مستشار شيخ الأزهر السابق يكشف واقع الأمة الإسلامية.. ويضع الحلول لعودة مسارها الحضاري
كشف الدكتور محمد محمد مهنا الأستاذ بجامعة الأزهر، ومستشار شيخ الأزهر السابق ورئيس مجلس أمناء البيت المحمدي، عن واقع ما تعيشه الأمة الإسلامية في ذكرى احتفالها بالعام الهجري الجديد واضعا الحلول للعودة إلى مسارها الطبيعي فأوضح مهنا أن أكثر المسلمين لا يكادون يذكرون التاريخ الهجري، ولا يدرون أي أعوامه يعيشون، فضلًا عن شهوره أو أيامه، في الوقت الذي نحيي فيه تاريخ غيرنا، قديمه وحديثه، حقه وباطله، صراعاته ومؤامراته، أنظمته وسياساته، لحظة بلحظة ويومًا بيوم وشهرًا بشهر وعامًا بعام وقرنًا بقرن وألفا بألف، فالحقيقة التى لا يستطيع أن يماري فيها أحد أن التاريخ الإسلامي قد توقف عن سيره الطبيعي، وانحرفت الأمة عن مسارها الحضاري، وتخلت عن رسالتها السماوية، وتغربت عن أصولها الحضارية، وتناءت عن تراثها الأصيل، وباتت تعيش منذ قرون وهي تتنفس هواء الآخرين وتنظر بعيون الآخرين وتسمع بآذان الآخرين وتتكلم بلسان الآخرين وتفكر بعقول الآخرين، وتحيا بقلوب الآخرين، ويالها من غربة!.
وأشار مهنا، عبر صفحته الشخصية على موقع التواصل الاجتماعي "فيس بوك"، إلى أن سر الهجرة النبوية يكمن في تأسيس دولة الإسلام، وحضارة الإسلام وأمة الإسلام، لقد بدأ التاريخ الإسلامي سيره، يوم أن دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ليقيم أول دولة من نوعها في التاريخ، فتشرق شموسها على الأكوان، وتنحسر بها جحافل الظلام وتنهزم بقوة الحق بها جيوش الباطل، وتتقهقر جحافل الشر على كثرة عددها وعتادها أمام حقائق الإيمان، ويدخل الناس فى دين الله أفواجًا، وتشرق أنوار التوحيد على البشرية جمعاء، ويعم الخير والعدل والبركة فى كل مكان، وتسمو الإنسانية إلى علياء السماء.
وأضاف مهنا أنه لم يكن أساس البناء في هذه الدولة الجديدة شيئًا آخر غير الإنسان، غير الفرد المؤمن الصالح المؤثر لآخرته على دنياه، المستعلي بروحه على سلطان المادة وبريق الفناء، المؤمن بأن الدنيا خلقت له ولم يُخلق هو إلا لله، وإنها سُخرت له ولم يستعبد هو لغير مولاه، فكان راضيًا على كل حال، فإن كان فقيرًا فهو الفقير القانع، وإن كان غنيًا فهو الغني الشاكر لمولاه، وإن كان تاجرًا فهو التاجر الأمين المتوكل على مولاه، وإن كان سيدًا فهو الرفيق المتواضع في جميع الأحوال، وإن كان عاملًا فهو العامل المخلص المجد، وإن كان صاحب عمل فهو الرفيق السخي الكريم، وإن كان أجيرًا فهو القوي الأمين، وإن كان قاضيًا فهو القاضي العادل الخائف الوجل من قضاء قاضي القضاة، وإن كان وزيرًا فهو الوزير الناصح المخلص، وإن كان رئيسًا فهو التقي النقي الخادم البر الأمين الرحيم، الصادق لقومه، فالرائد لا يكذب أهله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
واستكمل مهنا هكذا كان تأسيس مجتمع المدينة المنورة، فالمجتمع فرد مكرر على حد تعبير الإمام محمد زكي إبراهيم إن صلح الفرد صلح المجتمع وإن صلح المجتمع صلحت الأمة، وبصلاح الأمة تصلح الدولة، وبصلاح الدولة يصلح العالم كله، فقد انتقل مع هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المجتمع الجديد قناعة الفقير، وسخاء الغني، وصدق التاجر، وتواضع السيد، واخلاص العامل، ورفق صاحب العمل، وأمانة الأجير، وعدل القاضي، ونصح الوزير وتقى الرئيس، فالمجتمع المسلم مجتمع يحكمه الحب والتعاطف، ولبناته الصدق والإخلاص والتقى والخشية، والرضا والتسليم، والصفاء والوفاء، والتزكية والتصفية، والإخاء والإثار، والأمانة والتعفف، والجد والإجتهاد، والنصح والمواساة، والسخاء والكرم، والعدل والحكمة، والتواضع والرحمة والقناعة والرضا.
