع أحدنا الآخر.. وغالبا إن حدث أى خلاف فى وجهات النظر يحدث فى البداية أثناء القراءة والتحضير والمناقشة.. وفى مسلسل الراية البيضا لم يكن هناك أى خلاف، فأسامة كان معتادا أن يكتب فكرة فى صفحتين أو ثلاث.. لم يكن يكتب معالجات درامية بشكلها المعتاد.. ثم يبدأ فى كتابة الحلقات.. ويقدمها لى للقراءة والمناقشة».

وما إن انتهى أسامة من كتابة عدد من الحلقات.. قفزت سناء جميل إلى ذهن المخرج محمد فاضل لتكون هى بطلة الملحمة الدرامية التى يجرى الإعداد لها، والغريب أن ما قفز فى ذهن فاضل.. كان أيضا فى ذهن أسامة.. قد تختلف بعض وجهات النظر فى بعض الأحيان.. لكن عند سناء جميل.. اتفق الطرفان باقتناع تام أن تكون هى بطلة رواية فاضل وعكاشة الجديدة.

كيف جاءت سناء جميل فى مخيلة فاضل وأسامة وهى السيدة المثقفة التى لم تلعب أبدا دور المعلمة؟.. السؤال لنا.. والإجابة للمخرج الكبير: «هذا دور المخرج فهو يرى ما لا يراه الآخرون.. الترشيح أدهش الجميع بمن فيهم سناء جميل شخصيا.. كانت متخوفة من لعب دور المعلمة».

2- فضة المعداوى

هذا ما قاله فاضل.. أما ما قالته سناء جميل بنفسها عن هذا العمل العظيم فى حوار لها مع المذيعة الكبيرة نهال كمال فى برنامج بعنوان لسه فاكر: «ساعة لما قريت المسلسل لقيته قد كده عمل عظيم وموضوعى ومهم.. لكن رفضت المشاركة.. مش لأنه سيئ.. بل على العكس.. كان عملا عظيما وكانت عينى فيه.. وقلت لمحمد فاضل ما أنت عندك 100 واحدة تقدر تعمل الدور ده إشمعنى أنا.. قال لى أنا عايزك أنت بالذات يا سناء».

خوف سناء جميل من المشاركة فى بطولة المسلسل يرجع لأنها لم تقدم دور المعلمة طوال تاريخها الفنى.. غير أن الشخصية مليئة بالتفاصيل.. لكن خوفها تبدد أمام إصرار مخرج صاحب روائع عديدة مثل محمد فاضل ومؤلف فذ مثل أسامة أنور عكاشة الذى قال لها بحسب روايتها « الدور مكتوب لسناء جميل.. ومفيش فنانة بديلة تقدر تعمله».. وعلى ذلك وافقت سناء جميل أخيرا على بطولة المسلسل الراقى.. وبعد موافقتها.. كان لها مهام أخرى.

سناء جميل سافرت إلى الإسكندرية ونزلت فى منطقة بحرى بالقرب من حلقة السمك وقابلت بعض السيدات.. قالت لهن إنها بصدد لعب دور عن معلمة سكندرية.. صاحبة حلقة سمك.. ووجدت بعض النساء يضعن «سنة ذهبية» فقررت أن تستغلها كإكسسوار.. علاوة على ما تعلمته منهن من طريقة النطق والحركة.

غير أنها شرعت فى تفصيل ملابس الشخصية وتحضيرها من الألف إلى الياء.. وردت سناء جميل بانفعال على سؤال المذيعة الكبيرة نهال كمال عندما قالت لها: هل طلبت عمل إضافات للشخصية فقالت: «أنا أضيف.. عمرى حتى ما أضفت (حرف واو) فى كلام كاتبه المؤلف.. عيب.. مش أن اللى اعمل كده».

3- مفيد أبوالغار

بعد موافقة الفنانة الكبيرة على لعب دور «فضة المعداوى»، بات هناك مهمة أخرى مع فنان كبير يلعب دور البطولة أمامها، واتفق محمد فاضل وأسامة أنور عكاشة على أن أفضل من يقدم دور السفير مفيد أبو الغار.. هو الفنان محمود مرسى.. وكان لمحمود مرسى وفاضل وأسامة نجاحات كبيرة حققوها فى عامى 1986 بالجزء الأول من مسلسل «أبو العلا البشرى»، وسنة 1987 بمسلسل «عصفور النار»، لكن فى عام 1988 رفض محمود مرسى مشاركة فاضل وأسامة أنور عكاشة مشروعهما الثالث على التوالى.