وكشف مهنا قائلا:لقد أصبحنا أمام مجتمعات لا يؤمن أفرادها إلا بالمادة والقوة، ولا يعنون إلا بإرضاء الذات والغرائز والشهوات، ولا يرون إلا الحياة الدنيا غاية وهدف، لقد أصبح الفرد في عصورنا الحديثة مصدرًا لشقاء المجتمع، فإذا كان تاجرًا فهو التاجر المحتكر النهم المطفف الذي لا أمانة له ولا ذمة، بضاعته الخيانة والغش والتدليس والاحتكار، وإذا كان فقيرًا فهو الفقير الحسود الحقود الثائر الطماع، وإن كان غنيًا فهو الغني الشحيح الحريص المستغل القاسي، وإن كان عاملًا فهو العامل الخامل المراوغ المرائي المتسلق، وإن كان مسئولًا فهو الغاش الناهب للأموال المستغل لسلطانه ومكانه، وإن كان خادمًا أو أجيرًا فهو الضعيف الخائن، وإن كان خازنًا فهو السارق المختلس وبأمثال هؤلاء تكونت المجتمعات الحديثة وتأسست الحكومات المعاصرة، فكانت مجتمعات مادية اجتمع فيها احتكار التاجر، وثورة الفقير، وشح الغني، وخمول العامل، وسرقة الخازن، واجحاف القاضي، وقسوة المنفذ، ورشوة المسئول، فانتكست المجتمعات كما يقول الإمام محمد زكي إبراهيم إلى بهيمية فاجرة مدمرة، لا تتقيد بدين ولاخلق، ولا نظام ولا قانون ولا ضمير، واندفعت عوامل الإلحاد والتحلل والأنانية والنفاق والجبرية والفتك والإرهاب والقسوة والفحش والزندقة والشهوة، تنخر القلوب والعقول وتحكمت في أساليب الفهم والأداء والعمل والمعاملة بين الأفراد والجماعات والشعوب والحكومات حتى لم يبق من المعاني العالية في الإنسان والمجتمع شىء يبشر بخير أو هداية إلا من وما عصم الله.
وانحدرت الحيوانية المستكلبة بالخلق حتى جعلوا الحق للقوة، فجعل الله بأسهم بينهم شديد، وفرقتهم في أهلهم وأممهم شبعًا مسعورة في مذاهب الدين والأخلاق والسياسة والاجتماع وغيرها، وأذاق بعضهم بأس بعض، حتى لا ترى إلا فتنة خبيثة، وهم ربما قد شرعوا للفتنة فجعلوها قانونًا ومذهبًا "فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ ۖ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا" (سورة مريم آيه 59).
وهكذا تغربت الأمة عن أصولها وتراثها وحضارتها، وفقدت ذاكرتها، وعاشت ممسوخة تحيا بحياة غيرها.
ووضع مهنا الحلول موضحا: تلك هي المعاني التى تراءت لى فى مناسبة العام الهجري الجديد، من أجل ذلك؛ فلا خلاص إلا بالعودة إلى الروحانية الإسلامية "..كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ" [آل عمران: 79].
فليس الإنسانية هي هذه الصور التافهة التالفة الفانية، إنما هي حقائق فوق عقول الغفاة، هي السر الإلهي الذي سخر الله له الأكوان والعوالم، هي الأرواح الصافية النقية، وآثارها الطبيعية في عالم الخير والجمال والرحمة والنور والحب والسلام والتقدم والإنتاج والحكمة والتسامي والإيمان والعلم والمعرفة واليقين
وتلك هي دعوة العشيرة المحمدية، دعوة البيت المحمدي، دعوة التصوف الراشد، ولا بد أن تكون قضية كل فرد فى هذه الأمة دون استثناء وكل الناس وكل الأجهزة والهيئات والحكومات "... وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ... " [الطلاق: 1] "... إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ" [الرعد: 11].