المخرج الكبير محمد فاضل يروى حكاية ترشيح محمود مرسي: «عرضنا عليه أن يلعب دور البطولة.. واستلم حلقات المسلسل كاملة.. وبعد قراءتها جلسنا سويا ليخبرنا برفضه المشاركة فى العمل.. والسبب كما قال إن قصة العمل بطولة فضة المعداوى وليس مفيد أبوالغار.. صحيح أن دور السفير جيد جدا لكنه لم يرضه كونه شعر أنه سيكون بطلا ثانيا وليس بطلا أول.. وعلى ذلك طلبت من محمود مرسى رأيه فيمن يستطيع تقديم هذه الشخصية فقال جميل راتب هيكون حلو قوى فى الدور ده.

معنى ذلك أن الفنان القدير الراحل محمود مرسى هو الذى رشح الفنان الكبير جميل راتب لتقديم الدور.. لكن فى تسجيل تليفزيونى يرجع لعام 1989 قال الفنان كمال الشناوى أن أفضل الأعمال التى تم تقديمها عام 1988 هو مسلسل الراية البيضا.. مؤكدا أن المخرج محمد فاضل عرض عليه تقديم شخصية مفيد أبوالغار.. لكن كمال الشناوى كان مرتبطا بأعمال منعته عن المشاركة فى المسلسل.. وعندما سألت المخرج الكبير محمد فاضل عن هذه الواقعة قال: «محصلش.. وكما قلت لك أن الترشيح الأول كان للفنان محمود مرسى.. وهو الذى اقترح علينا ترشيح جميل راتب.. لكن لم يعرض أحدنا على كمال الشناوى لعب بطولة المسلسل».

4- أمل صبور

كان المخرج محمد فاضل والمؤلف أسامة أنور عكاشة يرغبان فى أن تلعب الفنانة الكبيرة يسرا دور «أمل صبور» ضمن أحداث المسلسل، وبالفعل تم اتصال بيسرا وإرسال نسخة من السيناريو لها.. وبعد أيام قليلة ردت يسرا بالموافقة على المشاركة فى بطولة المسلسل.. وتم تحديد مواعيد البروفات التى حضرتها يسرا لمدة شهر كامل.. وقبل السفر بأسابيع قليلة قررت الاعتذار عن المشاركة فى بطولة المسلسل بسبب تصوير شهر كامل فى دولة الأردن وقالت للمخرج محمد فاضل: «مقدرش أغيب شهرا كاملا عن مصر».

المؤكد أن يسرا لم تكذب ولا حتى تتجمل فهى بالفعل كان من الصعب أن تطير إلى عمان وتغيب عن القاهرة شهرا كاملا خاصة أنها فى الفترة من 1987 إلى 1988 قدمت 10 أفلام سينمائية هى «موعد مع القدر، لعدم كفاية الأدلة، عصفور له أنياب، سكة الندامة، بستان الدم،اللعيبة، التعويذة، نشاطركم الأفراح، صرخة ندم، وامرأة للأسف».. علاوة على مشاركتها فى الجزء الأول من مسلسل «رأفت الهجان» لذا كان من المستحيل ابتعادها عن مصر طوال شهر كامل.

المخرج الكبير محمد فاضل قرر بعد اعتذار يسرا الاستعانة بالفنانة الكبيرة سمية الألفى للعب دور أمل صبور، ولم تكن يسرا هى المعتذرة الوحيدة.. فقد تم ترشيح الفنان الكبير جورج سيدهم للعب دور «مطاوع» لكنه أيضا رفض فكرة السفر لمدة شهر كامل كونه كان له ارتباطات مسرحية.. ويعرض يوميا على خشبة المسرح.. وعلى الفور تمت الاستعانة بالفنان محمود الحدينى لتقديم الشخصية.

5- فاضل وسناء جميل

سافرت أسرة المسلسل بالفعل إلى الأردن لتصوير مشاهد المسلسل، وأثناء التصوير حدثت مواقف كثيرة تستحق التسجيل، البداية مع موقف فنجان القهوة الذى كان من المفترض أن تشربه المعلمة فضة المعداوى أثناء التصوير.. ارتشفت سناء جميل رشفة.. لكنها كانت بلا أى صوت، فسناء هانم جميل سيدة مثقفة ولا يجوز أن يكون لرشفتها أى صوت.. لكن فضة المعداوى يجب أن يكون لرشفتها صوت مرتفع.. هكذا طلب منها المخرج محمد فاضل.

وبالفعل نفذت سناء جميل المطلوب منها وارتشفت رشفة كبيرة بصوت مرتفع.. وكان فنجان القهوة بـ«وش» فوقفت حبيبات البن فى حنجرتها.. ودخلت فى نوبة سعال لم تتوقف.. وما إن توقفت لاحظ الجميع أن وجه سناء جميل أصبح أزرق من كثرة السعال.. ولم تهدأ ويعود وجهها لطبيعته إلا بعد مرور ساعتين على الأقل.. المؤكد أن الموقف أضحك سناء جميل.. لكن بعد نهاية التصوير فكلما تذكرته تضحك.. ومثلما كان هناك ما يضحكها.. كان هناك أيضا ما يبكيها.

بكت سناء جميل أكثر من مرة أثناء تصوير أحد المشاهد.. وهو مشهد «كانت شايلة همه» من وقت قراءة السيناريو.. عندما يتقدم «النونو» الذى قدم شخصيته ببراعة سيد زيان إليها لخطبة ابنتها «سمحة» التى لعبت دورها الفنانة وفاء مكى.. فما كان منها إلا أن ضربته ضربا مبرحا.. وأمسكته من أذنه وركعته أسفل قدميها قائلة: «أنت خدام وسمحة دى ستك»، بكت سناء جميل لأنها لم تكن أبدا تتصور أن تجعل إنسانا آخر يركع تحت قدميها حتى ولو على سبيل التمثيل.. لكنها كممثلة محترفة قدمت المشهد لكن بعد أن توقف التصوير 6 مرات.. وبعد نهاية المشهد بكت سناء جميل بحرقة واعتذرت لسيد زيان.

المخرج الكبير محمد فاضل روى لنا واقعة طريفة حدثت بينه وبين الفنانة سناء جميل.. أثناء تصوير مشهد عيد الميلاد.. كان من المفترض أن تأكل قطعة الجاتوه بيديها وهو الأمر الذى لم يكن من الصعب إقناعها به.. كونه أقنعها من قبل بأن تأكل السمك والأرز بكلتا يديها.. لكن فى مشهد الجاتوه رفضت سناء تنفيذ ملحوظة محمد فاضل «من الطبيعى أن معلمة كفضة المعداوى تأكل الجاتوه بيدها.. لكن بعد أن تأكلها سيبقى فى أصابعها بعض البقايا.. فطلبت منها أن تحشر البقية الباقية من القطعة فى فمها ثم تقوم بلعق ما تبقى من الجاتوه من أصابعها.. عندما قلت لها ذلك قعدت «ترطن» بالفرنساوى ثم قالت إزاى أنا أعمل كده.. وبعد مرور بعض الوقت وافقت على تنفيذ الملحوظة.

6- ماذا حدث لك يا سناء هانم؟

أثناء تصوير مسلسل «الراية البيضا» فى الأردن اتصلت سناء جميل بوزير الضفة الغربية بالأردن وكان يدعى «مروان بك» وكانت تجمعهما علاقة أسرية حيث كان صديقا لزوجها الكاتب الكبير لويس جريس، وكانت سناء تحب زوجته فاطمة حبا شديدا وكانت الزوجة طباخة ماهرة، فطلبت منها سناء إعداد صنف معين من الطعام.. وتقابلا بالفعل.. لكن «مروان بك» أصر على إقامة مأدبة غداء لأسرة العمل بالكامل فى أحد الأحياء التاريخية بالأردن.

وبالفعل ذهب وفد من المسلسل لمأدبة الغداء واستقبل مروان بك الحضور على رأسهم سناء هانم التى وجد أنها لم تعد سناء هانم التى يعرفها.. وجد أنها تتحدث بسوقية شديدة وتشيح بيدها بعنف.. تعجب الرجل وأسرها فى نفسه.. لكنه فى اليوم التالى اتصل بسناء جميل هاتفيا وقال لها: «ماذا حدث لك يا سناء هانم؟.. اللغة واللهجة والتشويح».. فحكت له أنها تلعب شخصية مفادها ذلك فضحك وقال لها من الجيد أن تتخلصى منها فور انتهاء التصوير!.

7- أزمة مشهد النهاية

فى المشهد الأخير من مسلسل «الراية البيضا» يجلس فريق السفير المتقاعد مفيد أبوالغار أمام البلدوزر لوقف قرار هدم الفيللا.. وهو المشهد الذى استلزم الحصول على تصاريح بالتصوير.. لكن التصريح صدر عن مديرية أمن الإسكندرية بإغلاق جزئى للكورنيش.. لكن المخرج الكبير محمد فاضل قال إن الأفضل أن يكون الإغلاق للكورنيش كليا.. وهو الأمر الذى رفضته.

ونزلت قوة من الشرطة لمرافقة فريق العمل أثناء تصوير المشهد.. وكان الضابط الذى يقود القوة محبا للفن ومتفهما لأبعاد الدراما.. فقرر إغلاق الطريق كليا بالفعل لمدة ساعة كاملة.. كان المخرج محمد فاضل قد انتهى خلالها من تصوير المشهد لأنه كان قد تم تحضيره وتقطيعه قبل التصوير.. لينتهى العمل الذى جاءت أحداثه فى 16 حلقة بعد المونتاج بمشهد عظيم لمؤلف عظيم.. ومخرج أعظم.